نسي العراقيون في ايام "البحبوحة" الاقتصادية علاقتهم بالنهر، وبالكاد ظلت المدن والقرى تتخذ اشكالها العمرانية انطلاقاً من وجود نهري دجلة والفرات، فيما النشاط الاجتماعي ظل يتضاءل شيئاً فشيئاً على جانبي النهر في اي مدينة عراقية. عدا النشاط الترفيهي المقام على وجود عدد كبير من المطاعم والحانات والحدائق العامة على ضفاف دجلة في بغداد شارع ابو نؤاس الشهير قبل ان يفقد جانباً كبيراً من حيويته حين اغلقت الحانات بقرار رسمي قبل تسع سنوات ومدن الموصل في الشمال والبصرة في الجنوب، كذا كان الحال في المدن المطلة على الفرات، وتفرعاته، كمدينة الحلة بابل والناصرية والديوانية والسمارة والكوفة. ظروف الحصار، أنتجت وقائعها الاجتماعية مثلما رسمت وضعاً اقتصادياً جديداً. وأصبح العراقيون يتعاطون مع حياتهم انطلاقاً من حقائق جديدة، فالنهر صار ملاذاً في ايام حرب الخليج الثانية 1991، وموئلاً لحياة شبه متوقفة ايام القصف الذي طاول منشآت تصفية المياه، وعاد العراقيون الى نحو قرن الى الوراء، لتصبح مياه الأنهار موردهم في الشرب والطبخ والتنظيف، ومع قصف الجسور والقناطر، ظهرت الحاجة للزوارق، لعبور الضفاف، فعاد الناس لاكتشاف ملامح مدنهم انطلاقاً من مستوى سطح النهر، فيما كانوا دائماً يتطلعون اليها من فوق. ومع ان كثيراً من مرافق الحياة عادت الى طبيعتها بعد الحرب، إلا ان هاجس الخوف من القنابل، والحذر من المستقبل، لازما الناس وظلت ملامح حياتهم تخضع لمستجدات تقذف بها ايام الحصار ووقائعه. وإذا كان شبان بغداد اكتشفوا نهر مدينتهم بطريقة مغايرة، فإن بعضهم وجد في ضفافه وبالذات ضفة "الرصافة" على جانبي "جسر الشهداء" وتحته، فرصة لاكتساب مال يعينه على تأمين قوته. في ذلك المكان كان اصحاب محلات الذهب في السوق القريبة "شارع النهر" و"سوق الصاغة" ينقلون أتربة محلاتهم وفضلاتها على أمل العودة إليها ذات يوم، لتنقيتها ثانية، وأخذ ما اندفن فيها من ذرات ذهب، يمكن ان تتجمع لتصبح ذات قيمة. وفي عام 1992، اي بعد نحو عامين من الحصار وازدياد العبء المادي على العراقيين والانهيار المتواصل لعملتهم الوطنية، هناك من اكتشف من الشباب الذين عملوا ذات يوم في نقل اتربة الذهب وفضلات محلاته، انهم على ابواب الحصول على مصدر رزق ظل مدفوناً، فاندفع مئات من الشباب البغدادي طوال السنوات الماضية على امتداد ضفة دجلة القريبة من "جسر الشهداء" يخرجون صباحاً حتى الغروب، حاملين وسائل تصفية بدائية، وأدوات غسيل للرمال والأطيان، من اجل ذرات قد لا تكون مضمونة من الذهب، ولكنها ان جاءت فهي تكفي لسد الرمق لأيام طويلة، فالغرام الواحد من الذهب المكتشف بين رمال ضفة "دجلة" يعادل خمسة عشر ألف دينار. وهناك من كان محظوظاً فيعثر على أكثر من غرامين او ثلاث، خلال اليوم الواحد، او لا يعثر على شيء حتى خلال اسبوع او اكثر. وفي مكان ليس بعيداً عن "حمى البحث عن الذهب"، توزع شباب من الذين تركوا الدراسة بحثاً عن عمل، بين عشرات من الزوارق الخشب، عارضين خدمات نقل الركاب بين مناطق من العاصمة العراقية التي لا تبتعد كثيراً عن ضفتي النهر، معولين على ان اسعار النقل في زوارقهم اقل مما هي بالسيارات، فنشطت الزوارق في المسافة ما بين "جسر الأعظمية" وصولاً الى "جسر الجمهورية" في ما تمنع الحركة في "دجلة" ابعد منه، حيث يطل "القصر الجمهوري" على النهر. في الصيف تأخذ العلاقة مع النهر، طابعاً اكثر "براءة"، فهو يغدو المكان الرحيب لممارسة السباحة هرباً من قيظ الحرارة المخيف تبلغ درجة الحرارة في صيف بغداد نحو 50 درجة مئوية، وتغدو الحاجة الى النهر أكثر إلحاحاً مع توقف وسائل التبريد عن العمل بسبب انقطاع التيار الكهربائي، فيهرع الرجال، والشباب منهم على وجه الخصوص الى ضفتي النهر، ليطفئوا ما يحيطهم من قيظ. وبحسب هذا النشاط "الترفيهي" فإن عدداً من الكازينوهات والمطاعم بدأ يتشكل على ضفاف النهر، عارضاً خدماته للزبائن الهاربين من القيظ. الاندفاع الجماعي الى النهر في الصيف وقضاء أوقات طويلة في السباحة، انتجا تصاعداً في ارقام ضحايا الغرق صيفاً في دجلة، وكانت شرطة "النجدة النهرية" في بغداد سجلت الصيف الماضي غرق اكثر من مئتي شاب في المنطقة المقابلة للأعظمية وحدها، فيما دعا "مجلس شعب بغداد" السلطات الرسمية الى انشاء "مسابح موقتة" على ضفاف دجلة تخضع للمراقبة والإشراف تقليلاً لعدد ضحايا السباحة: الهواية البريئة الوحيدة الممكن ممارستها على شواطئ دجلة. ليالي الصيف في بغداد ليست أقل قيظاً من نهاراته، فيهرع الناس وبأعداد كبيرة الى المناطق المفتوحة، ومنها ضفاف النهر، حيث انتشرت وبأعداد لافتة خلال السنوات الأخيرة، المقاهي والكازينوهات، وفيها يقضي الشباب اوقاتهم في لعب "الطاولة" و"الدومينو" لا سيما ان التلفزيون ظل في اطاره التقليدي والصارم في لغته والمتجهم في مادته، وظل العراقيون من الشعوب القليلة في العالم التي لا تعرف "البث الفضائي"، لا بل ان من يجرؤ منهم على تشغيل اجهزة التقاط البث التلفزيوني الفضائي يعرض نفسه للسجن من عامين الى ستة اعوام مع فرض غرامة مالية تقدر ضعفي ثمن الجهاز الذي يتعرض للمصادرة ايضاً. هذا الافتقاد لبرامج تسلية واسعة في التلفزيون اعاد الاعتبار الى وسائل التسلية "البريئة" التي تتخذ من المقاهي مراكز لها، كما اخذت صالات الألعاب الإلكترونية و"البلياردو" تستقطب جانباً اكبر من اهتمام الشباب العراقي، موفرة نوعاً من التسلية التي تتحول الى المقامرة احياناً.