سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
حرج المعارضة العراقية في لندن من علاقتها بالسياسة الأميركية . هل التدخل الأجنبي هو "المشكلة الكبرى"... أم هي تدمير القوة المتسلطة ابنية المجتمع والدولة ؟
لم يتستر معظم المشاركين في مؤتمر المعارضة العراقية الذي انعقد في لندن من 14 الى 16 كانون الأول ديسمبر الجاري، على حرجهم جراء علاقة المؤتمر والمؤتمرين، والقضية العراقية تالياً، الخاصة بالولاياتالمتحدة وبسياستها الخارجية. والحق انهم لم يتستروا على هذا الحرج، من وجه، ولكنهم، من وجه آخر، لم يداروه بالصمت والتجاهل. فأقر اياد علاوي، امين عام احدى حركات المعارضة بأن "للعامل الدولي، بقيادة الولاياتالمتحدة، اهمية كبيرة في دعم عملية التغيير". وحمّل عبدالعزيز الحكيم، شقيق محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وقارئ كلمته في المؤتمرين، "المجتمع الدولي وضمنه الولاياتالمتحدة" المسؤولية عن النجاح في "امتحان كبير للصدقية في قيادة الحرب على الإرهاب وتطبيق قرارات مجلس الأمن". وكان جلال طالباني، رأس الاتحاد الوطني الكردستاني، اوضح المتكلمين في هذا الشأن. فقال: "لم نستطع التغيير بواسطة قوانا الذاتية، يجب ان نكون واقعيين ونقر بذلك. القضية جرى تدويلها ولنا حق المطالبة بدعم دولي ويجب ألا نخجل". ولم يغفل مشروع البيان السياسي "الحياة"، 15 كانون الأول الذي طرح على المؤتمرين، المسألة. فقرن "تراكمات الرفض الشعبي"، غداة إخفاق "انتفاضة آذار المجيدة عام 1991"، ب"استثمار بعض معطيات العامل الدولي" في إنضاج السعي لأجل "إسقاط النظام الفاشي وإنجاز عملية التغيير". ورحب تقرير اللجنة التحضيرية، في الجلسة الأولى، "بأي مساعدة دولية لإقامة نظام ديموقراطي برلماني تعددي فيديرالي". وكان برهم صالح، رئيس وزراء الاتحاد الوطني الكردستاني، دعا الولاياتالمتحدة، ومعها بريطانيا، الى تتويج رعايتهما انشاء اقليم كردستان العراق، من طريق منطقة حظر الطيران الشمالية، بالمساعدة على إقامة "مجتمع مدني، اساسه العملية الديموقراطية في قلب الشرق الأوسط الإسلامي" يشمل العراق كله، ولا يقتصر على شماله. وتوقع، اذا حصل ذلك، "ألا يخجل الناس من قول: نعم، نحن اصدقاء الولاياتالمتحدة". نيوزويك"، عدد 11-17 كانون الأول. وعشية افتتاح المؤتمر، ويحضره وفد اميركي يتقدمه السفير فوق العادة زلماي خليل زادة، عرض بعض ابرز اعضاء لجنته التحضيرية على الصحافة ملخصاً لتقرير اعدته "مجموعة عمل المبادئ الديموقراطية للعراق" في إشراف مندوب عن وزارة الخارجية الأميركية. ويدعو التقرير الى تأليف حكومة ائتلافية موقتة مع ابتداء "عملية تحرير العراق". ولا يشك احد في ضلع السياسة الأميركية البارز والفاعل في التحرير و"عمليته" او عملياته الكثيرة والمأمولة. ويخالف هذا مخالفة صريحة ومصادِمة النازع العربي والإعلامي والشارعي والتنظيمي وبعض الرسمي الحكومي، الى حمل الولاياتالمتحدة على "العدو" الأكبر، ووجوه عدائه وعدوانه الكثيرة: السياسية والعسكرية و"الحضارية" والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ويخالف التنديدَ الرائج والسائر بالهيمنة الأميركية، وبروافده الكثيرة الاستعمارية والإمبريالية والاستكبارية والصليبية والصهيونية، بحسب اصحاب هذه الروافد ومدارسهم ومذاهبهم. وقبل يومين من افتتاح المؤتمر العراقيبلندن كرر الرئيس السوري بشار الأسد، في مقابلته "تايمز"، ما يقوم من المعتقد السياسي العربي المشترك مقام القلب. فقال في "مشكلة" صدام حسين: "أعتقد ان المشكلة الكبرى هي ان يتدخل اي بلد في شؤون بلد آخر". وهو يقصد ب"اي بلد"، بديهة، اميركا. وقوله هذا جاء جواباً عن سؤال كان طرحه لتوه: "هل يستطيع الآخرون من خارج المنطقة ان يقدروا نيابة عنا ما اذا كان ذلك يريد: صدام حسين مشكلة لنا ام لا؟". وعلى هذا تتقدم "مشكلة" التدخل الأجنبي، والأميركي جوهره وأعلى مراحله، "مشكلة" النظام السياسي الداخلي، وانتهاكاته وإخفاقاته ومفاسده ومخلفاته الباهظة، إذا أُقر بها وهذا ما لم يشر إليه المتكلم. ونسبة اي وجه من وجوه السياسة، إنساناً أو هيئة او فكرة أو سلعة، الى التدخل الأجنبي كفيل بالحط منه والإزدراء به. فتعريف رجل سياسي، او دوره، ب"كارزاي"، على سبيل المثال - ولو قياساً على الملا محمد عمر، و"طلابه" وحروبه العرقية والأهلية الدورية والمدمرة، وتلخيصه التدبير السياسي في قانون جزائي ثأري، وانقياده لجهاز امني اجنبي يتوسل به الى خوض سياسة اقليمية رعناء، ولرجل اخرق مثل زعيم "القاعدة" - هذا التعريف ينزل بمن يقع عليه الى ادنى دركات العمالة والإنسانية تالياً. وعلى الضد من هذا، ترفع الحرب على اميركا والأميركيين، ولو انحطت الى الاغتيال المنظم والأعمى والى الشتيمة المقذعة والتعريض المتجني والأبله، من شأن صاحبها، وتسمه بميسم الجهاد والبطولة والمقاومة و"النقد" اذا كان "مثقفاً" او كاتباً. فلا عجب، والحال هذه، اذا تعاقب خطباء المعارضة العراقية، أو معظمهم، على الاعتذار عن حاجتهم الى المساعدة الأميركية والأوروبية. فطالباني يعتذر عن قصور قوى المعارضة "الذاتية". وعلاوي يعزو "اهمية العامل الدولي" الى اخفاق محاولة المعارضة "القضاء وحدها على النظام". ومشروع البيان السياسي يلقي على "ظروف معينة خارجة عن إرادة" العراقيين التبعة عن "الحؤول دون نجاح" التضحيات الداخلية في "إلقاء النظام في مساقط التاريخ التي يستحقها". ويرد الخطباء كلهم على إلماحات اميركية غامضة الى "حكم عسكري اميركي" يتولى تدبير العراق في اعقاب سقوط صدام حسين ورهطه وعشيرته، وقبل تبلور هيئات وطنية تخلف حكم الطاغية. ولكن هذا كله لا يبدد الحرج الظاهر على تيارات المعارضة كلها. فهي كلها، اذا استثنيت "مجموعة ال32" أو "مجموعة عمل المبادئ الديموقراطية للعراق" ربما، تريد ان تنأى بنفسها عن علاقة عضوية بالسياسة الأميركية. وتريد تالياً، ان تقصر علاقتها بهذه السياسة على "استثمار بعض معطيات العامل الدولي"، على حسب البيان السياسي، او على فرصة سانحة يحسن بالعراقيين اقتناصها، على ما ألمح عبدالعزيز الحكيم باسم شقيقه و"مجلسه الإسلامي". ويُغفل الحرج والتنصل اللفظيان، بذريعة مراعاة تقليد "وطني" او "قومي" قاهر، محاسبة المصائر التي انتهت إليها "الثورات الوطنية الديموقراطية" على ما سماها المنظرون السوفياتيون، او الأنظمة "التقدمية"، عن ايدي الحركات والأحزاب العربية الحاكمة منذ اربعة عقود او اكثر. فعلى خلاف السيطرة الاستعمارية التقليدية، نجم عن سيطرة الأجهزة الوطنية والاستقلالية العسكرية "الجديدة" من استيلاء عبدالناصر على مصر الى انقلاب عمر حسن البشير في السودان ووضع الجنرالات الجزائريين السلطة تحت وصايتهم على الدول والمجتمعات التي سيطرت عليها "استقرار" طويل ألقى بثقله الساحق على هذه وتلك. فتركت الدول الأوروبية المستعمرة مستعمراتها السابقة، على رغم دمار كبير خلفته في معظم مرافقها، وهي تنبض بحياة اجتماعية وسياسية كثيرة الوجوه والمنازع، تتوق الى الفعل والاختبار وتحمل المسؤولية. وتخلّف الدولُ القومية و"التقدمية"، وحكامها الحزبيون والعسكريون اسندوا استيلاءهم عليها الى متطلبات انجاز الاستقلال وبسطه على وجوه لم تحتسبها الطبقات القديمة، مجتمعاتٍ مدمرة، و"جمهوريات خوف" وتسليم وهجرة. فلا يعقل، في وسط هذه الأنقاض، ان تدب الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية في عروق اجسام سياسية، او اهلية ومدنية تتولى إدارة المجتمع والدولة في طورهما الجديد. فال"حق في المعارضة"، على ما ذهب إليه مؤتمر فيينا "الرجعي" في 1815، هو إقرار بالحق في خلافة السلطة القائمة، وبجواز هذه الخلافة من غير انقلاب على انظمة الدولة، او استيلاء بالقوة عليها. ويقتضي هذا، على ادنى حد وأقله، حفظ "نوع" المعارضين، والحؤول دون استئصاله الجسدي، او نفيه وإخراجه مكرهاً من وطنه ومجتمعه. وفي هذا الباب، باب استباق المعارضة والحؤول دون نبات عشبها، جددت الأنظمة "القومية"، الحزبية والعسكرية، تجديداً باهراً قياساً على الأنظمة التقليدية التي خَلَفت السيطرة الاستعمارية على حكم بلدانها في مصر وسورية والعراق والجزائر...، او حكمت تحت وصاية اجنبية. ويحصي البيان السياسي العراقي بعض "منجزات" النظام "القومي" العراقي - وتحصى نظائرها في غير بلد مجاور - في سعيه الى تعقيم الأرض الوطنية، السياسية والاجتماعية. فمن "المنجزات" هذه جمع السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في يد واحدة، وخنق هيئات المجتمع المدني، وإشاعة التمييز على اساس الجنس والدين والمذهب والقرابة، وتزوير الانتخابات، وإنكار حقوق الأقوام والطوائف، وحرمان جماعات من الهوية وتجنيس الأولاد ومن العودة الى بلدهم، واستبعاد النساء من العمل العام، ومصادرة الحقوق والأموال، وارتكاب جرائم جنائية وسياسية وجرائم حرب وإبادة وقمع جماعي واضطهاد عرقي وديني، وتخريب بنية مناطق تقطنها جماعة مذهبية او عرقية، وتهجير اهاليها وإحلال اهالٍ آخرين محلهم. ويقوم مقام الشرط والمقدمة من هذه الإجراءات دوام حال الحرب، السياسية والاجتماعية والثقافية على عدو "مطلق"، داخلي وخارجي معاً، يتلون بألوان لا تحصى، وتنبت له سبع رؤوس محل كل رأس تقطع، او تسجن، او يفرض عليها السكوت والعزوف. والهوية "القومية" والسياسية للدولة ولمواطنيها هي الحرب على عدو النظام. والعدو هو اي "خارج" لا يوالي معايير اصحاب النظام وأهله، ولا "يحب" رأس النظام وجسده الجامع والواحد. فالهوية هي الضدية غير المقيدة بقيد وضعي معروف او منصوص عليه. وعندما تنيخ القوة المتسلطة بثقلها كله، المادي والأمني والمعنوي، على مجتمع لم تفتأ روابطه وعراه الموروثة تضعف وتنحل ولم تخلفها روابط وعرى جديدة إرادية، لا يبقى للمعارضين متنفس غير الاستعانة بالخارج، او الانكفاء الى عصبية اساسية لا تقوى القوى الحاكمة عليها هي عصبية الدين السياسي. وكلا المتنفّسين "خارج" وعدو، على زعم القوة المتسلطة. فتذهب الأنظمة الحاكمة في ليبيا والسودان وسورية والعراق والجزائر وفلسطين ولبنان، اخيراً، على حد واحد، الى تشخيص مصادر التهديد في المعارضة الأصولية الإسلامية المسلحة، من وجه، وفي المعارضة "الليبرالية" والاجتماعية الداعية الى الإقرار بحقوق الأفراد وحرياتهم ومساواتهم اولاً، من وجه آخر. وتجمع الأنظمة "الخصمين" السياسيين، وربما "العدوين"، على اختلافهما وعداوتهما وحربهما، في عدو "خارجي" واحد. وما تختبره المجتمعات العربية، في اعقاب نيف وأربعة عقود على انظمة سلطة حزبية وعسكرية، من حَجْر على تجددها السياسي والاجتماعي والثقافي الداخلي والحيوي، ومن استحالة كسر هذا الحجر بقواها الذاتية، ليس فريداً في بابه، ولا غير مسبوق. فلم تخرج ألمانيا النازية، ولا خرج اليابان العسكري "الشوغوني"، من اسر داخل عصبي "وجهادي" او مناهض للعمومية الغربية و"رخاوتها" الحقوقية والإنسانوية، إلا من طريق هزيمة عسكرية ساحقة، ورعاية غربية وأميركية. وقد يكون هذا جارحاً. وهو جارح حتماً في مجتمعات لا تنفك تقيس عطالتها، اليوم، على انجازات امسها وفتوحاته وانتصاراته وسطوته. ولكن إلحاح الأتراك، المسلمين وغير الأوروبيين تاريخاً وثقافة وجغرافية، على الاتحاد الأوروبي في استقبالهم هم فاتحو الأمس ومهاجرو اليوم، ومساعدتهم على تجاوز تأخرهم، قرينة على إمكان صوغ الهوية التاريخية صوغاً جديداً. وليس من قبيل المصادفة ان يبتدئ صوغ الهوية الجديد بإقرار الإصلاحات السياسية التي تطالب المعارضة العراقية، اليوم، بها. وهي إلغاء عقوبة الإعدام، وإرساء استقلال القضاء على اسس ثابتة، والاعتراف بحقوق الأكراد الثقافية، وحماية حرية الرأي والتعبير. وتذهب القوى المتسلطة في غير مجتمع عربي، على مثال صدام حسين، الى ان القوانين الأساسية هذه هي جزء من الحرب الأميركية "والصهيونية"، بدليل "بروتوكولات حكماء صهيون"، على ما ذهب إليه لواء ركن من ألوية الأركان على "الهوية"، وإيذان بانهيار "مقاومتها" وصمودها. والسابقة السوفياتية شاهد على ذلك. ويؤوّل انهيار الاتحاد السوفياتي تأويلاً عسكرياً وأمنياً "جهادياً"، على رغم مناقضة هذا التأويل الوقائع كلها، ليسوغ التسلط والحجر على الفعل السياسي والاجتماعي. والقبول، من طرف خفي وحيي على ما تفعل المعارضة العراقية ومن طرف معلن على ما تفعل "المعارضة" السورية، بمنطق الإخراج هذا، ومسايرته بذرائع شتى منها مراعاة "المشاعر" الشعبية، مشاركة في ايديولوجية الحَجْر القاتلة، وفي سياسات متناقضة لم تؤد إلا الى حصاد مر. فلا ينبغي ان يترك لبرهم صالح، او الى "اقلي" آخر، ان يقول على رؤوس الأشهاد: "إذا ارادوا ان يكون الأكراد عراقيين فيجب التعامل معنا كمواطنين كاملين في العراق". وهذا يصح على السوريين والفلسطينيين واللبنانيين والليبيين، وغيرهم. فكل من هم جزء من دولتهم ووطنهم ينبغي ان يضطلعوا ب"دور مركزي في صوغ سياساته". ولن يأمنوا ويطمئنوا حتى يتاح لهم ذلك. وإذا اتاحته السياسة الأميركية، فأين المشكلة؟ * كاتب لبناني.