لم أدرِ منذ البداية سبب تشويقي وأنا أقرأ موضوعاً من الصحافة الروسية عن وسائل إعلام... السجون. نعم هناك في روسيا وفي الاتحاد السوفياتي سابقاً جرائد ومجلات ولدت في السبعينات، ثم توقفت في مرحلة زوال الامبراطورية السوفياتية، لتعود إلى الظهور في التسعينات مع استتباب الأوضاع وظهور جمهورية بوتين الروسية. جرائد ومجلات يعدّها المساجين تباع في السجون، ومنذ فترة توجد في أكشاك المدن الروسية لهواة يتابعون حياة الأسرى! وسائل إعلام تصدر عن وزارة العدل الروسية تتطرق لكل الأمور التي تهم نزلاء الغرف المظلمة والمقفلة. دروس عن القانون وتفسير للنصوص. معلومات عن جمعيات حقوق الإنسان وسبل الوصول إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. أخبار عن المشاهير ممن يقدمون عروضاً في السجون، وآخرين يُزجّون فيها... هناك حرية في التعبير لا يجدها الشعب الروسي في صحفه العادية، فوسائل إعلام السجون تتطرق حتى إلى الرقابة داخل الزنزانات، كقراءة الرسائل الموجهة إلى المساجين وغيرها من تصرفات مألوفة حتى خارج مراكز الاعتقال في روسيا. كذلك هناك حس فكاهي في صوغ المواضيع، كما في زاوية الأبراج التي يكتبها المساجين ليقرأها زملاؤهم والتي تنصح بعضهم بعدم قيادة السيارات في بداية الأسبوع، وآخرين بعدم توظيف أموالهم في استثمارات كبيرة خلال الأسابيع المقبلة! أبراج تعطي للقارئ الاحساس بأنه يعيش، في الواقع، خارج القضبان في مجتمع حر وسليم... في نهاية قراءتي لهذا المقال، فهمت سبب اهتمامي وتعلقي به. فلقد أشعرني بأن مساجين روسيا أسعد حظاً من زملائهم "الأحرار" في العالم العربي وهم يتابعون المسلسلات الرمضانية على شاشاتهم الصغيرة. لا بد من العودة إلى "فارس بلا جواد"، آخر "بطولة تلفزيونية عربية". التلفزيون العراقي يبثه على محطاته الثلاث وثلاث مرات في اليوم. هذا ما تعلمنا به يومية عربية تقول بفخر ان ذلك "لكشف المستور عن الصهيونية وخوافيها". طريقة مثلى نابعة عن حكمة القيادة العراقية في تحضير شعبها لعودة المفتشين! وبيمها تفضل الفضائية المصرية، أي القناة الموجهة إلى خارج أرض الكنانة، بث "الفارس" في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، لتفادي ما يمكن تفاديه من "بهدلة"، يختار التلفزيون العراقي أفضل الساعات أو الPrime Time للقيام بهذه المهمة النضالية التي تصفق لها الصحافة العربية من الجزائر حتى اليمن، إذا ما استثنينا، ويا للصدف، بعض الأقلام الفلسطينية، التي يجب تحيتها، علماً أنها هي المعنية الأولى بوطأة الاحتلال الإسرائيلي، ومع ذلك ترفض منطق العنصرية واللاسامية كسلاح ضد إسرائيل. ف"الفنان" محمد صبحي غدا بطلاً في القاهرة، وقدوة في بغداد، وسوبرماناً في الجزائر، وعندما نقرأ مقابلات أجريت معه في الصحافة المصرية، يخيّل الينا أنه ضحية مخطط امبريالي، وأن سيرة فارسه سيرة حياة الأم تريزا. وهنا بالطبع لا بد من ذكر مسلسل "قاسم أمين" الذي، على رغم عيوبه واخطائه التاريخية والفنية والتصويرية، يقدم لغة أخرى تتكلم عن الحرية وحرية الرأي وعدم تخوين الآخر وحقوق المرأة، وغيرها من الأمور التي شهدت خلال القرن العشرين انحساراً رهيباً في العالم العربي. ويذهب "قاسم أمين" في حواراته أبعد تقدماً بكثير مما يبلغه الخطاب الرسمي المصري. حتى سجونه تبدو فنادق بخمس نجوم إذا ما قورنت بالسجون العربية الحالية. وكلام التحرر، هنا، لا يصدر عن ألسنة مثقفين "مستغربين"، بل يخرج من فم الشيخ محمد عبده الذي، في صراعه ضد الانكليز، لم يصارع العلم ولا رفض التطور والحداثة، كما هو الوضع في المسلسل المصري الآخر المقتبس عن حياة الشيخ محمد متولي الشعراوي التي تقدمه الفضائية المصرية أيضاً بشيء من الخجل للخارج في الساعة الثالثة بعد الظهر، أي الساعة التي قلما نجد فيها اناساً أمام التلفزيون. ويبقى بعض الكلام عن مسلسل "أين قلبي؟" والمقالات العديدة التي حيّت حداثة هذا المسلسل والصورة المختلفة التي يقدمها عن المرأة العاملة، ووجود الممثلتين يسرى وعبلة كامل، اللتين لم تقوما حتى الآن بأي عمل تافه في المجال الفني، واستطاعتا تفادي موجة السخافة العربية. بيد أن ل"تحرر" المسلسل حدوداً واضحة، فعندما ترفض إحدى البطلات الزواج من شاب خدعها بزواج عرفي، يقول لها اخوها الذي يظهر في المسلسل كرجل شهم ومثالي، بأن عليها الزواج من الرجل الذي تكرهه لأن ذلك نصيبها، وعندما تتصرف "وصال" عبلة كامل ك"رجل" مع خطيبها، فتمد يد العون المادية له، يشتمها الأخير وتظهر كأنها هي مرتكبة الخطأ، لأنها أهانت كرامة خطيبها وأذلته بتصرفها "الرجّالي"... نسبة من التحرر مرتفعة فعلاً في برامج هذه السنة. وكل سنة وأنتم بخير.