ضمن المساعي لكسب التأييد الداخلي والدولي لحملة عسكرية من أجل نزع أسلحة العراق واطاحة الرئيس صدام حسين، وعدت ادارة الرئيس جورج بوش بأن تأتي الديموقراطية الى هذا البلد وتغيّر المنطقة كلها على نحو استراتيجي. ويدعي الرئيس وكبار مساعديه ان تحرير بغداد سيدشن عهد سلام وديموقراطية في العراق يترك تأثيره في دول عربية أخرى تخضع لأنظمة حكم استبدادية. ان ما يدعون اليه هو نظام ضخم وطموح في الشرق الأوسط. لكن ما مدى واقعية هذا النظام؟ والى أي مدى تمثل الايديولوجيا، بدلاً من التحليل الرصين للحقائق الاجتماعية - السياسية في العراق، الدافع المحرّك وراء خطاب ادارة بوش؟ مع اقتراب أميركا أكثر من حرب مع العراق تتجه المناقشات حول السياسة الى التركيز على قضايا اجرائية وتوقيت الحملة العسكرية والحاجة الى كسب التأييد الداخلي والدولي، بدلاً من التركيز على الأوضاع الداخلية في العراق التي ستقرر امكان قيام دولة مسالمة وديموقواطية بعد رحيل الرئيس صدام. ينبغي لمجتمع العراق المفكك وتاريخه السياسي المغموس بالدماء ان يجعل أياً كان، بما في ذلك صناع السياسة الأميركيون، يحذر من التنبؤ بولادة سريعة لنظام ديموقراطي يمكن ادامته هناك. ولا يبدو ان مؤسسة صنع القرار في الولاياتالمتحدة تدرك مدى ترسخ الولاءات القبلية والقومية، وكم ستكون مهمة اعادة ربط فئات المجتمع العراقي معقدة بسبب التنافر بينها بعد عقود من سياسات التفتيت والتجزئة. كان العراق منذ نشوئه بلداً تصعب ادارته وحكمه. وفي أعقاب تركيبه من بريطانيا في العشرينات وفق مصالحها الامبريالية، وضع تحت حكم العائلة المالكة الهاشمية التي جيء بها من الحجاز وافتقرت الى الشرعية بسبب صلاتها الوثيقة مع بريطانيا الاستعمارية وقاعدتها الاجتماعية الضيقة. كان الهاشميون في عزلة عن الحياة اليومية، وبقيت الدولة والمجتمع منفصلين. والاتكال على الجيش للاحتفاظ بالسلطة كان يعني انها مسألة وقت فحسب قبل أن يطيح "الرجل على صهوة الجواد" النظام الملكي ويحكم العراق بقبضة من حديد. وكان ضباط الجيش الطموحون يريدون ان يتخلصوا بسرعة من النظام القديم ويعيدوا صوغ العراق على شاكلة صورتهم بالذات: تراتبياً وصارماً واستبدادياً. دشّن انقلاب عبدالكريم قاسم في 1958 عصراً جديداً لهيمنة المؤسسة العسكرية في العراق وزرع بذور صراعات على السلطة وسفك دماء متواصل. وبين عامي 1958 و1968، وجّه ضباط الجيش اسلحتهم ضد بعضهم بعضاً وأخضعوا العراقيين بالإرهاب. وعكس صراعهم، بين اتجاهين قومي وشيوعي، ما كان يدور في المجتمع العراقي، وجرى حلّه في الغالب عبر تصفية وإقصاء جسديين. وسادت عقلية الغوغاء وارتكبت كل من الجماعتين مذابح وفظاعات أدت الى قتل عشرات الآلاف من الناشطين والمدنيين الأبرياء. وأصبح العراق البلد الأكثر عنفاً واضطراباً في المنطقة. قال محمد حسنين هيكل، المراقب الألمعي للوضع السياسي العربي، ان "العراق كان دائماً دولة حدودية بين الحضارات ومكاناً تصطدم فيه امبراطوريات وجيوش. وأصبح العنف متأصلاً في الشخصية العراقية". أدت الاضطرابات الدموية العنيفة في خمسينات القرن الماضي وستيناته الى تحويل العراق من دولة شبه دستورية الى دولة استبدادية. وعندما تسلّم البعثيون السلطة في 1968، سعوا الى توطيد سيطرتهم على المجتمع وجعل العراق قوة اقليمية يحسب لها حساب. وحظر النشاط المعارض ونُفذت احكام اعدام فورية بالمعارضين. وعندما أصبح صدام رئيساً في 1979، كانت الدولة البوليسية توشك ان تبتلع المجتمع المدني. وبعد سقوط شاه ايران تطلع صدام الى ان يصبح عمدة الخليج بلا منازع وقائد العالم العربي. وجرّ العراق للأسف الى حربين مدمرتين في منطقة الخليج كلّفت البلاد مئات آلاف الضحايا ومئات بلايين الدولارات. فقد العراقيون، الذين يعانون المراقبة والاضطهاد منذ 1958، ثقتهم بالنظام السياسي وانكفأوا على أنفسهم نحو شاطئ الأمان الذي تمثله النزعة القبلية والتشرذم القومي. وسعت كل فئة الى حماية نفسها وأقامت "ستار حديد" كي تقي أفرادها. لقد حُطم المجتمع المدني وهشمت الطبقة الوسطى، ويعود الفضل في ذلك في شكل أساس الى العقوبات التي تفرضها الولاياتالمتحدة منذ 1991. فلا وجود للدعامات والمؤسسات الضرورية لنظام حكم فاعل، ناهيك عن نظام ديموقراطي. وتكمن مأساة الحياة السياسية في العراق، والعالم العربي عموماً، في أن النخبة الحاكمة والمعارضة المهيمنة تتصفان معاً بالعداء للديموقراطية. ويعاني المجتمع جروحاً عميقة وتهترئ أسس الثقة الى حد الانهيار. ويحل التخريب والتآمر مكان العمليات السياسية الطبيعية كوسيلة للوصول الى السلطة. إذا هاجمت الولاياتالمتحدةالعراق سيسقط نظام صدام حسين على الأرجح. فقد نفّر معظم الفئات الاجتماعية، بما في ذلك عناصر مهمة داخل عشيرته. لكن، يحتمل أن تكون هناك مقاومة من قوات الأمن و"الحرس الجمهوري" وبعض العشائر الموالية. ستقاتل هذه القوى لأن بقاءها بالذات مهدد، ولأنها تخشى النظام الأميركي المقبل الجديد. لا ينبغي أن تكون لدى الولاياتالمتحدة أية أوهام في شأن ما ستكلّفه حرب مدن، خصوصاً بالنسبة الى المدنيين العراقيين، أو المهمة الضخمة على نحو استثنائي المتعلقة بإعادة بناء عراق ما بعد صدام. وأحد السيناريوات المحتملة هو أن يؤدي غزو عسكري أميركي الى مذبحة للمدنيين في العراق. ويرجح ان تقع أعمال ثأر عشائرية. ومن شأن وقوع مذبحة في بغداد ان يعمق بالتأكيد عدم الثقة بين فئات المجتمع المختلفة، ما سيعقّد عملية المصالحة وتضميد الجراح. ينبغي للمسؤولين الأميركيين ان يحذروا من التظاهر بمعرفة ما هو أفضل للعراق والمنطقة. ان احساساً بالتواضع شيء مطلوب بإلحاح في واشنطن. فعلى رغم الكلام المفعم بمشاعر نبيلة في واشنطن، لا يحتل تصدير ديموقراطية جيفرسون الى الصحراء العربية موقع الصدارة في أجندة السياسة الخارجية للولايات المتحدة. الأرجح ان تكون اطاحة الحكومة العراقية أسهل بكثير من اعادة بناء البلاد واستعادة وحدتها. وما لم تكن الولاياتالمتحدة مستعدة لحماية النظام الجديد بقوة على مدى سنوات كثيرة مقبلة، فإن العراق سيتمزق وينحدر الى الفوضى، ليزعزع استقرار جيرانه ويؤدي الى ظهور جماعات اسلامية متطرفة جديدة ستهاجم الأميركيين. لن تكون اقامة ديموقراطية في العراق غير ممكنة فحسب، بل ان المصالح الحيوية للولايات المتحدة ستتعرض للخطر. * أستاذ في جامعة ساره لورنس في نيويورك. والمقال سبق نشره في "واشنطن بوست" في 8 الجاري واحتفظ الكاتب لنفسه بحق النشر بالعربية.