سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
حماية العلاقات الدولية من انتهاك العنف بعض مسلماتها لا يعصمها من المحاسبة . التردد في استخلاص النتائج العملية من إدانة الإرهاب يضعف سيادة الدول وشرعيتها السياسية
تعاني بعض السياسات العربية والإسلامية، منذ انفجار ازمة 11 ايلول سبتمبر في العلاقات الدولية، وولادتها التحالف الدولي على الإرهاب ثم الحرب على قيادة شبكة بن لادن و"دولة" طالبان الأفغانية، تردداً واضطراباً بارزين. وظهرت علامات التردد والاضطراب في المواقف التي أعلنها وزراء الخارجية العرب، ثم وزراء خارجية المؤتمر الإسلامي، ووزيرا خارجية ماليزيا وأندونيسيا في اجتماع "أبيك" بالصين، غداة انفجار الأزمة. فهذه المواقف دانت العمل الإرهابي ونددت به، من وجه، ولكنها قصَّرت عن الخروج من الإدانة والتنديد باقتراح عمل سياسي وديبلوماسي وربما عسكري ايجابي يجسد التحفظات الكثيرة عن سياسة التحالف الدولي وحربه على "قاعدة" بن لادن وخندقها الطالباني الأفغاني، من وجه آخر. فالمقترحات التي أدلى بها رؤساء بعض هذه الدول أو وزراء خارجيتها، فرادى في معظم الأحيان، - مثل عقد مؤتمر دولي لمكافحة الإرهاب وأسبابه، أو اشتراط إجماع على تعريفه وتمييزه من المقاومة، أو طلب أدلة دامغة وعلنية على مسؤولية بن لادن وحصر التعقب والقصاص فيمن تظهر الأدلة ضلوعهم المباشر في العمل الإرهابي - هذه المقترحات تؤدي، إذا أخذ بالجزء اليسير منها، الى ترك الشبكات الإرهابية تسرح وتمرح مطْمئنة على مسرح دولي تسوده الشكوك والظنون والفوضى. وجلي ان بعض المقترحات هذه يرمي اولاً الى التنصل من الضلوع الجانبي والفرعي في المسؤولية عن الإرهاب وفشوه في العلاقات الدولية. ويرمي، ثانياً، الى رعاية ميدان سياسي وأمني خاص، اقليمي أو وطني محلي، تحرص بعض الدول على إبقائه بمنأى من معايير المجتمع الدولي المعلنة، وتريد معالجته بعيداً من "التطفل" القانوني والدولي. وما تريده بعض الدول وتطلبه هو استثناء يخلصها من عموم المعايير القانونية والدولية. وعلى هذا فهي تطلب لنفسها، ولسياساتها الدولية والمحلية، حقوقاً خصوصية تعفيها من النتائج المترتبة على عمل حربي مكشوف على دولة من الدول. ويترتب على عدوان موصوف على دولة، وهو وصف فعل 11 ايلول، حق الدفاع عن النفس بالطرق والوسائل المناسبة والمفضية الى معاقبة الجاني، وردعه، والحؤول بينه بين امثاله وبين معاودة عدوانه وتجديده. ولا تغير الصياغة الأميركية، ولا خطابة السياسيين والعسكريين الأميركيين وبعض الأوروبيين بيرلوسكوني على سبيل المثال في هذا الحق ومترتباته شيئاً. فاسترسال شطر من اصحاب الصياغة هذه في إطلاق أحكام مؤذية أو مهينة، أو متعسفة أو متعامية عن وقائع ثابتة لا يطعن في استناد سياسة الرد الأميركية والبريطانية وسياسة من يشارك الدولتين الرد العسكري اليوم الى مسوغات حقوقية وعرفية لا يرقى إليها شك معقول. وهو لا يطعن في وجوب حماية العلاقات الدولية من انتهاك الإرهاب بعض مسلماتها وقواعدها الضعيفة والمضطربة. فليس التنديد بالإرهاب، ولا الدعوة الى التزام مسلمات وقواعد العلاقات الدولية، مسوغين لمديح العلاقات الدولية على حالها اليوم، أو بالأمس القريب. وليسا صك براءة للقائمين الفاعلين على هذه العلاقات. ولكن التنديد بالإرهاب والتزام مسلمات العلاقات الدولية السياسية والحقوقية شرط لتدارك انهيار افظع تصيب عواقبه الدول والشعوب والمجتمعات الضعيفة قبل الدول والشعوب والمجتمعات القوية. والتذرع بالأسوأ أو القول أن الحال الراهنة هي شر الأحوال الممكنة و ليس بعدها شر منها، كذب متعمد ومغرض أو قصور تَخَيُّل. فثمة ما هو أسوأ بكثير. ومن هذا الأسوأ الاستدراج إلى قصف افغانستان ومدنها ومدنييها الذين يحتمي بهم "المقاتلون" المفترضون، وإحراجُ باكستان دولةً وجماعات والتعويلُ على تأجيج الخلاف بين باكستانوالهند القوتين الذريتين، وحملُ روسيا والصين على التضامن مع التحالف الدولي وتحريرهما من القيود على قمعهما الشيشان والغُيور المسلمين، والنفخُ في القمع الإسرائيلي، واستعداءُ الكثرة الوطنية على القلة المسلمة والمهاجرة في المجتمعات الغربية، وبعثُ العلاقات المتأزمة والمتداعية بين انظمة عربية أو مسلمة وبين الجماعات التي تحكمها على الانفجار، ومفاقمة الركود الاقتصادي العالمي بدءاً من "رأسه" الأميركي... وليس في واحدة من هذه الحوادث أو الكوارث مكسب في مستطاع احد، جماعةً أو حزباً أو بلداً، ان يبني عليه حالاً دولية أو داخلية وطنية أكثر عدلاً وإنصافاً من الحال القائمة والسائدة اليوم. ولا شك في أن وقوع الحوادث أو الكوارث هذه، أو وقوع بعضها في وقت واحد لا يؤدي إلا الى تعاظم التردي، والى اندلاع حروب ومنازعات اهلية في البلدان المتعثرة أو المتأزمة. فلا ينجم عنها إلا خسائر فادحة في النفوس والإنتاج والعلاقات الاجتماعية والسياسية. أما التعويل على عموم "الجهاد"، وعلى وقوف "البليون مسلم" واليابانيين الذين ألمح إليهم أسامة بن لادن والفيتناميين غرض تنويه ايمن الظواهري صفاً واحداً وراء "الشيخ" اسامة بن لادن، فأضغاث احلام منشؤها القصص العامي الخرافي، المنسوب الى الديانات، وليس السياسات الدينية. والأرجح ان هذا ما لا تشك فيه معظم السياسات العربية والإسلامية. فترددها في استنتاج النتائج العملية والواضحة من مخاطر شيوع الإرهاب في العلاقات الدولية، أياً كان مصدره، وفي البناء على هذا الاستنتاج، إنما هو تقصير عن الاضطلاع بدور دولي سياسي فاعل وتام. وهذا على خلاف اضطلاعها بدور اقتصادي دولي مسؤول، واحتسابها النتائج المترتبة على قرار متهور برفع سعر النفط. وحتى إيران أقلعت عن الدعوة الى قرار مثل هذا القرار، بل عن التلويح به، وأعربت عن عزمها، مع السياسة النفطية السعودية، تعويض النقص في توزيع الطاقة إذا أدت العمليات العسكرية الى عرقلته. ولعل التقصير عن الاضطلاع بدور دولي سياسي مسؤول مرده الأول الى أحوال هذه البلدان الداخلية، وإلى علاقاتها داخل مجموعاتها الإقليمية مثل الجامعة العربية و"المؤتمرية" على شاكلة مؤتمر الدول الإسلامية او منظمة الوحدة الافريقية. فقيام هذه الدول، أو معظمها، على مجتمعات أهلية تربط بين جماعاتها روابط النسب والمعتقد والجوار واللغة والثقافة يحول بينها وبين بلورة سيادة تامة قوامها الشعب، بمفهومه السياسي التعاقدي ومؤسساته وهيئاته، والدولة الشرعية. وهذه الحال لا تلجم النزعات "الامبراطورية"، التداخلية والتوسعية بطبيعتها، بل تطلق لها العنان، وتغذيها إبان الأزمات. وقد تتوسل النزعات هذه بالأزمات، وافتعالها وتعمدها، الى زعزعة شرعية الدول القائمة، والتشكيك فيها. فعلى الحكم الباكستاني، مثلاً، ان يراعي مسألة ولاية كشمير الهندية و"عودتها" الى "الإسلام"، بذريعة كثرة سكانها المسلمين وغلبتهم على السكان الهندوس، وذلك مهما احتدت مشكلات باكستان الداخلية، السياسية والاقتصادية، وتفاقمت. وعلى الدولة الباكستانية ان تصوغ سياساتها كلها، مثل الموازنة بين جماعاتها وأقوامها عوض دمجها داخلاً، وانتخاب الأعداء والأصدقاء والحلفاء خارجاً، في ضوء معيار واحد هو مصير ولاية جامو وكشمير. ولم يضعف دور هذا العامل المدمر والمعوق إفضاؤه، فيما سبق، الى ثلاث حروب مع الهند، وانفصالُ بنغلادش في عملية دامية، في 1972 - 1973، عن باكستان، على رغم الإسلام الجامع، وهدرُ شطر من موارد البلد الفقير في صناعة قنبلة ذرية عادت على باكستان بعزلة وتحفظ دوليين. وتتولى حركات حزبية دينية رقابةً صارمةً على سياسات الدولة، وتقيدها بالمعيار الأوحد الذي يوجه الدولة، بواسطة التظاهرات الجماهيرية العنيفة، والتحريض في المساجد، واستمالة اعيان الدولة وكبرائها أو إرهابهم، وبواسطة احلاف عبر الحدود تستقوي بالعمل السري المسلح وتهريب الأموال على نحو ما تستقوي بروابط وعداوات اقليمية أو قارية - على ما جرى منذ نيف وعشرين عاماً، ويجري اليوم في شأن الحروب الأفغانية، الاستقلالية والأهلية على حد سواء. فيستحيل على الدول "العربية" أو "الإسلامية" صوغ نظام اقليمي يقوم على التعاقد الحر والتكافؤ بين المتعاقدين، ويلجم النزعات المتسلطة، التوسعية والتدخلية، ما لم ترس شرعية هذه الدولة الداخلية على معيار وطني اقليمي على معنى الأراضي الإقليمية للدولة. وما لم يستقر مثل هذا النظام الإقليمي، ولم تعرِّف الدول العربية أو الإسلامية شرعيتها بواسطة معيار واحد، عوض المعيار المزدوج الوطني والقومي أو الوطني والديني، فلن تأمن قيام داعية يدعو الشعوب والجماعات الى تلبية داعي "الجهاد" والقيام على "الكفار" و"الصليبيين"، أو تلبية دواعي وحدة "الأمة" من الأطلسي الى المحيط الهندي أو الى "خليج العجم" وتطهير ارضها من اليهود الصهاينة والمتصهينين "بكل الوسائل المتاحة" وضرب "مصالحهم اينما كان". والحق أن مثل هذه الدعوة لم تعدم إحراج الدول العربية والإسلامية ولا تعدم اليوم إحراجها، على رغم غرابتها قياساً بأحوال الدول والمجتمعات والجماعات القائمة. والسبب في إحراجها هو استنادها الى شطر شرعية تقره البلدان المعنية، وتقره بعض جماعاتها ودولها، وتحجم عن مناقشة مخالفته شطرَ الشرعية والسيادة الآخر، الوطني الإقليمي والسياسي. فلا يسعها الإعراب عن مساندتها الفعلية الإجراءات العسكرية والاستخبارية والمالية الرامية الى ضرب "القاعدة" وردعها والحؤول بينها وبين استئناف اعمالها الإرهابية وعدوانها، بذريعة عدوانها على "المسلمين". وتنقاد البلدان هذه الى شطر الشرعية الأهلي والديني الذي يلوح به اسامة بن لادن واصحابه اليوم، وسبقت الى التلويح به جماعات وسياسات اخرى كثيرة إخوانية وناصرية وبعثية و"قومية عربية" و"فلسطينية" وخمينية، على رغم توجيه شفرته إليها، وإلى مصالحها ومصالح دولها ومجتمعاتها. وانشطار الشرعية والسيادة شطرين متفاوتين قوة وسلطاناً يبعث على الحرب الأهلية بين انصار الشطرين. ويضعف الدولة، وهي المضطرة الى التزام جانب الشرعية الوطنية الإقليمية، بإزاء الأحزاب الأهلية، المستقوية بشرعية "الأمة" القومية أو الدينية. ويضطر الانشطارُ الدولةَ، إذا شاءت استباق النازع القومي أو الديني أو إذا ولدت "طبقتها" الحاكمة منه، يضطرها الى مماشاة "امبريالية" هذا النازع التدخلية والتوسعية والسياسات العراقية والسورية والليبية والفلسطينية وغيرها، في اوقات متفرقة، مثال على هذه المماشاة. فتغذي الحربَ الأهلية في الداخل وفي دول الجيران والأشقاء، وتنفخ في عصبياتها، وتحول بين جماعات هذه الدول وبين إرساء منازعاتها وعلاقاتها على ميزان سياسة متماسك، أو قد يتماسك إذا أتيح بعض الاستقلال للجماعات المتنازعة. وتتصور الحرب في هذه البلدان التي لم تختبر نظام علاقات إقليمياً، بصورة الحرب الأهلية المدمرة والاستئصالية. وصورة الحرب هذه هي العلة في السباق المحموم الى السلاح النووي والكيميائي والجرثومي في هذه المنطقة من العالم. ويغلب اختبار الحرب الأهلية على كل اختبار حربي أو سياسي آخر. فلا تتقيد الحرب، داخلية أو خارجية، ب"خطوط صداقة" تلجم الحرب عن الاسترسال مع العنف الاستعماري أو عنف القرصنة اللذين سبقا بلورة الدولة الإقليمية الأوروبية، وخروجها من الحروب الأهلية الدينية. والإرهاب، أو تعمد الخلط بين مسرح الأعمال العسكرية وبين الحياة المدنية والتوسل به الى إضعاف إرادة العدو، وجه ملازم للحروب الأهلية والحروب الاستقلالية المحلية. وهو ثمرة إحباط العمل العسكري والعمل السياسي، والنكوص دونهما، والعجز عن بلوغهما. فلا يفترض الإرهاب ما تسلِّم به الحرب من دوام كيان الدولة العدوة، والإقرار بسيادتها على أراضيها ومواطنيها، أو من ضرورة إفضاء الحرب الى معاهدة سلام وحفظ الأسرى ومبادلتهم. ومن الجلي ان حرب "خطوط الصداقة"، على ما سمي نظام العلاقات الدولية في مطلع العصر الحديث، لا تستقيم إلا بنظام علاقات اقليمية محوره الدولة الوطنية الإقليمية، الموحدةُ الشرعية والسيادة. وهذا لا يستجيب أهومة السكينة الرحمية التي تحمل على المساواة بين "طالبان الدولار وطالبان النفط"، على قول احد المثقفين الإيطاليين، أو بين "الغرب" المتأمرك والمعولم وبين "الإسلام" المتعصب والمنكفئ "وصدام الجهالات" ترجمة يسارية "وفلسطينية" راديكالية لهذا الرأي. فالمساواة هذه لا تحمل إلا على سد السبل والآفاق، الضيقة اصلاً، امام العمل والفهم على حد سواء. ولا تعدو إلا الى الترجح والتآكل في الموضع العسير الواحد. ومخاطر الترجح والتآكل على بلدان ومجتمعات تحجرت على سياساتها طوال عقدين - تداعت في اثنائهما الديكتاتوريات العسكرية والمتسلطة في اميركا اللاتينية وفي بعض آسيا، وانهار القطب السوفياتي برمته، وتجددت عوامل الإنتاج وأبنيته تجدداً عميقاً - هذه المخاطر قد تكون فادحة. وأصحاب دمج وجوه المشكلات بعضها ببعض، ومتوقعو حلها من انفجار عظيم، يقتفون اثر حركات الخلاص. وهذه قد تقول آلام البشر ولكنها لا تداويها ولا تبالي بمداواتها. * كاتب لبناني.