أمير الشرقية : الدكتور عبداللّه الربيش قدم جهوداً مميزة ومقدره    تركي آل الشيخ يتصدر أكثر الشخصيات تأثيراً في عالم الملاكمة لعام 2024    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    وزير الطاقة يزور عدة مصانع متخصصة في إنتاج مكونات الطاقة في المدينة الصناعة بالرياض    «تقييم الحوادث»: قوات التحالف لم تستهدف «مستشفى باقم» ولا «اليتمة» ولا مدنيين    أذربيجان تعلق رحلاتها إلى الشيشان لحين انتهاء التحقيق في سقوط إحدى طائراتها    "السويلم" يدعم مستشفى البكيرية العام لتأمين عددًا من الأجهزة الطبية    تنفيذ حكم القتل قصاصاً بإحدى الجانيات في منطقة الرياض    حرس الحدود بعسير ينقذ طفلاً من الغرق أثناء ممارسة السباحة    نقل تراخيص المسارح من الترفيه إلى هيئة المسرح    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    صحيفة الرأي الالكترونية توقّع شراكة مع جمعية يُسر بمكة لدعم العمل التنموي    وزير التعليم يُدشِّن أول مدرسة حكومية متخصصة في التقنية للموهوبين    بأكثر من 12.6 مليار ريال.. أمير جازان يُدشِّن ويضع حجر الأساس ل 552 مشروعًا    الإسعاف الجوي بنجران ينقل مصابا في حادث انقلاب    وزير الموارد البشرية يشارك في تعزيز العمل العربي المشترك خلال اجتماعات التنمية الاجتماعية في البحرين    أمير الشرقية يرعى الاحتفال بترميم 1000 منزل في المنطقة    المسعودي رئيسا للاتحاد السعودي للشطرنج حتى 2028    الأمير عبد العزيز بن سعود يكرم مجموعة stc الممكن الرقمي لمعرض الصقور والصيد السعودي الدولي ومهرجان الملك عبدالعزيز للصقور    وزير الداخلية يعزز التعاوزن الأمني مع نائب رئيس وزراء قطر    لمطالبتها ب 300 مليار دولار.. سورية تعتزم رفع دعوى ضد إيران    استشهاد فلسطيني متأثراً بإصابته في قصف إسرائيلي شمال الضفة الغربية    ميدان الفروسية بحائل يقيم حفل سباقه الخامس للموسم الحالي    "التخصصي" يتوج بجائزة التميز العالمي في إدارة المشاريع في مجال التقنية    "سعود الطبية" تعقد ورشة عمل تدريبية عن التدريب الواعي    الإحصاء: ارتفاع مساحة المحميات البرية والبحرية في المملكة لعام 2023    الجمعية العامة للأمم المتحدة تعتمد اتفاقية تاريخية لمكافحة الجرائم الإلكترونية    الفرصة ماتزال مهيأة لهطول أمطار رعدية    أهلا بالعالم في السعودية (3-2)    رغم ارتفاع الاحتياطي.. الجنيه المصري يتراجع لمستويات غير مسبوقة    إيداع مليار ريال في حسابات مستفيدي "سكني" لشهر ديسمبر    تهديد بالقنابل لتأجيل الامتحانات في الهند    إطلاق ChatGPT في تطبيق واتساب    العمل الحر.. يعزِّز الاقتصاد الوطني ويحفّز نمو سوق العمل    أمير الرياض يستقبل سفير فرنسا    وافق على الإستراتيجية التحولية لمعهد الإدارة.. مجلس الوزراء: تعديل تنظيم هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    أمير الرياض ونائبه يعزيان في وفاة الحماد    تقنية الواقع الافتراضي تجذب زوار جناح الإمارة في معرض وزارة الداخلية    لغتنا الجميلة وتحديات المستقبل    أترك مسافة كافية بينك وبين البشر    مع الشاعر الأديب د. عبدالله باشراحيل في أعماله الكاملة    تزامناً مع دخول فصل الشتاء.. «عكاظ» ترصد صناعة الخيام    السعودية واليمن.. «الفوز ولا غيره»    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للجنة الحج المركزية    زوجان من البوسنة يُبشَّران بزيارة الحرمين    أخضر رفع الأثقال يواصل تألقه في البطولة الآسيوية    القيادة تهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي    القهوة والشاي يقللان خطر الإصابة بسرطان الرأس والعنق    القراءة للجنين    5 علامات تشير إلى «ارتباط قلق» لدى طفلك    الدوري قاهرهم    «عزوة» الحي !    أخطاء ألمانيا في مواجهة الإرهاب اليميني    استعراض خطط رفع الجاهزية والخطط التشغيلية لحج 1446    سيكلوجية السماح    استدامة الحياة الفطرية    قدرات عالية وخدمات إنسانية ناصعة.. "الداخلية".. أمن وارف وأعلى مؤشر ثقة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المبالغة في الخطر على الهوية تكرّس معوقات التحديث السياسي عربياً وإسلامياً
نشر في الحياة يوم 04 - 05 - 2000

خلال الأسبوع الأخير من نيسان ابريل 1999وبفارق يومين كان عليّ أن أجيب تلفونياً على سؤال واحد وجهته إلى إذاعة فرنسية وفضائية عربية لندنية: ما هي عوائق تحديث الممارسة السياسية العربية الإسلامية؟ لا شك في أن الممارسات السياسية التي أكل عليها الدهر وشرب وآخرها الرئاسيات الجزائرية هي التي طرحت هذا السؤال على جميع الشفاه داخل الفضاء العربي الإسلامي وخارجه.
السؤال الذي طُرح عليَّ جدّي، ومعاصريّ من المثقفين الفارّين إلى أرشيفات التراث قلَّما طرحوه أو أجابوا عليه من دون مُوَاربة. عوائق هذا التحديث الذي به نكون معاصرين لعصرنا أو لا نكون تختزل في عائق مركزي تتفرع منه باقي العوائق: عجز النُّخب الفكرية والسياسية البنيوي منذ قرنين عن الانخراط في مغامرة الحداثة الأوروبية المنْشأ والتي لا حداثة سواها. لمَ هذا العجز؟ لأن التراث الذي استُبطن كعائق ذهني شلّ فاهمة النخبة التي واجهت الحداثة كخطر على الهوية لا كفرصة لمعاصرة عصرها.
رهاب الحداثة هو الذي قضى على مجتمعاتنا بأن تظلّ بدرجات متفاوتة تقليدية، أي يحكم فيها الأموات من وراء قبورهم حياة الأحياء على حد تعريف أوغست كونت للمجتمعات التقليدية. شاهد تقليديتنا الفضائيحة هو أن النّقل ما زال في الفضاء العربي الإسلامي يكفّر العقل والتقليد يقطع الطريق - حقيقة لا مجازاً - على التجديد والقدامة تحارب فيه الحداثة.
بند الحداثة الأول اليوم هو الانتقال من أنماط الحكم الملطّخة برواسب العصور الوسطى الى الديموقراطية الغربية المنشأ والكونية التطبيق، ومن القوانين القروسطية المستلهمة للعقوبات البدنية الى القوانين الحديثة التي تستمد شرعيتها حصراً من مطابقتها للقيم الإنسانية والعقلانية التي تبنّاها "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" في 1948. من دون احترام حقوق الإنسان بدءاً من الحق في حرية التعبير الى الحق في العمل، تفقد الديموقراطية شرعيتها.
يتجلى غياب الحداثة السياسية في الفضاء العربي الإسلامي في ستة غيابات أساسية:
1- غياب فصل الدين عن السياسة "لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة" كما صاغه محمد عبده وأعاد صياغته تلميذه سعد زغلول: "الدين لله والوطن للجميع". خلط الديني بالسياسي خطر على كليهما: خطر على الدين لأنه زج بالمقدس، بما هو ثبات ومثالية وتعال تمتزج فيه الخشية بالسر والانبهار، في أتون دنيوية السياسة بما هي تغير وواقعية وابتذال تتحكم فيها العوامل العقلانية أي الاعتبارات الجيوبوليتيكية، الاقتصادية، الاجتماعية والسايكولوجية... وخطر على السياسة أىضاً خصوصاً لأنه يعيقها عن اكتساب الشرعية الحديثة المستمدة حصراً من "الشعب السيد" عكساً للشرعية التقليدية المستمدة من الحق الإلهي سواء تجسد في ولاية الولي الفقيه، الذي يستمد شرعيته من الله لا من الشعب، كما في إيران، أو في تطبيق الشريعة كما في السودان وأفغانستان وباكستان أو في بعض القوانين التفتيشية مثل قانون الحسبة كما في مصر، أو في فتاوى التكفير وإهدار الدماء التي تتعاطاها الحركات الدينية المتعصبة.
خلط الديني بالسياسي هو الذي حَرَم قوانين معظم البلدان في الفضاء العربي والإسلامي من أن تكون وضعية تستمد شرعيتها حصراً، شأن جميع قوانين عصرنا، من العقل مفهوماً كمصلحة بشرية عامة لا علاقة لها بالمطلق أو الميتافيزيقي المتعالي على التاريخ. القانون الوضعي، خلافاً للقانون الديني، واقعي، بشري، نسبي، محكوم بالمتغيرات لا يطمح أبداً الى المطلق أو اليقيني أو النهائي أو الغائي أو الجوهراني.
حصر الديني في الحقل الشخصي وحصر السياسي في الشأن العام مكسب إنساني حديث بل هو لبّ الحداثة بما هي انتصار للعقل على النقل لكنه لا يخلو أيضاً من سند ثمين في الإسلام والتيار العقلاني في تراثه كما تشير الى ذلك بوضوح الآية 105 من سورة المائدة: "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفُسكم لا يضركم مَنْ ضلّ إذا اهْتديْتم": "وأصح التأويلات عندنا، كما يقول الطبري، ما روي عن أبي بكر الصديق فيها ...: إلزموا العمل بطاعة الله، وبما أمركم به وانتهوا عما نهاكم عنه، فإنه لا يضركم ضلال من ضلّ". كما عرف تاريخ الإسلام تياراً كلامياً يفصل فصلاً حاسماً بين الديني والدنيوي، يحصر اختصاص الشرع بأمور الآخرة والعقل بأمور الدنيا. يقول الشاطبي في "الموافقات" نقلاً عن هذا التيار العقلاني: "مصالح الدنيا كلها تعرف بالعقل ... خلافاً لمصالح الآخرة التي لا تدرك إلا بالشرع".
2- عدم الفصل بين الدين والسياسة أعاق تحقيق فصل آخر لا يقل عنه حيوية هو الفصل بين المؤمن والمواطن الذي حققته الثورة الفرنسية: فالمواطن الحديث هو الذي ينتمي حصْراً الى الوطن دونما اعتبار لانتماءاته الخصوصية الأخرى الدينية، الطائفية أو الإثنية. أما المؤمن فهو الذي يؤمن بدين الغالبية أو الأقلية من دون أدنى نتائج على مواطنته التي لا يرقى إليها الهمس. الإيمان الحديث لا يوزَنُ بميزان المواطنة سلباً أو إيجاباً فلا يعطي حقوقاً سياسية ولا يحرم منها. بإمكان المسلم أن يترشح لرئاسة الولايات المتحدة أو فرنسا لكن ليس بإمكان المسلم السني أن يترشح لرئاسة الجمهورية في إيران ولا بإمكان المسلم الشيعي أن يصبح رئيس جمهورية في العراق التي يمثل فيها الشيعة 56 في المئة من السكان! فالدولة الطائفية التي هي في الحقيقة دون الدولة ودون السياسة، لا تعترف بالمسلم من الطائفة الأخرى وتجرد غير المسلم من حقوق المواطنة الإنسانية والسياسية بما هو - في نظرها - مجرد مقيم عليه واجبات وليست له حقوق!
3- غياب المواطن الحديث، المنتمي الى وطن لا إلى طائفة أو قبيلة والمتساوي أمام القانون في الحقوق والواجبات مع جميع المواطنين والمتمتع بحقوق المواطنة جميعاً الكفيلة وحدها بجعله يشعر بالانتماء الى الوطن لا بالإقصاء من حظيرته، شاهد محزن على غياب الفرد السيد المالك لرأسه وفرجه والمحقق لذاته والمستمتع بحياته والمقرر بنفسه لمصيره في حياته اليومية والمستقل في حميمياته واختياراته عن المجتمع المسكون عادة بروح القطيع التنميطية النفورة من التفرد والتميز والامتياز وهي جميعاً التي تجعل من الفرد فرداً غير ذائب في هلام Informel القبيلة أو الطائفة أو الأمة التقليدية التي لا تعترف إلا بمن تتعرف على نفسها فيهم لأنهم منها وإليها ينتجونها ويعيدون إنتاجها دونما إضافة أو تجديد. وهذا هو سر مأساة الموهوبين في المجتمعات ما قبل الحديثة التي تعتبر نقد قيمها الموميائية شذوذاً على موروثاتها مستوجباً للعقاب.
الاعتراف بالفرد كواقع وكفهوم هو الأساس الذي قامت عليه عمارة الحداثة التي أوجدته وأنقذته من الذوبان في الجماعة المغْفَلَة بتسكين الغين الانتقال من قطيعية المجتمعات الإقطاعية الى فردية المجتمعات الرأسمالية تأسس على الفرد سواء في الاقتصاد أو في البحث العلمي أو حتى في تحديث المسيحية لأن الإصلاح الديني البروتستانتي هو في العمق مطالبة بالاعتراف بأسبقية المؤمن، كفرد، على الكاثوليكية كمؤسسة. دفاع فلاسفة الأنوار عن ضرورة تحرر العقل من رق التقاليد اللاهوتية والسكولاستيكية وعن انتصار مبدأ سيادة الشعب على الحق الإلهي الذي تأسست عليه الديموقراطية عنى أصلاً الاعتراف بالفرد المتمتع بجميع حقوقه المدنية والسياسية في وجه نزوع الدولة - أية دولة - الى انتهاك القانون والخروج عليه. منذ "إعلان الحقوق" الإنجليزي سنة 1689 إلى "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" الفرنسي في 1789 وانتهاء ب"الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" الأممي سنة 1948 حاولت الحداثة ولا تزال الانتصار لاحترام حقوق الإنسان الفرد في وجه تقاليد المجتمع المتكلسة وقوانين الدولة الجائزة. كما حاول التيار المضاد للحداثة منذ الفاشية والنازية والستالينية الى الأصولية الدينية محاربة مفهوم الفرد وحقوق الإنسان والديموقراطية لأنها نفي جذري للمجتمع التقليدي الهرمي الذي تحنّ الى العودة إليه.
الفرد هو أيضاً اكتشاف غربي المنشأ زرعت بذوره بالإصلاح الديني، بفلسفة الأنوار وبالثورة الصناعية الإنكليزية والثورة السياسية الفرنسية لكنه غدا اليوم مكسباً إنسانياً معترفاً بصلاحيته الكونية، لذلك تعاظم الطلب عليه في الفضاء العربي الإسلامي خصوصاً من الأجيال الصاعدة الحساسة لنداء غرائز الحياة.
4- الفرد الحر والمواطن المسؤول هما أساس المؤسسات الحديثة التي نهضت على أنقاض المؤسسات التقليدية: القبلية والطائفية. الحال الجنينية للفرد والمواطن الحديثين في مجتمعاتنا تفسر ضعف المجتمع المدني الذي هو نقطة انطلاق الحداثة السياسية. فلا شيء كالمجتمع المدني المهيكل للتصدي لنزوع الدولة الى التغوّل. دولة القانون تقيم شرعيتها على عقد اجتماعي تمت فيه مقايضة الطاعة بالأمن والحرية المدنية. خضوع المرء كرعية للقانون الذي شارك في صنعه كمواطن حر أما الدولة الهوبزية المتغوّلة فتقوم على عقد إذعان تقايض فيه حفظ الأمن بالطاعة. لكن باستفحال الإرهاب المتستر بالدين، كما في الجزائر أو تحول الدولة الدينية نفسها الى إرهابي سينيك كما في إيران، غدت الدولة المتغوّلة تفرض على رعاياها الطاعة من دون أدنى مقابل! الأرضية الملائمة لتطور المجتمع المدني هي العائلة النووية والقطاع الخاص وهما بعد جنينيان. بالتأكيد تفكك العائلة التقليدية العشائرية يتسارع لكن العائلة النووية الأبوين" الأبناء ما زالت، كمؤسسة سائدة ذهنياً وسوسيولوجياً، قيد المخاض. تحديث الاقتصاد، بدمجه بالدورة الاقتصادية العالمية عامل موضوعي يساعد على تسريع الانتقال الى العائلة الحديثة التي لا تسود إلا في مجتمع استهلاكي وأيضاً في ظل شبكة متطور من مؤسسات التضامن الاجتماعي كبديل حديث للأسرة التقليدية المفرِّخة للاستبداد.
الرافعة الثانية للمجتمع المدني هي القطاع الخاص الذي يُخضع السياسة للاقتصاد عكساً لرأسمالية الدولة التي تخضع الاقتصاد للسياسة. الفضاء العربي الإسلامي الذي يحكمه كما يقول محمد أركون "عسكريون من دون مشروع سياسي وتجار من دون مشروع اقتصادي"، إضافة الى سياسية التأميم المهؤوسة في الستينات افتقد الى القطاع الخاص دولة الشاه مثلاً أممت 70 في المئة من الاقتصاد. بدأت الآية تنعكس اليوم تحت ضغط العولمة. فالمؤسسات الحاملة لها تقدم حوافز تغري بالخصخصة والاندماج في السوق الدولية لتصفية الحمائية التي هي الأساس الذي يقوم عليه المجتمع التقليدي اقتصادياً وثقافياً.
عولمة الإعلام هي الأخرى عامل موضوعي حاسم في تحديث الذهنيات أي العادات والقيم المؤسسة للسلوك الفردي أو الجمعي لأنها حاملة لتلاقح ثقافي ديموقراطي جديد. وبما هو كذلك فهو لا يجرح المشاعر الجماعية لمستقبليه كما حصل في القرن الماضي بل بالعكس يستحثهم على التحديث بتحويله من عرض خارجي الى طلب داخلي عارم.
الحرب اليومية التي تخوضها ميليشيات النظام التيوقراطي الإيراني ضد طلاب وشباب إيران الظامئين لمشاهدة فضائيات "الشيطان الأكبر" أصابت الملالي بالصدمة. لقد هالهم أن الأجيال التي ظنوا أنهم غسلوا أدمغتها بإعلامهم وبرامجهم المدرسية تجازف بحريتها وأحياناً بحياتها لتستمتع بالثقافة الغربية وتقلّد نمط الحياة الأميركي "المنحل". مما حدا برئيس مجلس الأمن القومي في إدارة كلينتون الأولى انتوني ليك على أن يكتب: "نحن مدينون للأصولية الإيرانية التي جعلت الشباب الإيراني يتخذ من نمط الحياة الأميركي مثله الأعلى".
5- تلافياً لعدم كفاية عوامل التحديث من الداخل، تطرح الهيئات الإقليمية والدولية لقبول الشراكة أو الاستثمار شرطين شارطين: التقدم وإن ببطء نحو الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان بتعريف الحد الأدنى: احترام سلامة الجسد والحق في الحياة. تركياً مثلاً لم تفتح لها أوروبا الموحدة بابها لا لأنها مسلمة كما تراءى لبعض من ناقشوني بل لأنها تنتهك حقوق الأقلية الكردية المعذبة.
تقف النخبة التقليدية من الحداثة الديموقراطية موقفاً فصامياً: التباكي عليها وشجب الاندماج في السوق الدولية الذي هو الطريق الملكي إليها! الأدهى من ذلك رفضها الفضائحي للركن الركين الذي تستمد منه الديموقراطية حصراً شرعيتها: الشعب السيد بدلاً من الحق الإلهي سواء تجسد في ولاية الفقيه الذي "يستمد شرعيته من الله لا من الشعب" ناطق نوري 6/11/1998 أو في تطبيق العقوبات البدنية كما في السودان وأفغانستان. رفض الإقرار بالشرعية الشعبية كأساس للديموقراطية رفض للديموقراطية لمصلحة التيوقراطية.
أداة الديموقراطية هي الاقتراع العام، الذي يفترض حكماً ليكون عاماً إسماً ومسمّى مشاركة جميع المواطنين الراشدين كناخبين ومنتخبين بفتح الخاء والحال أن المرأة وغير المسلم لا يحق لهما الترشح لبعض المناصب السياسية. بل إن المسلم نفسه إذا كان من الطائفة الأخرى محروم من هذا الحق الأولى من حقوق المواطنة. فمن المحظور على المسلم السني أن يترشح لرئاسة الجمهورية في إيران مثلما يحظر على المسلم الشيعي أن يطمح إليها في العراق ناهيك عن المرأة والبهائي والكلداني واليهودي... فيما يحق للعربي الإسرائيلي أن يترشح لرئاسة الحكومة في إسرائيل!
6- المدرسة هي مخبر تكوين المواطن الحديث المسلح بوعي المواطنة المشتركة كهوية متعالية على باقي الهويات الخصوصية. وببعد نظر قال لطفي السيد: "أعطوني المدرسة أعطيكم المواطن الذي تريدون" لأنه يعرف أن صانع القرار التربوي في الغرب يطرح على نفسه قبل صنع قراره السؤال المركزي: أي نوع من المواطن أريد ولأي نمط من المجتمع؟
جل بلدان الفضاء العربي الإسلامي الجزائر ومصر نموذجاً أوكلت للاتجاه المضاد للحداثة صنع وتنفيذ القرارات التربوية مما أدى الى العواقب المأسوية التي نعرف. وهكذا لم تف المدرسة بمهمة دمج الأجيال الصاعدة في عصرها، عصر تسارع التاريخ والتحديث الدائم للحداثة، عبر استبطان قيمه بل فصلتها عنه وشدّتها الى الماضي. تغيير الوضع الراهن البالغ الحرج يتطلب ثورة بيداغوجية وسياسية تقلب البرامج والمناهج التقليدية المتخلّفة والمخلّفة لوعي مواطن الغد رأساً على عقب: من أجيال تدرس كتب الشعراوي منذ الإعدادي. وهي مؤلفات تحصّنها ضد كل معرفة علمية أو عقلانية بل ضد القراءة أصلاً لأن الشيخ يتباهى أمام قرائه التعساء بأنه لم يقرأ كتاباً واحداً منذ خمسين عاماً! كيف نعيد توجيه هذه المدرسة لتضطلع بالتحديث السياسي: فصل الديني عن السياسي، المؤمن عن المواطن، الفرد عن ابن العشيرة والتيوقراطية عن الديموقراطية؟ بإعطائها برنامجاً حديثاً يعيد صياغة وعي ولاوعي النشء الذي يتعرف على نفسه في المواطنة التي تتقاطع فيها الهويات الأخرى وتتضاءل أمامها، في نظام واحد هو الديموقراطية التي لا تستثني أي مواطن بقطع النظر عن جنسه أو خصوصيته الثقافية من التمتع بحقوقه السياسية، وفي نسق قيم أساسية لا ينتهكها ولا يسكت عن انتهاكها هي حقوق الإنسان كما جاءت في "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، وفي التفكير بنفسه لا بأسلافه وأخيراً في الامتثال للحرية المدنية أي فقط للقوانين التي شارك هو نفسه في صياغتها من خلال ممثليه المنتخبين ديموقراطياً.
المادة المثالية لتحقيق هذه المهمة المركزية هي التدريس الوظيفي للتاريخ بحيث يغدو مخبراً لصنع المواطنة كهوية حديثة مشتركة لنوفر على الأجيال الصاعدة ويلات الحروب الطائفية التي اكتوينا نحن بنارها وما نزال. تحديث مفهوم المواطنة المشتركة هو حجر الأساس في تحديث الممارسات السياسية وإنقاذها مما تُكابده من تخلف مخيف يلطخ كل يوم أكثر صورة ومصداقية شعوب هذه المنطقة في عصر CNN حيث غدت الصورة المميزة والمصداقية رأسمالاً رمزياً لا يقدّر بثمن. لا أصدر هنا عن افتراض نظري بل عن تجربة تاريخية ناجحة هي تجربة الجمهورية الفرنسية الثالثة في أواخر القرن الماضي التي يعود إليها الفضل في صياغة وعي المواطنة المشتركة بالمدرسة حيث غدا الطفل الكاثوليكي، البروتستانتي، البروطوني والأفروني يتعرفون على أنفسهم، كمواطنين، حصراً في فرنسا الوطن الذي دافع عنه الغولوا في القرن الأول قبل الميلاد ضد قيصر، والذي شرع آل كلوفيس يحوّلونه شيئاً فشيئاً الى دولة منذ ألف عام والذي قادت جان دارك في القرن الخامس عشر معركة تحريره من الاحتلال الإنكليزي.
مثل هذا التدريس الوظيفي للتاريخ والذي لا يجافي الحقيقة التاريخية تفتقده جل المدارس العربية والإسلامية التي ما زالت متثبتة في لحظة الفتح الإسلامي على نحو تقويظي يهزأ بالحقيقة التاريخية سواء بتجاهله للحظات التاريخية السابقة لها أو بتجنيه عليها. فالتلميذ المصري مثلاً يكاد يجهل تاريخ اللحظتين الفرعونية والقبطية الأساسيتين والمؤسستين في تاريخ الحضارة المصرية والإنسانية.
منذ ست سنوات فقط شرعت المدرسة التونسية تدرس للصغار تاريخهم منذ اللحظة القرطاجنّية في القرن السابع قبل الميلاد الى الآن. كما بدأوا يدرسون تاريخ الأقلية اليهودية الذي يعود الى 27 قرناً والحال أن بعض المتطرفين كانوا في السبعينات وبداية الثمانينات يقول في دروسهم بالمساجد إن "اليهود دخلوا الى تونس مع الاستعمار الفرنسي"!
إضافة الى التدريس الموضوعي للتاريخ يمثل تحديث تدريس "التربية المدنية" فرصة ثمينة للتحديث السياسي عندما تقدم للناشئ قيم الحداثة السياسية كما ولدت وترعرعت في الغرب وبخاصة قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان. وهذا ما لا أثر له في المدرسة العربية الإسلامية التي ما زالت تسمم وعي الصغار بقيم تقليدية ميتة ومميتة لضميرهم الأخلاقي الحديث. منذ ثلاث سنوات فقط أدرجت المدرسة التونسية "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" كمادة أساسية في جميع مراحل التعليم. وخليق بالمدرسة في الفضاء العربي الإسلامي أن تنسج على منوالها. لأن تدريس حقوق الإنسان للصغار تحصين لهم ضد انتهاكها أو السكوت على انتهاكها. وليس مصادفة أن الاتجاه المعادي للحداثة وقيمها من أقصى اليمين العنصري في الغرب الى التطرف الديني في أرض الإسلام، يجاهر بعداء الديموقراطية والأساس الذي تقوم عليه: حقوق الإنسان. زعيم أقصى اليمين الفرنسي جان ماري لوبين ركز في خطابه في أول أيار مايو 1999 على أن "صربيا ضحية هي أديولوجيا حقوق الإنسان". كما يقول متشدد إسلامي تونسي: "وما كانت بهم المصلحون حاجة الى وضع مواثيق لحقوق الإنسان والمواطن طالما أن يقينهم تام، واعتقادهم راسخ بأن الصورة الأمثل للإنسان فرداً أو جماعة قد تضمنها الكتاب العزيز". ويضيف رداً على محاولة النخب الإسلامية في القرن الماضي تبني الحداثة السياسية: "إن عملية إدخال التنظيمات أو الدساتير في القرن الماضي إلى عدد من المجتمعات الإسلامية، مثل مصر وتونس وحاضرة الخلافة، قد مثلت وحققت بدايات خطيرة لاختراق المجتمعات الإسلامية من طرف الدول الغربية" الحريات العامة في الدولة الإسلامية ص 39- 40 بيروت 1993 مشيداً بالحرية في الدول الإرهابية التي تدوسها في اليوم ألف مرة كما في "بيوت الأشباح السودانية": "وإلى قريب يذهب الأستاذ الترابي "إلى أن الحرية هي قدر الإنسان الذي تميز عن كل مخلوق سواه"، المصدر نفسه جاعلاً من الدستور التيوقراطي الإيراني نموذجاً يحتذى لكل دولة مسلمة! النخب الحاكمة التي يتهمها المتطرفون الإسلاميون بالحداثة على رغم أنها تطبق في التعليم والتشريح برنامجهم تناهض هي أيضاً إدخال الحداثة الفلسفية والسياسية الى برنامج التعليم: وزير التعليم المصري مثلاً لا حصراً قرر السنة الماضية جعل مادة الفلسفة اختيارية في الثانوية العامة. أما تدريس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فأمر لم يخطر له على خاطر!
تحديث التعليم تأهيلاً لمواطني الغد للاضطلاع بحقوق المواطنة وواجباتهم يفترض حكماً مقرطة التعليم أي مدرسة - Scolarisation - جميع من هم في سن الدخول الى المدرسة. وهذه مسألة حاسمة بالنسبة للمجتمعات العربية الإسلامية لأن عمال القرن المقبل سيكونون من التقنيين، المهندسين، الباحثين، الأطباء والعلماء. تؤكد توقعات الأمم المتحدة بأنه "لا مستقبل لأمة تتجاوز نسبة الأمية فيها 10 في المئة" والحال أن معدلات أمية من هم في سن الدراسة تتراوح بين 40 في المئة كما في مصر و50 في المئة كما في المغرب فقط في تونس لا تتجاوز نسبتهم 2 في المئة.
المتباكون على غياب الحداثة السياسية في الفضاء الإسلامي يحولون الديموقراطية الى شعار فارغ عندما يرفضون بسينيكية أركان هذه الحداثة و في مقدمها الفصل الحاسم بين الديني والسياسي كما فعل الذين ناقشوني في الفضائية اللندنية أخيراً.
* كاتب تونسي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.