جاء داود أولاد السيد للسينما من التصوير الفوتوغرافي. كان من جيل المخرجين المغاربة الشباب الذين برزوا في مهرجان السينما المغربية قبل الأخير، بأفلامهم القصيرة المختلفة. سبق لداود أن انجز ثلاثة أفلام قصيرة قبل أن يخوض غمار الفيلم الطويل "الذاكرة البنية" عام 1993، و"بين الغياب والنسيان" عام 1994، الذي نال عنه تنويهاً خاصاً من لجنة تحكيم مهرجان السينما العربية في باريس، ثم تنويهاً آخر في مهرجان "كيمون فور". أما آخر أفلامه القصيرة "الواد" …1995، فحصل على جائزة أحسن صورة في المهرجان الرابع للسينما المغربية في طنجة، وجائزة في مهرجان مونتريال في كندا عام 1996، وفي السنة نفسها نال جائزة أخرى في مهرجان السينما العربية. فيلمه الطويل الأول "باي باي سويرتي" الذي انجزه عام 1998 حصل على جائزة العمل الأول في مهرجان السينما العربية في باريس، وعلى جائزة النقد لسينما البحر المتوسط في مهرجان مونبيلييه. وفي الدورة الخامسة لمهرجان السينما المغربي الذي اقيم أخيراً في الدار البيضاء حصد أربع جوائز: جائزة التحكيم الخاصة، جائزة أحسن سيناريو، جائزة النقد وجائزة الصحافة. وفي غمرة فعاليات هذا المهرجان التقيناه ليحدثنا عن بداياته، وتأثير الجوائر في مشواره. من الفيزياء إلى السينما بعد تجربة لا بأس بها مع الأفلام القصيرة، دخلت غمار الفيلم الطويل باخراجك "باي باي سويرتي"، ما الصعوبات التي واجهتك في مسيرتك السينمائية؟ - لم أفكر أبداً أنه كانت عندي يوماً ما صعوبات. تعال معي أحكي لك كيف دخلت هذا الميدان، ربما يمكنني أن اقنعك أنني صادق. قصتي نشأت بصورة مغايرة عن أولائك الذين اكتشفوا القاعات المظلمة ثم بعد ذلك أصبح همهم ان يمارسوا الاخراج أو التمثيل. بعدما حصلت على الدكتوراه في الفيزياء، وكنت لم أحدد بعد موقفي من البقاء في فرنسا أو العودة إلى الوطن، أيامها كنت دائم التسكع من معرض إلى آخر، إذا بي ذات مرة اكتشف صوراً لهنري كارتيي بروسون، فأصبت بشبه صدمة لم أفق منها إلا وأنا مصور فوتوغرافي. وهكذا تغير مساء حياتي من الفيزياء إلى الصحافة. لكن كيف وصلت إلى السينما؟ يسأل داود ثم يجيب عن طريق فرنسي آخر جون كلود كاريير الذي كان يومها مديراً ل "ليديك" معهد لدراسة السينما في باريس، إذ جاء إلى المغرب لاجراء تمارين على كتابة السيناريو، وكلفتني الصحيفة التي كنت أعمل فيها بتغطية فوتوغرافية لمحاضراته وأعماله التطبيقية. وعوض أن أقوم بالعمل المناط بيّ وجدتني وبفضول مراكشي أولاد السيد من مدينة مراكش القي أسئلة، وما أن طلب كاريير متطوعين ليحكوا قصة تطبيقية لما ألقاه من دروس في السيناريو، كنت أول المتطوعين. وهكذا عرض عليّ كاريير منحة لدراسة السينما فقبلت. ولما انهيت تدريبي عدت إلى المغرب وانجزت ثلاثة أفلام قصيرة، وها أنا ذا انتهيت من فيلمي الأول. لم تواجهني صعوبات، لكن المعاناة تأتي اثناء المخاض الابداعي. تبدأ اثناء كتابة السيناريو ولا تتركك إلا مع انتهاء المونتاج النهائي للفيلم. الذاكرة كنت وما زلت تشتغل داخل المغرب بخلاف زملائك الشباب الذين فضلوا المنفى الإرادي أو عاشوا معظم مراحل حياتهم في المهجر. ولاحظنا في مهرجان السينما المغربية الرابع احتفاء بهؤلاء الشباب، إذ حصدوا معظم الجوائز المخصصة للأفلام القصيرة، وهذا تكرر في المهرجان الخامس. بالمقابل همشت أفلام الجيل الشاب المقيم في الداخل. الآن وبعدما حقق فيلمك "باي باي سويرتي" نجاحاً في مهرجانات دولية، واعترافاً محلياً، هل تغيرت نظرتك إلى الأمور؟ وهل تظن ان المسؤولين عن السينما أحسوا ان جيلاً جديداً فرض نفسه، وأن عليهم ادخاله في حساباتهم؟ - غيرت نظرتي؟ لا أبداً... كان بامكاني أنا أيضاً الاقامة في فرنسا، لكني رفضت. إن بعدي عن بلدي يصيبني بالحزن، وهذا أمر جربته. فعلى رغم المشاكل التي يعانيها "سينمائيو الداخل"، أنا مقتنع أنه لا يمكن لأي مبدع في أي مجال - وفي السينما بالذات - أن ينتج شيئاً ذا قيمة فنية عن مجتمع هو بعيد عنه. فكل الأفلام التي سيصنعها اشخاص يقطنون في أوروبا نلمس فيها حساً تغريبياً، إضافة إلى أن الهاجس الذي يسكنني، هو صناعة أفلام عن الذاكرة. إذن كيف لي ان اعالج مواضيع تتعلق بهذه التيمة وأنا اعيش في الخارج؟ وماذا عن المسؤولين في قطاع السينما؟ - لا ادري. أظن ان السؤال يجب أن يطرح عليهم وليس لي ان أجيب نيابة عن أحد. لفت انتباهنا في الأفلام التي شاركت في المسابقة الرسمية لمهرجان السينما المغربية الخامس انك ونبيل عيوش فقط من جيل الشباب - ممن برزوا عام 1995 في طنجة - استطعتما انجاز فيلميكما الطويلين الأولين. إلى ماذا ترد هذا التأخر في دخول غمار التجربة الروائية الطويلة، هل إلى نقص في الامكانات المادية، مع العلم ان هذا المعوق لا ينطبق إلا على المخرجين المقيمين في المغرب، أم لأسباب أخرى؟ - أنا ونبيل عيوش جئنا من "مدرسة" الفيلم القصير، خلافاً لبعض المخرجين المغاربة الذين منذ البدء ولجوا عالم الفيلم الطويل، اظن ان المرور بمرحلة انجاز أفلام قصيرة أمر ضروري للتمكن من الصنعة والتحكم في التقنيات السينمائية، هذا بغض النظر عن الكفاءة ودرجة الابداع القابع داخل كل مخرج. وفي ما يخص التأخر أو الاسراع ففي رأيي ان التأني قبل خوض غمار أي عمل سينمائي جديد، هو الطريق الممهد للذهاب بعيداً بنجاح في هذا الميدان. لا بد من ممارسة عملية "الفلاش باك" الرجوع إلى الوراء حتى تتمكن من تقويم ما انجزته سابقاً. وحتى الاستعداد لمشروع سينمائي وطريقة إعداده يلزمها وقت. فأنا الآن عندي سيناريو فيلم، مرت علينا، أنا وأحمد البوعناني، خمسة أعوام ونحن منكبون على كتابته وتنقيحه، فإذا اكتمل خلال سنتين، يكون ذلك جيداً. لا أحب الاشتغال بسرعة، إضافة إلى أن المشكل بالنسبة إليّ والمخرجين ليست مسألة كمّ، بل هي الهاجس الذي يظل يؤرقك حتى يخرج فيلمك إلى الوجود، حيث في انتظار ذلك الكيف، الذي إما ان يصدمك ويجعلك في حال شلل فكري وابداعي أو يدفع بك إلى الأمام. معظم الممثلين الذين تختارهم يأتون من المسرح، ونحن نعلم ان مجهوداً يجب أن يبذل مع الممثل المسرحي ليعطي اقصى ما عنده في السينما. وأهم ما اتفق عليه في فيلم "باي باي سويرتي" ان التمثيل فيه جيد. هل يمكن لك أن تحدثنا عن الطريقة التي تتبعها في توجيهك أو إدارتك للممثل؟ - أول شرط في اختياري للممثل هو الكفاءة. فأنا أرفض التعامل مع الهواة. ولا أتعامل بكيفية "الكاستينغ"، إذ لا اعتمد في انتقاء ممثل على صورة ارها له أو على شكله، بل اذهب غالباً لحضور عروض مسرحية، وهناك يتم الاختيار. وفي الغالب اعتمد على فريق، لأني أؤمن انك حتى وإن أتيت بممثل جيد وآخر كذلك، فإن لم يكن بينهما انسجام قد يفسدون لك العمل. الطريقة نفسها اتبعتها في "باي باي سويرتي"، فمن خلال محمد بصطاوي الذي يجسد الشخصية المحورية في الفيلم، جمعت ممثلين ليكملوا أداءه. شيء آخر أريد أن أشير إليه وهو أن حب الممثل الذي اشتغل معه واحترامه من الأمور التي أركز عليها. فالجانب الإنساني في التعامل مع الممثلين يعطي حتماً نتائج ايجابية، لكنني بالمقابل ضد إعطاء الحرية المطلقة في الأداء للممثل، لأنني أيضاً "مكبل" بسيناريو وبالمكان والملابس... الخ، والحوار هذا المكون الرئيسي المكتوب... هل أرمي بكل هذا وراء ظهري وأدع الممثل يتصرف كما يشاء؟ وعلى رغم ذلك، لا أحب ان أحول الممثل إلى آلة لتنفيذ ما أريد، بل اطلب منه أداء مشهد أمامي، بعد ذلك أحاول أن أجره إلى تجسيد ما يدور في ذهني، عبر نقاش يمر من دون مشاكل أو شعور من الممثل بأنني أفرض عليه أشياء، اما أنه لا يستطيع اداءها أو أنه غير مقتنع بها أو لا يحسها. الصورة والسيناريو التيمة الأساسية في فيلم "باي باي سويرتي" هي الصورة، لا كوسيلة فحسب، بل كفن معشوق ومرغوب، ونحن لا نقصد هنا الصورة السينمائية فقط، بل تركيزك في الفيلم مثلاً على التصوير بكاميرا الفيديو وشخصية المصور الفوتوغرافي... الخ، ألا تظن ان هذه الاحالات الى الجانب المرئي وبكثافة - رغم بعدها الجمالي - جاءت على حساب السيناريو، إذ كان من الممكن لو تم تطويره ان يعطي أبعاداً أعمق ويمنح للمتلقي والمهتم امكان التأويل وتعدد القراءات؟ - مع احترامي لوجهة نظرك هذه، فإنا لا اتفق معك. ذلك أن التيمة الأساسية في فيلم "باي باي سويرتي" هي الذاكرة. من الأشياء المسلّم بها أن السينما كتابة بالصورة والصوت. والمشكل، من وجهة نظري، يتجلى في كون الصورة في معظم الأفلام المغربية كانت رديئة يضيف بنوع من الحدة إذا كانت الصورة في "باي باي سويرتي" جيدة، فهذا ليس ذنبي. فيلمي القصير الأخير حصل على جوائز للصورة ولكنني لا اعتبر الصورة سوى أحد مكونات الفيلم التي يجب اعطاؤها حقها، كما الصوت والأمور الأخرى. وبرجوعي إلى مسألة السيناريو، أشير إلى أن الكمال شيء يُنشد. والنتيجة بالنسبة إليّ كانت موفقة بنسبة معقولة، بمعظم ما كنت أطمح إلى تحقيقه حصلت عليه، وإن بدا لك ان السيناريو يشكو من بعض الضعف، فإني اظن ان فيلمي المقبل سيكون أحسن بكثير. نلاحظ ان كل أفلامك القصيرة كانت بالأبيض والأسود، لماذا هذا الاختيار؟ أهو ايضاً ذلك الارتباط الحميمي بمهنتك كمصور فوتوغرافي؟ - قد لا أجيب بطريقة مباشرة. اني الاحظ في كلام معظم المهتمين عندما يحدثونني عن أعمالي السينمائية نوعاً من المقارنة لا احبذها بمهنتي الأولى، وكأني كمصور لا يحق لي أن امارس الاخراج. إن السينما هي خلاصة كل الفنون، وحتى لو وظفت خبرتي في التصوير الفوتوغرافي، ولو انه يختلف كثيراً عن التصوير في السينما، فهذا من حقي، وإضافة مني للسينما المغربية على الأقل. العديد من السينمائيين العالميين جاؤوا من ميدان التصوير الفوتوغرافي أو جمعوا بينه والسينما. هناك على سبيل المثال أنيس فاردا وستانلي كوبريك وفيم فاندرس. هذا الأخير الذي كان يردد مقولة مفادها: "انا مصور فوتوغرافي ثم بعد ذلك مخرج سينمائي"، وهو ما زال يقيم معارض لصوره. لهذا من يشاهد "باريس تكساس" أو فيلمه الأخير "آخر الدنيا" يجد ذلك التأثر أو، إن شئت، التداخل بين المجالين؟ - أنا متفق معك. إذن فالصورة في هذه الأفلام جميلة وجيدة، لكنها ليست سوى أحد المكونات التي يقوم بها العمل ككل.