ليس من الأمور العادية، في المناخ الراهن لسينمانا العربية ومهرجاناتها، ان يتوقف المعنيون طويلاً عند ذلك النوع من السينما: السينما التسجيلية. فهو نوع لا رواج كبيراً له. يخرج عن السائد، وبالكاد يحتفي به احد، حتى إذا قيض له ان يعرض. لكن سينما اللبناني اكرم زعتري، خرجت عن ذلك المألوف السلبي، وصار لها - بين اعمال مشابهة لتسجيليين آخرين - حضورها وجمهورها. من هنا حين فاز زعتري اخيراً، بالجائزة الكبرى في مهرجان الإسماعيلية، صفق كثر، ورأى اكثر منهم ان هذا الفوز تتويج لسينمائي مجتهد، ولكن ايضاً لنوع سينمائي آن له ان يخرج من الظل اخيراً. إذاً، خرجت السينما التسيجيلية من اطار الريبورتاج الصحافي الذي يزدري الى حد ما ادوات المخرج، وها هو يطغى في المقابل جانب فني تطورت فيه مهمة الكاميرا لتتعدى اطار التسجيل في محاولة اكتشاف الواقع المحيط، ما يدل الى تطور العلاقة بين المخرج والكاميرا والقدرة على التفاعل الحي مع ادواتها. لم تعد متنفساً يستخدمه الشباب لعدم توافر كاميرا السينما، بل اداة مختلفة تماماً بفاعليتها على رغم الفائدة التي تحققها لاستمرار حركة السينما. ربما نهتم دائماً بما يريد المخرج قوله، إلا اننا بتنا نصب اهتمامنا على كيفية قوله ضمن الرؤية الفنية الخاصة به. وهذا ما نراه اليوم في كاميرات شباب جديد يصنع سينماه وينتمي إليه بالطبع اكرم زعتري وفيلمه "هو " هي فان ليو" افضل فيلم في مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية. وزعتري كان حقق قبله مجموعة منوعة من الأفلام التسجيلية والقصيرة، ثم جاء الأخير ليكون خلاصة تجربته، ما اكسبه نضجاً على مستوى الفكرة وعمقاً في المعالجة ومتعة في المشاهدة. يحكي الفيلم قصة "شاب" وجد صورة ل"جدته" كما اوحى لنا في خزانة امه أو ربما أبيه والصورة عارية موقعة من المصور "فان ليو" في القاهرة عام 1959. وكان هذا دافعه للسفر بحثاً عن المصور ليتعرف إليه ويعرفنا به وبفنه ضمن علاقة ثلاثية تجمع بينهم الشاب/ الجدة/ فان ليو محولاً تلك العلاقة الى لعبة ومغامرة، كما هي الحال في افلامه الأخرى. ولكن لم يكن اكرم زعتري مخرجاً فحسب في فيلمه، بل كان طرفاً في الحكاية، على الصعيد الشخصي من خلال حكاية الجدة المبتكرة، وعلى الصعيد الفني بالتقابل بينه كمصور سينمائي بكاميرا الفيديو وبين مصور فوتوغرافي. دخول اكرم في الفيلم كانت دافعه رغبة دائمة بدخول الشخصي وهو اكد ذلك قائلاً: "دافعي الدائم لأفلامي نابع من ذاتي وفي حال عدم وجود مدخل شخصي ألغي العمل". لكن، الى اي مدى دفعه الذاتي ليكون جزءاً من اللعبة وليس فقط مدخلاً إليها؟ سواء في اسئلة طرحها على المصور عن الجدة وصورها العارية وأمور شخصية اخرى، أو من خلال لحظات نجد المصور فيها يسأل الزعتري عن فنه وكيفية استخدامه كاميرا الفيديو، استطاع المخرج خلق علاقة بين مصورين - الفوتوغرافي والسينمائي - فتحت باباً آخر لنقاش فنين وعرض واحد من طريق الآخر، ليس للمقارنة وإنما للاستكمال وصولاً الى يومنا الراهن. وعن هذا أضاف زعتري: "فان ليو مصور تقليدي عمل في حرفة التصوير الفوتوغرافي لا تنتمي بالضرورة الى يومنا هذا، وربما بدأت تموت. لذا احببت ان يكون الفيلم معاصراً برؤيته للصورة الفوتوغرافية أو لما يسمى بالتراث ومقارنتها بالحاضر الفيديو في محاولة لإعطاء انتاج الصورة بعداً آخر مختلفاً....". من هنا تأتي محاولة اكتشاف كاميرا الفيديو جمال الصور القديمة وفنيتها، عبر مشاهد تدخلنا معها لعبة الاكتشاف من خلال إضاءة البيل التي تكتشف اجزاء متناثرة ثم تستكملها... وهو كرر ذلك بأكثر من شكل على صورة الجدة، او ان صح التعبير على شخصية الجدة، امرأة حقيقية قريبة للمخرج كما أقنعنا وببراعة، كانت دافعاً للبحث عن المصور فان ليو، والبحث في فنه والحديث معه والقول من خلاله. لقد أدخل اكرم زعتري الجدة كعنصر سردي موضحاً السبب: "أحببت القيام بإسقاط لصورة الجدة من زمنها الى يومنا هذا، تلك الصورة التقطت سنة 1959، ما يعني ان عمر المرأة الآن يقارب عمر جدتي، عادة لا نتخيل جداتنا عاريات، وربما لا نتخيل ماضيهن، وذلك هو البعد الذي احببت اضافته الى الصورة... ربما تحجبت المرأة اليوم او ما زالت متحررة...". حاول المخرج بطرحه هذا كسر المألوف في تفكيرنا لنعيد النظر في علاقتنا بماضينا نحن الذين نعتقد دوماً اننا اكثر تحرراً من اناس "متحجرين" عاشوا في الماضي. فماذا لو اكتشفنا انهم كانوا اكثر تحرراً، ولمسنا هذا من وجود صور كثيرة اشار إليها المصور وقال إنه قام بحرقها "نظراً لتغير ظروف المجتمع المصري؟". نصف قرن في شخص فإن ليو المصور بطل الفيلم، ان جاز التعبير، مصور ارمني، عاش حياته منذ الولادة في مصر وحقق ابداعاته فيها، كان شاهداً على عصر ووثيقة تاريخية وفنية مهمة لم يفكر احد بتدوينها طوال حياته وفترة نشاطه، حتى جاء اكرم زعتري بعد كل ذلك الوقت وحقق هذا، ومن هنا اكتسب فيلمه اهمية كبرى كونه الوثيقة الوحيدة التي تتحدث عن فان ليو ومعه. تتحدث معه عن طفولته وبداية علاقته بالتصوير، ومعاناته خلال خمسين عاماً، وتحديداً منذ حريق القاهرة الذي كاد يفقده الاستوديو، ثم ثورة يوليو وقضية فلسطين... وهو ينهي الحديث عن ذلك مصرحاً: "البلد مشد ما شي طبيعي"، كما تتحدث معه عن الفن وتاريخ الصورة وتاريخه الذي لا ينفصل عن معطيات الواقع والزمن آنذاك وصولاً الى اليوم المتمثل بمعطيات جديدة وفن مختلف، حاول اكرم زعتري ان يريه اختلافه وما آل إليه عبر حوار بين زمنين وجيلين مع اختلاف الهموم والتقنية معاً. في افلام اكرم عادة مجموعة اشارات هي اشبه بألغاز يفكها قلائل، وإن لم تتضح للمتلقي الذي يمكنه ايجاد دلالة اخرى لها. ومنها هنا لغز متفق عليه بين المخرج وفان ليو ضمن العلاقة الجامعة بينهما في الفيلم، وهو كيفية دمج صورتين للشخص ذاته، احداهما سلبية والثانية ايجابية. اذ قام فان ليو بالتجربة منتجاً شكلاً غريباً للوجه مختلفاً عن الأصل وكان فخوراً بذلك لصعوبة العملية. اما اليوم فيريه اكرم ويرينا سهولة دمجهما بالفيديو في اكثر من مشهد ولأكثر من شخص. من هنا نفهم علاقة فان ليو بالصورة كما اوضحها المخرج لنا، فهو لا يعتبر هذه الاختراعات فناً، الصورة اليوم لون فقط بينما الفن في رأيه يقوم في العلاقة بين الأبيض والأسود. أراد المصور ان يكون فناناً حقيقياً، لذا لم يجمع من المال إلا قليله على رغم شهرته، لم يفته تصوير فنان او شخصية مهمة... ما عدا الرؤساء، ولو أراد لفعلها لكنه رفض "ففي ذلك ترخيص لفنه"، و"دعاية فقط". تصوير فنان او "موديل" في رأيه يحمل اهمية فنية اكبر بكثير مما يحمل تصوير رئيس ما. ولاشتراك المخرج في الفيلم كمصور مقابل، لم ينس ايضاح علاقته هو بالصورة سواء تلك الفوترغرافية التي حولها الى صورة مختلفة بوضع الكلمات عليها، كأن يكتب تعليقاً ما تحت صورة في جريدة، او يرفقها بصوت غناء يعلق عليها ويوضحها، او السينمائية التي يجد فيها صعوبة تركيب العمل ككل والبحث في شكله وقصته وصوته... ضمن قالب واحد. ويرى اكرم زعتري ان "الصورة الفوتوغرافية تستطيع العيش وحدها في الفضاء من دون حكاية او سرد، ربما يكفيها تعليق. وهي كاذبة لإغفالها ما تريد وتركيزها على ما تريد. كاذبة لعدم معرفتنا بهدفها او خلفيتها، صورت كإثبات لشيء ما، اي انها ترينا في الوقت نفسه شيئاً حصل، لا نعرف من حقيقته إلا الجزء الظاهري. لكن الصورة في واحد من جوانبها وثائقية، وهذا ما احب البحث فيه عند توافر عدد كبير من الصور يسمح بعمل مقارنة". مقارنة زمنية لم يكن هدف زعتري تشريح فكرة العمل على الصورة الفوتوغرافية فقط بل شدد في فيلمه على اهمية مقارنتها بيومنا هذا. ربما هي الاستمرارية التي اكدها من خلال كاميرته التي صورت من دون انقطاع تسلسلاً كبيراً لمجموعة صور ابرزها من خلال اشكالها ووضعياتها والموسيقى والكلام المرافق لها. هو عرض لتاريخ من خلال الصورة وليس من خلال الكلمة هذه المرة. وهذه الاستمرارية تقرأ ضمن الزمن بالضرورة، ويؤكد المخرج ذلك بقوله: "إننا نرى اشياء وأفلاماً كثيرة من دون محاولة قراءتها بالنسبة الى الزمن. احب ان تكون افلامي شاهداً على مرحلة وفترة زمنية، ووثيقة عن مكان وحال قد تكون اجتماعية او سياسية...". تلك الشهادة التي يحاول المخرج عرضها ضمن وجهة نظره الفنية تلزمه تطويع الشكل والمضمون، لذا يرفض التقيد بشكل او اسلوب معين للفيلم الوثائقي، مفضلاً تحرره من اي شكل وقدرته على اضافة عناصر عدة ان استلزم الفيلم". ربما يملك زعتري القدرة على ذلك لتحرره المادي والتجاري والرقابي وحتى الجماهيري ان استلزم الأمر، فهو لا يهتم كما يقول بعرض الفيلم على الجمهور إذا كان ذلك سيكون على حساب الموضوع. هذه الشهادة لا تتوقف عنده على اشخاص فقط يعرض واقعاً من خلالهم، بل تتطور علاقته بالصورة لتولد مشروعاً مهماً هو "خلق ارشيف ضخم لاستعمال مستقبلي" يرصد تغير الأمكنة في مدينة ما وتأثير الزمن فيها من دون ان يكون الهدف صنع فيلم مهدد، وبالتالي يرصد واقعاً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً... ويضيف قائلاً: "لا يوجد مشروع وثائقي كامل مفصول عن فكرة المنتوج ومعمم بتوثيق حياة وتجربة بلد او مدينة كاملة، وربما كان هذا ما اطمح إليه أنا...". والسؤال هنا: الى اي درجة سيساعدنا مشروع يسجل يومنا على تحليل تحولات الغد؟