الأزمة الخانقة التي تعيشها وسائل الإعلام في روسيا نتيجة التدهور الاقتصادي وافلاس الدولة ليست الأولى منذ الحقبة الغورباتشوفية، أي منذ بداية استقلاليتها النسبية عن السلطة السياسية. فالصحافة في روسيا شهدت منذ القرن الثامن عشر زمن بطرس الأكبر، وحتى نهايات ثمانينات هذا القرن، رقابة متواصلة منعتها من أن تشهد نمواً طبيعياً وتتعلم كيف تستخدم الحريات التي انتزعتها من السلطة في العقد الأخير. "أخبار موسكو" التي كانت توزع مجاناً للسياح في روسيا الثمانينات وما قبل بوصفها الناطق الرسمي باسم الاتحاد السوفياتي، غدت في نهاية الثمانينات أحد رموز "الغلاسنونست": نقاشات، ريبورتاجات، صفحات رأي أوصلت المجلة إلى توزيع مئتي وخمسين ألف عدد أسبوعياً! في 1988 و1990، عاشت الصحافة الروسية مرحلتها الذهبية. عشرات الصحف الجديدة ظهرت في الأسواق، حتى ان المثقفين الروس غدوا يصرحون بأنه لم يعد لديهم الوقت لقراءة الكتب، فالتهافت على قراءة الصحف يملأ نهارهم. بالطبع هذه النشوة الجديدة لا تحظى بتأييد مختلف شرائح المجتمع، ونظام غورباتشوف الذي دشن المرحلة الانتقالية لم يمكنه اغضاب كوادر الحزب الشيوعي ومن هم يديرون مؤسسات البلاد. بيد أنه لم يعد يمكن الرجوع إلى الوراء. فصحيفة "برافدا" التي كانت في زمن الاتحاد السوفياتي على ما كانت من تحجر فكري، تسرعت تنتقد الصحافة السوفياتية على خضوعها للنظام، وهي التقاليد التي كانت "برافدا" رائدتها في الاعلام السوفياتي! نهاية الثمانينات كانت أيضاً بداية جديدة للتلفزيون الروسي: زعماء الدول الغربية غدوا ضيوفاً دائمين على البرامج، الكوارث الطبيعية لم تعد تذكر سوى في زاوية الاحوال الجوية، والتحقيقات حول الفساد والأزمة الاقتصادية بدأت تشمل العمود الفقري لنشرة الأخبار عوضاً عن التحقيقات الرسمية الرتيبة. إن سنة 1991 ومع تعاظم الأزمة الاقتصادية وتأجج أزمة الهوية السوفياتية، أخذت الصحف تظهر كأحد أسباب هذه الأزمات، وسرعان ما زُج ببعض الصحافيين في السجون وعاد الكلام عن ضرورة إعادة الرقابة، على الأقل على وسائل الاعلام السمعية - المرئية. الانقلاب الفاشل في صيف 1991 وضع حداً لهذه المحاولات وأعطى زخماً جديداً لإعلام اغتنم الفرصة لقطع صلاته التاريخية مع السلطة السياسية. صحيفة "أزفستيا" كانت الأولى في انتزاع استقلالها وأسرة التحرير قامت حتى بخلع رئيس التحرير لموقفه المتواطئ مع المتمردين. وبعد أسبوع على نجاح خطوة "أزفستيا"، طالبت وكالة الأنباء الرسمية "تاس" أيضاً باستقلالها ومن ثم جاء دور وكالة "نوفوستي" ومختلف الصحف وأسر تحرير النشرات الاخبارية في التلفزيون. غير ان بداية التسعينات التي كرست الحرية من حيث المبدأ للإعلام، ادخلت أيضاً الصحافة في دائرة الأزمة الاقتصادية. فغدت الصحف بالنسبة إلى بعض القراء من الكماليات وانخفض عدد توزيعها وعدد المشتركين فيها خصوصاً. جمهور واسع من الذين أصابهم الاشمئزاز من السياسات التي أدت إلى الهاوية الاقتصادية، أخذ يرى في الصحف التي كانت هللت لهذه السياسات، سبباً أساسياً في تردي أوضاعه. انخفاض عدد القراء واكبه أحد أول قرارات الرئيس يلتسن في مطلع 1992 والذي أوقف مساعدة الدولة لوسائل الاعلام. بعد شهر على هذا القرار، أخذت الصحف تشير إلى امكانية توقفها. عدد منها كان على عتبة الافلاس وريبورتاجات الصحف غدت تتكلم عن... أزمتها! ورغم عودة يلتسن عن قراره بعد أربعين يوماً على اتخاذه، اضطرت "برافدا" إلى التوقف ومن ثم الصدور ثلاثة أيام في الأسبوع عوضاً عن خمسة. بيد أن خوف الاعلاميين من العودة إلى وصاية الحكومة عليها، حملها على الانفتاح على الرساميل الخاصة. وكما في دول عدة في العالم، أخذت وسائل الاعلام الروسية تغدو ملكية رجال أعمال وتنصهر في "امبراطوريات إعلامية". هذه الفترة شهدت أيضاً ترسيخاً للتلفزيون التجاري الذي اغرق السوق بالألعاب والمسلسلات المكسيكية "الاغنياء يبكون أيضاً"، مسلسل الشعوب المخنوقة اقتصادياً وصلت نسبة مشاهدته إلى 90 في المئة من الجمهور الروسي. قد تكون الأزمة الحالية أكثر حدة من مختلف الأزمات التي سبقتها. فپ"بكاء الأغنياء" لم يعد يكفي لمؤاساة الجمهور أو حتى الصحافيين. صحيفة "كومسومولسكايا برافدا" ناشدت قراءها على المواظبة على شرائها على رغم ان عدد صفحاتها انخفض من ثمان إلى اربع. في صحف أخرى، انخفضت معاشات العاملين بنسبة 40 في المئة، كما بدأ تسريح عدد من الصحافيين: ثلثا العاملين في "أزفستيا" طردوا من وظائفهم. عائدات الاعلانات انخفضت بنسبة 30 في المئة، وعدد من شركات الاعلان اقفل أبوابه. صحافيو التلفزيون الذين غدا بعضهم نجوماً بمعاشات خيالية غالباً ما تقبض بالعملات الأجنبية، اضطروا أيضاً إلى القبول بمراجعة عائداتهم الشهرية. حتى المؤسسات الاعلامية الأميركية أو الأوروبية في موسكو أخذت تفكر جدياً في ايقاف نشراتها وتأجيل موعد اصدار مجلات وصحف كانت ستظهر في الأشهر المقبلة في روسيا. غير ان "الأغنياء" لا يبكون فعلاً في موسكو، والدليل أن صحافتهم لم تتقهقر كما هو حال وسائل الاعلام الأخرى. مجلة "فوغ" Vogue العالمية والشهرية لم تتراجع عن قرارها على رغم الأزمة، فأصدرت عددها الأول في الشهر الماضي: مئتان وأربع عشرة صفحة، وطبعة أنيقة يوازي سعر عددها سُبع معاش معلم مدرسة في روسيا! "فوغ" الروسية كانت قد أعدت العددين الأولين قبل انهيار الاقتصاد الروسي، ورؤية صفحات المعلنين فيها من مجوهرات وعطور وسيارات فخمة دليل ساطع على قدرة شرائح من المجتمع على العيش في خضم الأزمات. التنازل الوحيد الذي قامت به المجلة الأنيقة كان إلغاء حفل افتتاحها: لم يكن بالإمكان التأكد من أن التيار الكهربائي لن ينقطع خلاله..