يقول هنري كيسينجر في كتابه "تشكيل دبلوماسية الولاياتالمتحدة في القرن الواحد العشرين" بأن أميركا اصبحت اليوم القوة العظمى الوحيدة في العالم واخذت بتشكيل سياسية خارجية جديدة بعد انتهاء الحرب الباردة. وتبرز استراتيجيتها الجديدة بوضوح في تزعّمها العالم وفي الخلافات الاقتصادية والسياسية والثقافية التي ادت الى ظهور هويتين مختلفتين تقريبا: واحدة اميركية واخرى اوروبية. واذا كانت اوروبا قد هيمنت على العالم لمدة خمسة قرون مضت، فانها تعيش اليوم حقبة جديدة لا تقوم على ميزان القوى القديم وترفض منطق السياسة الميكيافيلية بوعي اخلاقي جديد ينبذ اسلوب القوة ويلتزم بالتفاهم والحوار الدبلوماسي والتعاون الاقتصادي مع دول العالم. وظهر هذا الوعي بوضوح على لسان وزير الخارجية الالماني يوشكا فيشر في خطاب له في جامعة هومبد في 12/6/2000 معتبراً أن جوهر مفهوم اوروبا بعد 1945 كان ولا يزال يقوم على رفض مبدأ ميزان القوى وطموحات الهيمنة التي برزت غدة معاهدة سلام وستفاليا لعام 1648، وان الاتحاد الاوروبي نفسه هو حصيلة هذا الرفض. اما رومانو برودي رئيس المفوضية الاوروبية فقال في باريس يوم 19/5/2001 بأن "القانون حل في اوروبا محل عروض القوة وفقدت سياسات القوة بذلك نفوذها، وبنجاحاتنا في الوحدة نظهر للعالم ان من الممكن اقامة عالم مسالم". وكان روبرت كاغان احد الخبراء الاستراتيجيين واليمينيين في الولاياتالمتحدة كتب في جريدة "ذي تسايت" الالمانية في 11/7/2002، بان اوروبا اصبحت اليوم ضعيفة ولكنها لا تريد ان تعترف او تتصور أن اميركا غدت اليوم القوة العظمى في العالم. وقد آن الاوان لكي نتوقف عن الادعاء بان الاوروبيين والاميركان يتقاسمون اليوم وجهة نظر مشتركة حول العالم، او حتى انهم يعيشون في عالم واحد. فثمة خلافات عميقة وسوف تستمر على الارجح وبخاصة فيما يتصل بتنفيذ السياسات الخارجية الدفاعية والقضايا القومية المصيرية. وقد افترقت الولاياتالمتحدة عن اوروبا ولم تعد لهما ثقافة استراتيجية واحدة. كما تغير اليوم ميزان القوى بشكل درامي وتغيرت معه وجهات النظر الاستراتيجية في مفهومي القوة والضعف كآلية سياسية في العلاقات الدولية. ان التجربة الفريدة بانشاء الاتحاد الاوروبي انتجت مجموعة من المبادئ المتعلقة بفعاليات القوة تختلف تماما عن مبدأ القوة للولايات المتحدة. وفي هذا الخلاف بدأ الشرخ الاستراتيجي بينهما، الذي اصبح اليوم اكثر وضوحا من اي وقت مضى، كما اشار الى ذلك فوكوياما، في احدث مقال له قائلا ان الخلاف اخذ يتوسع ولم يعد مشكلة عابرة، وهو يمثل اليوم خلافا واضحا وبخاصة "حول موقع الشرعية الديموقراطية في الحضارة الغربية". وكما يشير كاغان فان اوروبا ترى اليوم ان مفهوم القوة الاميركية اخذ ينمو ويتوسع بسرعة نحو باقي انحاء العالم عبر شعار "الحرب الاستباقية" وتغيير انظمة الحكم بالقوة واخذت اميركا تنظر الى نفسها من خلال ممارستها فن السيطرة على العالم، على ما رأى الفيلسوف الانكليزي توماس هوبز في القرن السابع عشر من أن النظام الملكي لا يمكن ان يكون بأمان دون استخدام القوة والسيطرة. وهذا في الحقيقة مصدر الخلاف. ومن هنا لا يعود التفاهم بينهما سهلا او موقفا عابرا يتعلق برئيس جمهورية او بحدوث كارثة، كما حصل في 11 ايلول سبتمبر الماضي، وانما هو خلاف استراتيجي. فبعدما كان الاوروبيون يفخرون بالدفاع عن مصالحهم العليا، وكان الاميركيون يعنون بالقانون الدولي ويقفون ضد سياسة القوة، تغير الزمن وضمر انبهار الاوروبيين بالقوة والحرب، فيما بدأ زمن انبهار الاميركان بهما. وما حدث ليس سوى تبادل في المصالح والادوار. والحقيقة ان الاختلاف في وسائل القوة هو الذي يقود الى الاختلاف في تقدير المخاطر كما يقول كاغان. ولهذا فالوحدة الاوروبية تتراجع عن سياسة القوة، اذ من يدرك هذه المخاطر اكثر من الالمان والفرنسيين؟ وكما قال فيشر "فان القوانين العدوانية لسياسة القوة في اوروبا قد الغيت، وحدث ما هو اعجب من الجغرافية السياسية حيث جلس الاسد الالماني على العشب الى جانب الحمل الفرنسي". لقد تركت اوروبا ما بعد الحداثة مصالح القوة والسيطرة وراءها واستطاعت تخطي مبدأ القوة ذاته. ومثلما قال روبرت كوبر "يعيش اليوم المان وفرنسيون واسبان في منظومات ما بعد الحداثة التي تقوم على مبدأ رفض العنف واستبدال عقل الدولة بوعي اخلاقي عن طريق التفاوض والحوار واستخدام محفزات حصر الدولة بخطوات صغيرة تكبح الطموح الى القوة وهي اصل المصالحة التي قامت عليها العلاقات الجديدة في المانيا وفرنسا". كذلك لعبت الانتلجنسيا الاوروبية دورا مهما في رفع الوعي الاجتماعي والسياسي الذي ساعد بدوره على تطوير اوروبا ما بعد الحداثة وازدهار ليبراليتها الجديدة التي تتجه الى قيام علاقات عالمية وتوسيع نطاق التقدم العلمي التقني الى بقية انحاء العالم بعد ان اخذت تفكر بوعي اخلاقي جديد باعتبارها حفيدة عصر التنوير.