الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية الشاذلي القليبي تجاوز التسعين من عمره (من مواليد 6 أيلول/ سبتمبر 1925)، ولا يزال يحتفظ بذاكرة دقيقة، خصوصاً عن لقائه زعماء عرباً وأجانب. تولى الأمانة العامة للجامعة عام 1979 في فترة خلافات عربية- عربية أعقبت معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، فانتقل مقر الأمانة العامة إلى تونس، وهناك عمل القليبي على إعادة تنشيطها محاطاً بفريق عمل يتميز بالعلم والخبرة، ضم أسماء، من بينها: عدنان عمران وحمادي الصيد وأسعد الأسعد والأخضر الإبراهيمي وكلوفيس مقصود والمنجي الفقيه. التقينا الشاذلي القليبي في منزله في تونس، فبدأ الكلام على التطرف الذي يوزّع العنف في عالمنا العربي والإسلامي، قال «إن الإسلام نهى عن الغلوّ في العبادات والتخلي عن المكارم، وجاء الدّين الإسلامي الحنيف موصياً باعتبار الحياة الدنيوية كأنّها باقية أبداً، فيما أن الغيب كأنّه سيحِلّ غداً، وبذلك نقيم التوازن بين الحضارة والعبادة. لقد نسينا التراث الأصيل وانحصرنا في الغلوّ في العبادات التي لا تكفي وحدها وقد قال الرّسول عليه الصلاة والسّلام: «جئت لأتمم مكارم الأخلاق». ومن عوامل تفوّق الإسلام أنّه أسّس لحضارة جديدة. وقد سجّل المؤرّخون بأنّه في ظرف وجيز أنشأ الإسلام حضارة عجيبة انتمت إليها شعوب كثيرة». وعزا القليبي الفرقة في الصفّ العربي إلى «أنّ دولنا اعتمدت فقط العوامل السياسية في علاقاتها البينيّة وهي تفرّق وقلّما تقرّب بين الدّول. ما يمكن أن يُعتمد هو العمل الحضاري وإحياء الأركان المغمورة لحضارتنا حتى لا تكون مضطرّة إلى الاقتباس الذي يدخل علينا الارتباك. ونحن إذا عدنا إلى التأمّل في أصول حضارتنا العربيّة الإسلامية، نكتشف أنّها لا تناقض الحداثة في شيء جوهريّ. من ذلك مثلاً واجب إعمال العقل، والاجتهاد، وهو الذي يؤسّس للتعدّديّة، ويحضّ على إيجاد صيغ تطبيق مبادئ الشّورى وتطويرها وفق مرور الزّمان وتغيّر الأوضاع. وأيضاً واجب التضامن، داخل كلّ شعب وبين الشّعوب الإسلامية. والتّضامن يكون أيضاً من خلال الثقافة والتعليم والبحث العلمي والتجارة والاقتصاد، فالعوامل السياسية التي اقتصرت عليها دولنا هي مهمّة لا محالة، بينما تبقى العوامل الحضارية هي الأسس. والوحدة ليست وحدة زعامة سياسيّة وإنما هي وحدة العمل الميداني ووحدة الوسائل والقدرات». زعماء هؤلاء عرفتهم وتحدث عن زعماء عرفهم، فتناول الراحل الملك فيصل بن عبدالعزيز، قائلاً: «لم أقابله شخصيّاً على انفراد عندما جاء إلى تونس في زيارة رسميّة إذ حضرت بعض المقابلات، واستمعت إليه في خطابه أمام مجلس الأمّة آنذاك. ولكني حظيت بمقابلته في المملكة العربيّة السعودية، إذ استقبلني في جدّة بعد زيارته تونس بأشهر. بدأت الحديث معه إذّاك بالقول: «إنكم حقّقتم يا جلالة الملك إنجازاً عظيماً ألا وهو إنشاء أوّل مدرسة لتعليم البنات. ولو حصل ذلك في بلد آخر في المنطقة لسُلِّطت عليه الأضواء». فكان جوابه حكيماً: «بارك اللّه فيك لأنّك أتحت لي الفرصة للحديث عن أمر هامّ. ذلك أني لو أحطت الأمر بدعاية كبيرة لكان في ذلك استفزاز لمعارضي المشروع وإعطاء الفرصة للتصدي له». تلك عيّنة من حكمته، إذ كانت لجلالته دوماً استراتيجيّة في أعماله وقراراته. وكان مفكّراً. وقد ورث عنه ابنه سموّ الأمير سعود الفيصل هذه الخصال، وكان من أكثر وزراء الخارجية العرب تألّقاً، لا وسامة فقط، وإنما أيضاً رجاحة عقل وفصاحة لسان». ورأى أن الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد «صاحب نظرة شمولية لتاريخ الأمّة، لأنه يعرفه بدقّة ويتابع ما ينشر عن الحضارة العربية، ويعتبر أنّ العرب لن تقوم لهم قائمة إذا لم تجتمع كلمتهم وتتوحّد جهودهم. كنت أجلس معه لساعات طوال تمتدّ إلى ساعتين أو ثلاث، وآخر لقاء دام أربع ساعات، ولا يُملّ حديثه». وعن الراحلين الملك حسين والملك الحسن الثاني: «لهما مستوى عالٍ. الملك حسين بثقافته الانكليزية والملك الحسن الثاني بثقافته الفرنسية. كنا نتحادث بعمق ونحلّل القضايا بإمعان وكنّا على اتّفاق في الرؤى والمواقف. الملك الحسن الثاني، زار تونس وهو وليّ عهد لوالده محمّد الخامس. وكنت آنذاك وزيراً للثّقافة، فكلّفني الرئيس بورڤيبة بمرافقته. فقضيت معه ثلاثة أيّام تعرّفت خلالها على ملامح شخصيّته. وكان قد فاجأني وهو يزور جامع الزيتونة، عندما استقبله فضيلة الشيخ ابن عاشور بحفاوته الفائقة وإلقائه كلمة ترحيبيّة بفصاحته المعهودة. ظننتُ أن الأمير الشاب سيكتفي بكلمات بروتوكولية مقتضبة، ولكنّنا فوجئنا به خطيباً مفوّهاً. ومنذ ذلك الوقت، نشأت بيننا علاقة قويّة. ولمّا رُشّحت لمنصب الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، أوفد الرئيس بورقيبة الأستاذ فؤاد المبزّع إلى المغرب لطلب تأييد الملك الحسن الثاني، فجاء جوابه مؤثّراً: «هذا ليس مرشّحكم وحدكم، هو مرشّح المغرب أيضاً». وروى القليبي ظروف الخلاف الشهير بين الرئيس جمال عبدالناصر والحبيب بورقيبة: «الخلاف بين عبدالناصر وبورقيبة مسكوت عنه لفترة طويلة. وكان بورقيبة مستاء من خطب عبدالناصر، التي يخاطب فيها الشّعوب العربيّة من فوق رؤوس قادتها. ولمّا استجاب دعوته لزيارة مصر، حرص عبدالناصر على إحاطته بكلّ مظاهر الحفاوة، لاسترضائه وجلبه إلى صفّه. وعقدا بهذه المناسبة لقاءً مغلقاً لم أحضره، لكن بورقيبة روى لي فيما بعد تفاصيله. قال بورقيبة: إسرائيل تستمدّ قوّتها ليس فقط من شعبها ولكن من كلّ العالم، أوروبّا وأميركا وحتى الاتّحاد السوفياتي الذي صوّت لمصلحتها فكيف يمكن أن نتغلّب عليها. من الضّروري أن نجد طريقة أخرى؟ أجاب عبدالنّاصر: هذا صحيح، ولكن من يقدر على مصارحة شعوبنا بهذه الحقائق، فهي لن تفهم هذا الرأي؟ قال بورقيبة: إذا أكدّت لي بأنّك لن تفتح عليّ أبواق الإعلام المصري، فإنّني على استعداد لإطلاق هذه الحقائق. وعندها تبسّم عبدالناصر ولم يردّ لا بالإيجاب ولا بالنّفي، وبعد المقابلة جاء السفير التونسي السّيد محمّد بدرة ليسرّ إليه بأنّ عبدالناصر يدعوه لقطع العلاقات الديبلوماسية مع ألمانيا الاتحادية بسبب مساندتها إسرائيل. فاستغرب بورقيبة الأمر وأجابه: «طيلة ثلاثة أيام كنت معه ولم يذكر لي الموضوع. كان يمكن أن نتناقش في الأمر ونجد حلاً، هل يحسبني والياً عنده حتّى أتلقّى منه الأوامر. إجابتي له هي لا طبعاً. الآذان السّامعة التقطت هذا الحديث، ونقلته إلى عبدالناصر مباشرة، ومن وقتها تعكّرت الأجواء. وواصل بورقيبة ما رواه لي: انتقلت إلى الأردن والتقيت في أريحا بأهلها الفلسطينيين الذين خصّوني بحفاوة كبيرة مؤكّدين لي ثقتهم فيّ وقائلين لي بالحرف الواحد «أنت القادر على إيجاد الحلّ»، فتأثّرت كثيراً وصارحتهم بفكرتي. عبدالناصر اغتنم هذه الفرصة وأطلق العنان لأبواق الدعاية ضدّي وحصل ما حصل». وعن الرئيس العراقي صدام حسين: «لا أجيب مباشرة، لكنّي أنقل رأي بورقيبة وأنا أشاطره في ذلك. صدام حسين وآخرون ليس لهم تكوين ثقافي وفكري. والسياسة من دون هذا التكوين لا تنفع. إذاً لا يمكن لمن يأتي فقط من صفّ الكفاح الوطني، أو من حزب عقائدي، قيادة الأمّة واستشراف المستقبل. صدّام حسين ارتكب أخطاء قاتلة أوّلها دخوله في حرب مع إيران التي كانت في أوج ثورتها، والكلّ يعلم أنّه لا تشنّ الحروب ضدّ الثورات. هذه الحرب دامت ثماني سنوات ولم تخرج منها العراق إلا بإعانة الدول العربية، خصوصاً الكويت، ودعمها. فكيف كافأ صدّام الكويت؟ باجتياح بلاد الشّيخ جابر أمير البلاد والشّيخ صباح الأحمد وزير الخارجيّة اللذين كانا من أكبر المدافعين عنه في حربه ضدّ إيران، فوجدا نفسيهما ضحاياه. لم يدرك صدّام أنّ الكويت لا يمكن مسّها بسوء ولا يمكن للعالم والدول الكبرى أن تقف مكتوفة الأيدي أمام اجتياحه لها». وعن الرئيس الليبي الراحل معمّر القذّافي: «لقائي الأول بمعمّر القذّافي كان في بداية ثورة الفاتح، كنت وقتها في زيارة لليبيا وأنا وزير للثقافة. ودعاني زميلي لمقابلة العقيد. خرجنا بالسّيارة من العاصمة إلى أن وصلنا إلى ربوة نُصبت فوقها خيمة كبيرة حيث كان ينتظرنا. كان آنذاك شاباً، وخصّني باستقبال حارّ، وبادرني بقوله «إنا أعرفك إذ كنت استمع إلى خطبك في الإذاعة التّونسيّة، معجباً بما تقوله». ثمّ قابلته وأنا أمين عام لجامعة الدول العربية، فوجدت أن الرّجل تغيّر. الشّاب الذي لم يكن واثقاً من نفسه أصبح على عنجهيّة وخيلاء. آخر لقاء لي به كان بعد تحرير الكويت في اجتماع على هامش القمّة العربية في القاهرة، ضمّ عدداً من الرؤساء العرب وتحدّث العديدون، ولكنّ القذّافي اكتفى بالصّمت إلى أن رفع الرئيس حسني مبارك الجلسة. وبينما كنت أغادر القاعة وجدت القذّافي ينتظرني خارجها ليقول لي أمام الملأ: «لماذا لم تعطني الكلمة لقد طلبتها منك وبقيت أنتظر». طبعاً فهمت مقصده لكنّي انصرفت إلى غرفتي. وبعد مدّة قليلة، جاء وفد من وزرائه يطلب مقابلتي قائلاً: نطلب الاعتذار لأنّ العقيد كان منفعلاً ولم يقصد الإساءة. طبعاً فهمت أنّ القمّة كانت سائرة إلى تقسيم الصف العربي بين مؤيد لموقف مصر ومعارض، وفوجئت بأنّه حتّى الرئيس السوري حافظ الأسد قد ساند مصر وكأنّه دفع بذلك ثمن النّجاة من ردّ فعل الولاياتالمتحدة. إذ قد يكون حصل على معلومات مفادها أن الرئيس بوش يتأهّب للهجوم على سورية. بعد استقالتي من الأمانة العامة لجامعة الدول العربية تلقيت دعوات عدة لزيارة ليبيا ولكني اعتذرت عن تلبيتها». ميشال عفلق وتذكّر الشاذلي القليبي دراسته في باريس وتحوّله من الطب إلى الفلسفة بناء لنصيحة أستاذه محمود المسعدي. وتابع: «شرعت بعد عودتي من باريس في التّدريس بدار المعلّمين العليا، ودعاني ذات يوم الأستاذ لامين الشابي وزير المعارف ليعْلِمني بانعقاد مؤتمر هام في بيروت حول قضايا سوسيولوجيّة تهمّ البلاد العربيّة، قائلاً إنّه يودّ تعييني لتمثيل تونس في هذه التظاهرة. وفعلاً ذهبت إلى بيروت وشاركتُ في المؤتمر، وهناك ودَدْتُ الذّهاب إلى دمشق، لأنّني كنت تعرّفت وأنا طالب في باريس على أصدقاء سوريّين كثيراً ما حدّثوني عن الثّورة السّوريّة وزعيمهم الفكري ميشال عفلق، وأحببتُ أن أتعرّف على البلد وقيادته عن كثب. وعند وصولي إلى دمشق، رحّب بي الأستاذ يوسف الرويسي ودعاني إلى العشاء، وكانت فرصة للقاء ميشال عفلق. كان الحديث شيّقاً وكنت منتبهاً لما يدور من تحاليل وتعاليق وفجأة توجّه إليّ ميشال عفلق سائلاً: «ماذا تقول لنا عن الخائن بورقيبة؟» ولمّا كنت أتهيّأ للإجابة، أخذ الكلمة محمّد صديق شنشل من العراق وانبرى يقول: «تقول عن بورقيبة خائن، فماذا تقول عن نوري السّعيد، فانعطف الحديث للخوض في العراق ونوري السّعيد. وعندما عدت إلى تونس رويتُ الواقعة بكلّ تفاصيلها، ويبدو أنّ ذلك لفت انتباه بورقيبة فدعاني لمقابلته وبعد مدّة كلفني بإدارة الإذاعة التّونسيّة، فأجبته شاكراً لثقته، لكنّني اعتذرت عن قبول التّكليف لانغماسي في إعداد أطروحة الدكتوراه، فاستبعد بورقيبة اعتذاري قائلاً: «لا! لازم تخدم بلادك!» مضيفاً كلمة سمعتها للمرة الأولى: «الأهمّ قبل المهمّ، المطلوب منك أن تُمسك بزمام الإذاعة وتُنظّمها لتتولّى الدّفاع عن تونس ومواجهة الأبواق المفتوحة ضدّها، وأنا أكلّفك بهذه المهمّة». ينكبّ الشاذلي القليبي حاليّاً على وضع اللّمسات الأخيرة على كتاب جديد اختار له عنواناً «مظاهر من مجتمعاتنا»، يتناول فيه المشاكل التي تواجه المجتمعات العربيّة الإسلاميّة، ويخلص في تحليله إلى 1نّها تعود جميعاً إلى خلل حضاريّ ظهر في عهود الانحطاط والتخلّف. إذ تناست مجتمعاتنا 1نّ الإسلام دين وحضارة، فاقتصرت على العبادات وألغت الكثير ممّا سمّاه الأصفهاني «مكارم الإسلام»، وهي ما نسمّيه اليوم «القيم».