يعد د.عصام بخاري أحد أكثر الأكاديميين السعوديين احتكاكا بالثقافة والادارة اليابانية، إذ بجانب إجادته للغة اليابانية يشغل منصب الملحق الثقافي السعودي في اليابان، بالاضافة إلى كونه باحثاً زائراً في قسم إدارة التكنولوجيا للابتكار بجامعة طوكيو. الجامعات مصدر ثورة اليابان الصناعية والعلمية والتقنية وجامعة الملك عبدالله نموذجنا المشرف حاضراً ومستقبلاً "الرياض" حاورت د.بخاري حول دراسة أكاديمية هامة تناول فيها عوامل النجاح والتحديات في التجربة اليابانية في الشراكة المجتمعية بين القطاعات الصناعية والحكومية والجامعية. الحوار تناول نقاط الالتقاء بين تجربة النهوض التي مرت بها اليابان في العهد الإصلاحي للامبراطور ميجى وبين ماتعيشه المملكة الآن من تأسيس لنهضة علمية وتقنية يقودها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، اذ تتقاطع التجربتان في أكثر من ملمح من أهمها الابتعاث وتأسيس الجامعات التقنية، كما تناول الحوار دور التعليم العالي والجامعات في ثورة اليابان الصناعية والعلمية والتقنية وكيفية الإفادة من هذه التجربة في المسيرة التنموية للوطن، وفيما يلي نص الحوار: الابتعاث وصناعة النهضة * ثمة مراحل في التاريخ الياباني شهدت قرارات مصيرية تغير على إثرها مستقبل اليابان، أذكر على سبيل المثال البعثات التعليمية التي سنها الإمبراطور ميجى في عهد النهضة الميجية، كيف أثرت تلك البعثات على مسيرة النهضة في اليابان وكيف ترون تشابه تلك التجربة والنتائج المرجوة منها مع تجربة برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث؟ عاشت اليابان مرحلة انغلاق وانعزال عن العالم مما أدى إلى إحداث فجوة علمية وتقنية كبيرة بينها وبين الغرب وجاءت الصدمة الكبرى عندما حلت البواخر الأمريكية العملاقة بتقنياتها المتطورة سواحل اليابان عام 1853م والتي يطلق عليها في التاريخ الياباني (السفن السوداء)، كانت هذه الأحداث وعوامل أخرى متعددة محفزات لبدء عصر جديد يطلقون عليه في اليابان " عصر نهضة الميجى " والتي تنسب إلى الإمبراطور ميجى الذي حكم في الفترة من 1868 إلى 1912 م ، شهدت هذه الفترة حركة نهوض علمي وتقني وكان من أبرز مظاهرها حركة ابتعاث الطلبة اليابانيين إلى الخارج لنهل العلوم والعودة بها إلى أوطانهم، وقد رصدت حالات لأساتذة جامعات يابانية عادوا من الدراسة من الخارج وطلاب تخرجوا من جامعات اليابان وأسسوا بناء على أبحاثهم شركات تقنية في نهاية القرن التاسع عشر، ويمكن القول بأن مجتمع العلماء والمهندسين في اليابان تمتع بمكانة عالية خاصة لم تلق لها نظير في الغرب في ذلك الوقت. و يشير بعض المختصين إلى أنه في نهاية القرن التاسع عشر كان هنالك عاملون في القطاعات الحكومية والصناعية والجامعية من حملة الشهادات الجامعية في اليابان مما كان شيئاً غير حاصل بكثرة في مناطق العالم الأخرى، ولا شك أن هذه البعثات لعبت دوراً حاسماً في نهضة اليابان، وتشير الدراسات كذلك إلى أهمية الدور الذي لعبه الطلبة المبتعثون والذين عادوا إلى أوطانهم في نهضة بلدان أخرى كذلك مثل كوريا الجنوبية و الصين، فالدارس لتجارب النهضة الحديثة يجد أن برامج الابتعاث كانت قاسما مشتركا في الكثير من تلك التجارب . وعندما نتحدث عن برنامج خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز يحفظه الله للابتعاث الخارجي فنحن نتحدث عن مشروع وطني كبير لبناء مستقبل أمة والاستثمار في غدها وحاضرها ليتناسب مع مكانة ماضيها، وهو مشروع بدأنا نرى بواكير ثمره إلا أن حصاده الحقيقي هو ما سنراه إن شاء الله خلال العشرين والثلاثين سنة القادمة، واكتفي بمقولة أحد مسؤولي الجامعات اليابانية عندما استمع إلى محاضرة عن برنامج الابتعاث والتعليم العالي في المملكة حيث قال:" كم أنتم محظوظون بقائد مثل الملك عبدالله". الابتعاث أهم من الخبير *أيهما أفاد اليابان أكثر، استقطاب الخبير الأجنبي بغرض التدريس أم ابتعاث أبنائها للدراسة في الخارج؟. أحسب أن الإجابة هي أن أكثر ما أفاد اليابان ويفيد أي دولة تنوي التقدم في سباق النهضة بين الأمم هو "الاستثمار في الموارد البشرية الوطنية" هذا هو المفتاح، وما استقطاب الكفاءات الأجنبية وما الابتعاث الخارجي إلا أدوات لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي. ويجب ألا ننسى هنا عاملا آخر وهو ما يلقاه قطاع التعليم العالي والجامعات السعودية كذلك من اهتمام ورعاية بلا حدود تمثل وتجسد رؤية قيادتنا الرشيدة -حفظها الله- للنهوض بهذا الوطن وهذه الأمة إلى القمة، وأود إضافة نقطة أخرى، ألا وهي أن استقطاب الخبير الأجنبي لن يكون ذا فائدة على المدى الطويل ما لم تتوفر كفاءات وطنية قادرة على استيعاب المعارف والخبرات من هذا الخبير الأجنبي لتوطينها ومن ثم ابتكارها محليا،، بكلمة أخرى فاستقطاب الخبير الأجنبي وسيلة لنقل المعارف إلى المواطن وليس غاية في حد ذاته. الجامعات والقطاع الصناعي *في العام 1886 استحدثت أول كلية للهندسة في اليابان وهو ما شجع على الاتجاه للعلوم التطبيقية، إلى أي مدى أثرت تلك الخطوة على اليابان الحديثة؟. تم تأسيس أول كلية هندسة في الجامعات اليابانية الإمبراطورية ذلك العام وكما كانت من المرات الأوائل على مستوى العالم التي تؤسس فيها كليات هندسة داخل الجامعات، والتحق بهذه الكلية الكثير من أبناء الساموراي المحاربين وكان إقبالهم على تلقي المعارف عالياً، وأسهمت الكليات في توجيه التعليم الجامعي إلى العلم التطبيقي وربطه نتيجة لذلك مع القطاع الصناعي الياباني. وبشكل عام يمكن القول إن الظروف التي عاصرت نهضة الميجى ورغبة اليابان في اللحاق بركب الدول الغربية المتقدمة للنهوض بالبلاد من ناحية وحمايتها علميا وتقنياً من أي استعمار أجنبي مستقبلي دفعت عجلة الشراكة المجتمعية والتعاون بين القطاعات المختلفة في تلك المرحلة حيث ركزت الجامعات في تعليمها على التخصصات الهندسية و لم تكن هنالك عوائق كبيرة في انتقال الكفاءات بين تلك القطاعات. برامج الابتعاث قاسم مشترك في النهوض بالأمم..وعودة طلابنا من الخارج ستضيف حراكاً علمياً غير مسبوق كاوست . والنهضة التكنولوجية *هل ترون بأن جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية ( كاوست) هي بداية للتركيز على العلوم التطبيقية وبالتالي نهضة تكنولوجية في المملكة؟ تعد جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست) هدية من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- إلى المملكة والعالمين العربي والإسلامي وإلى البشرية، ومنجزاً حضارياً للحاضر والمستقبل، وفي نفس الوقت تأتي ضمن سلسلة من المشاريع المتميزة والنهضة التي تعيشها المملكة في هذا العصر الزاهر من خلال ما سبق التطرق إليه من برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي والتي صح أن نطلق عليه "جامعة الملك عبدالله للابتعاث الخارجي"، وأيضا حركة النهضة الشاملة في الجامعات السعودية الأخرى من حيث التوسع في عدد الجامعات وإنشاء مراكز التميز البحثي وأودية التقنية. ومن هذا المنطلق وفي رأيي الشخصي المتواضع يمكن تلخيص أهمية كاوست في النقاط التالية: الانتقال بالجامعات السعودية لتكون مراكز لاستقطاب الكفاءات العالمية من طلاب وباحثين وأساتذة متميزين، وذلك لعكس صورة ظلت لفترة طويلة عن العالم العربي بأنه مركز لهجرة العقول والكفاءات. خلق بيئة تنافس علمي وبحثي وأكاديمي بين كاوست والجامعات السعودية الأخرى مما سيسهم في النهوض بشكل كلي بالمستوى الوطني العام للجامعات في هذه المجالات. فتح قنوات جديدة لنقل التقنيات والعلوم بهدف توطينها مستقبلاً. إيصال رسالة إلى العالم بأن المملكة ماضية قدما في طريق صناعة الاقتصاد المعرفي والتحول بمشيئة الله تعالى إلى أن تكون قوة يحسب حسابها في العلوم والتقنية. الشراكات ومستقبلاتها *بمناسبة الحديث عن جامعة كاوست، شهد العام 2009 توقيع عدد من الاتفاقيات بين الجامعة وشركات كبرى حيث وقعت الجامعة مع شركة داو للكيماويات وشركة شلمبرجير بالإضافة إلى انضمام سابك عضوا مؤسسا في برنامج التنمية الاقتصادية ، ما هو المأمول من تلك الشراكات من واقع تجربة الجامعات اليابانية مع الشركات؟. اسمح لي أن أعرج على نقطة مهمة، ألا وهي أن الشراكة بين القطاع الصناعي والجامعات أداة ووسيلة وليست هدفا بحد ذاتها، فعند النظر إلى الاقتصاد الياباني نجد أنه يقوم على تصدير المنتجات التقنية إلى الخارج حيث لا تمتلك اليابان مواداً خاماً كالبترول والغاز الطبيعي يمكنها الاعتماد عليها لقوام الاقتصاد. فنسبة الصادرات المصنعة إلى إجمالي الصادرات في اليابان تبلغ 92% وهو رقم يرتفع عن نظيره في دول مثل ألمانيا (83%) وأمريكا ( 82%). وعند النظر إلى نسبة الصادرات ذات التقنية العالية إلى إجمالي الصادرات نجد أن النسبة في اليابان تصل إلى 22.5% وتعد مرتفعة نسبية مقارنة بدول الأخرى. إن هذه الأرقام تعد مؤشراً على طبيعة القطاع الصناعي في اليابان والذي تقع الكثير من شركاته في قطاعات تقنية عالية مثل السيارات وأجزائها، الإلكترونيات والحواسيب وغيرها. وفي مثل هذه الصناعات تلعب الجودة والتكلفة دوراً مهماً في نجاح المنتج في السوق إلا أن عامل التقنية كذلك يلعب دوره خاصة فيما يتعلق بالابتكار الذي يتيح لهذه الشركات القدرة على المنافسة في السوق المحلي والأسواق العالمية خاصة مع ظهور منافسين جدد في الساحة كالصناعات الصينية المنخفضة التكلفة مما يجعل الابتكار التقني خياراً استراتيجياً للقطاع الصناعي الياباني. وعليه فإن من النتائج المتوقعة لهذه الشراكات أن تسهم في نقل نتائج الأبحاث إلى القطاع الصناعي وتمنح الشركات فرصة لزيادة قوتها الابتكارية وللجامعات لفتح مجالات بحثية جديدة والرقي بمستوى البحث والتطوير. النهضة مشروع متكامل *تشير الدراسة التي قدمتموها إلى دور هائل لعبته الجامعات في النهوض باليابان في كافة المجالات، هل نستطيع القول بأن للجامعات اليابانية الفضل الأول في ما تعيشه اليابان الحديثة؟. كان دور الجامعات الإمبراطورية في اليابان في عصر الميجى هو استيعاب المعارف من جامعات الغرب ونقلها إلى القطاعات الصناعية والحكومية والمؤسسات التعليمية الأخرى في اليابان فقد كانت أشبه بكابلات توصيل للمعارف. ولكن لا يمكن حصر أسباب النهضة في الجامعات وحدها حيث إن النهضة مشروع متكامل في جميع القطاعات التعليمية، الصناعية، الاجتماعية، الإعلامية. فبدون قطاع صناعي قوي وبيئة استثمارية جيدة لن تتمكن الجامعات من نقل نتائج أبحاثها للقطاع الصناعي والتعاون معه وكذلك الحال لوسائل الإعلام التي لها دور مهم في صياغة ثقافة المجتمع واهتماماته، ولا ننسى طبعا الدور الريادي للقيادة وهما ما نلمسه هذه الأيام في هذا العصر الزاهر بقيادة خادم الحرمين الشريفين يحفظه الله. تعاون متميز * أوصيتم في ختام الدراسة بضرورة استقطاب الشركات الاجنبية لإقامة برامج تعاون مع الجامعات السعودية، وأشرتم إلى تجربة شركة يوكوجاوا دينكي اليابانية مع جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، كيف تصفون تلك التجربة؟. تجربة تبرهن على ما وصلت إليه الجامعات السعودية من مستوى متميز ولله الحمد من خلال بناء مركز بحث وتطوير للشركة في وادي الظهران للتقنية، ولا ننسى أن جامعة الملك فهد للبترول والمعادن لديها تجارب تعاون متميزة منذ ثمانينيات القرن الماضي مع المركز الياباني للتعاون البترولي انتهى بالحصول على براءات اختراعات يتم تطبيقها حاليا في القطاع الصناعي، وعلى سبيل المثال أيضا هنالك برامج تعاون بين جامعة الأمير سلطان وبنك ميزوهو الياباني. وهنالك دراسات توصي بأن يشرط على الشركات الأجنبية المستثمرة في مشروعات كبيرة أن تقيم مراكز بحث وتطوير في الجامعات كنوع من الإسهام في نقل التقنية والمعرفة. وختاما أريد أن أقول :إذا كان اليابانيون يعتبرون نهضة الميجى نقطة انطلاق مهمة في تاريخهم الحديث في صناعة التقدم، فذلك يستدعي منا وقفة أمام ما نجده من دعم ورعاية لا حدود لها من مقام خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- في كافة المجالات وخاصة التعليم العالي والعلوم والتقنية والجامعات وبرامج الابتعاث مما يجعلنا نتقدم بوعد أن يبذل كل منا جهده قي سبيل خدمة دينه ووطنه وليسجل التاريخ هذه الفترة المهمة وليطلق على هذا العصر "نهضة الملك عبدالله" إن شاء الله والتي ستكون نقطة الانطلاق للعودة إلى المكانة الطبيعية لأمتنا.