انهيار الاتحاد السوفياتي أدى في التسعينات الى هجرة الملايين من روس ويهود وشعوب اخرى كانت أسيرة هذا الاتحاد. وبالطبع ابتدأ هذا النزيف البشري منذ الثمانينات، بعد توقيع معاهدة هلسنكي والحملات الغربية للافراج عن المعتقلين السياسيين. الموجات التي غادرت الاتحاد السوفياتي المنهار شكلت شتاتاً سوفياتياً بالمعنى الثقافي: ينطق باللغة الروسية مهما اختلفت أصوله العرقية. وهذا الشتات الذي ظهر كجسم في السنوات الأخيرة، أختار ثلاثة بلدان كأرض لجوء: المانيا والولايات المتحدة وبالطبع اسرائيل. ميزته الأولى انه سوفياتي، لا روسي، أي لا علاقة له بالهجرة الروسية التي اعقبت الثورة البلشفية، لذا استحال دمج الجماهير الوافدة بالروس البيض أو الذين فروا من امبراطورية القيصر. وهذا ملحوظ، أكان في برلين أو نيويورك أو اسرائيل، حيث الجاليات اليهودية الروسية التي قدمت في بداية القرن العشرين تُعتبر جزءاً من الاشكنازيم، بينما من وصلوا حديثاً يسمّون روساً ويُشكك بيهوديتهم، تماماً كما هي حال يهود اثيوبيا أو في الماضي البعيد يهود اليمن. ولهذه المجموعة الجديدة عدد مرتفع نسبياً من وسائل الاعلام المطبوعة: صحف، اسبوعيات، مجلات شهرية لها ميزات متشابهة بغض النظر عن مركز طباعتها، وبغض النظر عن قوميات صحافييها الاصلية. ففي المانيا، الصحافة الروسية الجديدة أكانت اقلامها روسية الأصل، أو المانية من الفولغا، أي من الالمان عرقياً، ومن الروس ثقافةً ولغة، أو كانت يهودية، فهي تتوجه الى الجمهور ذاته والأطر التحريرية نفسها. عدد القراء الروس يقدر في المانيا وحدها بثلاثة ملايين شخص، وعدد مطبوعاتهم يزداد يوماً بعد يوم، على رغم أزمة الصحافة العالمية وتراجع المردودات الاعلامية في العالم. هذه المردودات ما زالت تقدر في وسائل الاعلام الروسية في المانيا بحوالى سبعة ملايين دولار. ولكن عندما تبين ان تراجع العائدات الاعلامية سيؤدي الى اغلاق مجلة "أوست - اكسبرس" ومجلة "أوروبا زنتروم"، ظهر فجأة ممول روسي في العقد الثالث من العمر يقترح شراء المجلتين واعادة اصدارهما. أموال الشاب الروسي، حسب الشائعات، جناها من صفقات بيع الأسلحة. فمن ميزات هذه الصحافة انها لم تقطع بتاتاً علاقتها بوطنها الأم روسيا. اسبوعية "موسكوفنسكي كومسيز جرمانيا" الصادرة في برلين تختار اكثر من نصف مادتها التحريرية من صحيفة التابلويد الصادرة في موسكو "موسكوفسكي كومسوموليتز". اما في اسرائيل، فالإعلام الروسي - الاسرائيلي مرتبط بشكل وثيق بصحافة موسكو. التايكون السابق للاعلام الروسي فلاديمير غوزنسكي الذي يملك عدداً كبيراً من المحطات الاذاعية ومحطة تلفزيون وصحفاًَ ومجلات، دخل ايضاً في رأسمال صحيفة "معاريف" الاسرائيلية اليمينية بشرائه 25 في المئة من الاسهم. ومن جهة اخرى فإن الاحصاءات الاسرائيلية اظهرت ان 78 في المئة من المهاجرين الروس ما زالوا يشاهدون برامج التلفزيون الروسي عبر الكايبل و40 في المئة بينهم يعتبرون ان التلفزيون الروسي هو مصدرهم الاعلامي الأول. لذا فأي لقاء بين مسؤولين اسرائيليين وروس يعتبر شديد الأهمية لدى الاعلام الاسرائيلي الناطق بالروسية، ويساعد المسؤول الاسرائيلي في كسب أصوات اعداد كبيرة من الجالية الروسية. فالحنين لديهم الى روسيا، على رغم كراهية النظام السوفياتي السابق، هو في حجم خيبة أملهم من وطنهم الجديد اسرائيل. الميزة الاخرى لهذه الصحافة هي ضعف مقوّماتها وموادها التحريرية: اللغة، المحتوى، التنسيق بين الابواب المعالجة. في صحف المانيا الروسية مقابلة مع مسؤول سياسي قد يعقبها مقال حول صناعة المشروبات في المانيا. والابواب الاكثر ثباتاً في هذه الصحافة تنم عن ضعفها الاعلامي وبقائها كإعلام مهجري: دروس في اللغة الالمانية، امكانية الحصول على الضمان الصحي، شراء وبيع مساكن شعبية، فرص عمل، رحلات بسعر مغرٍ الى المدن الروسية، برامج محطات التلفزيون الروسية. اعلام لا علاقة له بالانتاج الروسي في برلين كما عرفته بداية القرن العشرين، حيث كانت اقلام كمكسيم غوركي أو بوريس باسترناك توقّع المقالات. الاسلوب ذاته نجده في الاعلام الاسرائيلي الروسي. ويظهر جلياً كم ان تجربة الصحافة الحرة غير معهودة في هذه المطبوعات. فهذا الاعلام لا يفرق بين الحدث والرأي، وغالباً ما نرى تلابساً بين هذين الأمرين المختلفين. كذلك فإن هذه الصحافة، التي نشأت على قراءة "البرافدا"، ما زالت تجيد الكتابة مع الرقابة الذاتية، وكأنها تريد اللعب مع القارئ وايصاله الى القراءة بين الأسطر. اما الوجه السياسي لهذه الصحافة فهو يميني بلا شك، يرى مثلاً في برنامج حزب العمل الاسرائيلي ما يذكره بالتجربة السوفياتية، وفي علمانيته ما قد يبعده عن التقاليد والعادات اليهودية، وفي نقاشاته حول التخلي عن المستوطنات ما ينفّر منه أناساً قادمين من امبراطورية ترفض التخلي عن الشيشان. واعلانات الاحزاب الاسرائيلية في الصحافة الناطقة بالروسية تختلف جذرياً عن اعلاناتها في الصحف العبرية. ففي الأولى، يغدو الكلام تربوياً ومطوّلاً وموّجهاً الى جالية لا تظهر اختلافاتها. وعلى رغم ان حزبين "روتينيين" يتقاسمان هذا الجمهور في اسرائيل، إلا ان الاعلام الروسي يحاول ألا يُظهرهما حزبين متنافسين. مارك صايغ