68 % نمو السجلات خلال 20 شهراً منذ سريان نظام الشركات الجديد    «السياحة»: نسبة إشغال الفنادق في الرياض تجاوزت 95%    رئيس مجلس الشورى يرأس وفد السعودية في الاجتماع البرلماني بدورته ال 29 لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية في باكو    نيابة عن ولي العهد.. وزير الخارجية يصل إلى البرازيل لترؤس وفد السعودية المشارك في قمة دول مجموعة ال20    انتظام اكثر من 389 ألف طالب وطالبة في مدراس تعليم جازان    "سعود الطبية" تستقبل 750 طفلاً خديجًا خلال 2024م    فريق طبي ينجح في استخدام التقنيات الحديثة للتحكم بمستوى السكر في الدم    علاج فتق يحتوي 40% من احشاء سيده في الأحساء    "دار وإعمار" تختتم مشاركتها في "سيتي سكيب جلوبال" بتوقيعها اتفاقياتٍ تمويليةٍ وسط إقبالٍ واسعٍ على جناحها    "ثبات للتطوير العقاري" تختتم مشاركتها الناجحة في "سيتي سكيب 2024" بتحقيق مبيعاتٍ نوعيةٍ وتوقيع اتفاقياتٍ مع بنوكٍ رائدة    وزير الرياضة يشهد ختام منافسات الجولة النهائية للجياد العربية (GCAT)    "المواصفات السعودية" تنظم غدًا المؤتمر الوطني التاسع للجودة    "الأرصاد"سماء صحو إلى غائمة على جازان وعسير والباحة ومكة والمدينة    المكسيكي «زوردو» يوحّد ألقاب الملاكمة للوزن الثقيل المتوسط لWBO وWBA    «الطاقة»: السعودية تؤكد دعمها لمستقبل «المستدامة»    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    اليوم بدء الفصل الدراسي الثاني.. على الطريق 3 إجازات    20,124 مخالفاً في 7 أيام وإحالة 13,354 إلى بعثاتهم الدبلوماسية    شمال غزة يستقبل القوافل الإغاثية السعودية    نفاد تذاكر مواجهة إندونيسيا والسعودية    منتخب هولندا يهزم المجر برباعية ويلحق بالمتأهلين لدور الثمانية في دوري أمم أوروبا    «إعلان جدة» لمقاومة الميكروبات: ترجمة الإرادة الدولية إلى خطوات قابلة للتنفيذ    5 فوائد صحية للزنجبيل    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    أهم باب للسعادة والتوفيق    أغرب القوانين اليابانية    اختلاف التقييم في الأنظمة التعليمية    مهرجان الزهور أيقونة الجمال والبيئة في قلب القصيم    المتشدقون المتفيهقون    الإستشراق والنص الشرعي    محافظ محايل يتفقد المستشفى العام بالمحافظة    أمن واستقرار المنطقة مرهون بإقامة دولة فلسطينية مستقلة    أشبال الأخضر يجتازون الكويت في البطولة العربية الثانية    إطلاق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    السخرية    المؤتمر العالمي الثالث للموهبة.. عقول مبدعة بلا حدود    ضمن منافسات الجولة ال11.. طرح تذاكر مباراة النصر والقادسية "دورياً"    اكتشاف تاريخ البراكين على القمر    «واتساب»يتيح حفظ مسودات الرسائل    عروض ترفيهية    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يستعرضان الشراكة الإستراتيجية    البيان المشترك الصادر عن الاجتماع الثاني للجنة الوزارية السعودية- الفرنسية بشأن العُلا    14% نموا في أعداد الحاويات الصادرة بالموانئ    الحكمة السعودية الصينية تحول الصراع إلى سلام    الابتسام يتغلّب على النصر ويتصدّر دوري ممتاز الطائرة    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    رحلة قراءة خاصة براعي غنم 2/2    وطنٌ ينهمر فينا    المرتزق ليس له محل من الإعراب    حكم بسجن فتوح لاعب الزمالك عاما واحدا في قضية القتل الخطأ    ابنتي التي غيّبها الموت..    ألوان الأرصفة ودلالاتها    خطيب المسجد الحرام: احذروا أن تقع ألسنتكم في القيل والقال    أمير تبوك يطمئن على صحة الضيوفي    ختام مسابقة القرآن والسنة في غانا    أمير الباحة يكلف " العضيلة" محافظاً لمحافظة الحجرة    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ترجح بين خصوص الأمة - الدولة وبين عموم مواطن الحقوق : . مناقشة أوروبية للفيدرالية من طريق "برلمنة" الاتحاد الأوروبي الموسع
نشر في الحياة يوم 27 - 07 - 2000

يستأنف يوشكافيشر، وزير خارجية ألمانيا الأخضر، وتستأنف دعوته الى فيديرالية أوروبية ودستور أوروبي، في خطبته بجامعة هومبولدت ببرلين في 12 أيارمايوالمنصرم، تقليداً، "غربياً" أو فيديرالياً نسبة الى ألمانيا "الفيديرالية" وخلافاً لألمانيا "الديموقراطية"، الشرقية أو السوفياتية يعود ربما الى غداة الحرب الأولى والجمهورية الأولى. فيومها عمد أهل السياسة والاشتراع الى تحميل الدولة الادارية والعسكرية، البروسية والبيسماركية، التبعة عن الكارثة التي حلت بألمانيا جراء عدوانيتها القومية وجراء عسكرتها اقتصادها وعلومها ومجتمعها، وتوسلها بهذه العسكرة الى انشاء امبرطورية في قلب أوروبا ودولها - أممها الطرية العود.
وسوغ تحميل الدولة البروسية والبيسماركية التبعة عن سياسة التوسع والحرب صوغ دستور وضع اصحابه ومقترحوه نصب أعينهم تقييد الدولة المركزية، ونواتها الأريستوقراطية الإدارية والصناعية، بقيود محلية وعامية شعبية. فعلى الضد من السعي البروسي والبيسماركي في جمع مقاليد السلطة والأمر بين يدي نخب لا تدين بشرعيتها وبنفوذها الا لمنزلتها وقيمتها وعملها، بمعزل وبمنأى من التكليف والانتداب الانتخابيين والتمثيليين، نزع الدستور الجديد الى تقديم التكليف والتمثيل والتعاقد الانتخابي على ما عداها من قيم ومعايير تصل أهل السياسة والدولة مباشرة ومن غير وساطة بالأمة أو بالشعب، وتنصب المسؤولين قيادات، وتجلوهم زعماء وأعلاماً على قومهم "وروح" قومهم.
وعلى هذا قسَّم الدستور الديموقراطي الوحدة الألمانية، وحدة الشعب العرق والقوم المرصوصة، ونظيرها الدولة والسلطة المجتمعتان في رأسهما وقمتهما قسَّمها، وحدات وكيانات تشريعية واجتماعية محلية و"وطنية"، وناط وحدتها السياسية والمولَّدة بوسيط دستوري. و نص الدستور على قواعد العلاقة بين الولايات أو "البلدان" الألمانية، وحمل الوحدة الوطنية على الوسيط الدستوري. ولكن النازية ألَّبت فئات المانية عريضة كانت تنؤ بثقل الهزيمة،وروَّعها عنف الحرب العالمية الأولى المدمر، وشردتها البطالة، وقطع التضخم أواصرها الاجتماعية الأولى، ألبت النازية شطراً عظيماً من الألمان، وهذه حالهم، على الديموقراطية الدستورية. وجددت النازية تأليف الألمان ودمجهم من طريق الحركة الجماهيرية في دولة "قومية - اجتماعية" لا فرق فيها بين الألمان الصرحاء، ولا محل فيها لا للصلاحيات الدستورية، ولا للتمثيل أو التعاقد والانتداب المقيد، ولا معنى لمراتب التشريع والتنفيذ والقضاء.
فكانت كارثة الحرب الثانية الاختبار الذي أخرج الألمان من سطوة "الحلم" الألماني ومن غاشية الأسطورة الألمانية، وكان داعيهم القوي الى ترسيخ ديموقراطيتهم على ركنين: الركن الفيديرالي والدستوري في الداخل، والركن الأوروبي في الخارج. ولعل تلازم الركنين هو من سمات الثقافة السياسية الألمانية المعاصرة. فالألمان، على لسان سياسييهم وكتابهم ووجوه نقاباتهم وروابطهم وجمعياتهم، يؤثرون ألا يتركوا لأنفسهم و"شياطينهم" القومية، وهم خبروا مثل هذا خبرة مريرة من قبل، ويدعون غرب أوروبا، عدوهم السابق اللدود ومهد الدولة -الأمة الديموقراطية وحقوق الانسان، الى الحجز بينهم وبين نوازعهم المدمرة الى الخصوصية والفرادة والأصالة.
وحين يخاطب يوشكا فيشر الألمان والأوروبيين، عشية تولي فرنسا الرئاسة الدورية للمجلس الأوروبي وقبل اشهر قليلة من انعقاد الندوة الحكومية وبتها في نحو خمسة عشر طلب انتساب جديد الى الاتحاد الأوروبي، ويدعوهم الى استكمال العمارة السياسية القارية والانتقال من "الكونفيديرالية الى الفيديرالية" وانجاز "الاندماج الأوروبي" على حسب عنوان محاضرة فيشر، فانما يستأنف استطلاع الرئيس الألماني الأسبق كارل فريدريش فون فايزايكر، أحد "الضمائر" الخلقية الألمانية الناصعة، أفق "سياسة داخلية مضمارها العالم الأجمع" في 1990، ومعيار علاقاتها هو عينه المعيار الحقوقي والقانوني الذي يرعى العلاقات بين المواطنين في الدولة الواحدة.
وكان ألماني آخر، هو دييتير غْريم، أحد الكتاب السياسيين البارزين، اشترط على الدستور الأوروبي والفيديرالي العتيد ثلاث شروط تسبقه وتمهد له الطريق وهي نشأة مجتمع مدني يتخلل مجتمعات الدول الأوروبية الوطنية من أدناها الى اقصاها على شاكلة "شبكة" متماسكة، واتصال دائرة علانية سياسية مشتركة بين الدوائر الوطنية، وتَبلور ثقافة سياسية أوروبية تنحو نحو الاختلاط والتجانس. ووحده استتمام هذه الشروط يضمن صدور القرارات الاتحادية، الأوروبية، عن الارادة العامة والرأي العام الوطنيين في "الأوطان" الأوروبية كافة، وبحسب الارادة والرأي هذين، وليس بمنأى منهما او على ما يرى خبراء وموظفون في ضوء مقتضيات مصلحة لا يتعرفها الناخبون والمواطنون وهؤلاء هم عمدة الإرادة والرأي العامين.
واذا اقامت الأبنية السياسية المشتركة، وهي المجلس النيابي والهيئة التنفيذية ومحكمة العدل الأوروبية، على تأخرها عن المدى الأوروبي الاقتصادي، وعن علاقات الإنتاج العالمية، فلن تخسر أوروبا، ودولها و أممها، شطراً متعاظماً من مادتها السياسية والتاريخية، ومن قوتها، وحسب، فما يتهددها، جراء تخلف هيئات سياستها عن مطابقة أطر الانتاج والتبادل والتوزيع والهجرة ونسيج هذه، هو تصدع "الدولة الاجتماعية"، على ما يسمي الألمان رأسمالية تزاوج مقتضيات الانتاج والمنافسة ومقتضيات التوزيع المتكافئ لثمار الانتاجية والربحية، وانفصال طبقة دنيا عن المجتمع وإقامتها على خصامها وشقاقها العبثيين.
ويسعى "برنامج" فيشر الفيديرالى الاحاطة بهذه المسائل من وجوهها الظاهرة والمتوقعة، غير متستر على بواعثه الألمانية. فالإندماج الأوروبي الدستوري حاجة ألمانية تاريخية - لأسباب تقدم بعضها وعاد اليه فيشر في مناقشته مع جانب بيار شوفينمان، وزير الداخلية الفرنسي وداعية التمسك بالسيادة الوطنية والجمهورية بوجه أوروبا "أميركية" أو "امبراطورية المانية" على قوله في 21 حزيران/ يونيو، في صحيفتي "لوموند" الفرنسية و"داي زايت" الألمانية. ولكنه، من وجه آخر، حاجة ألمانية اقليمية. فالبلدان المرشحة الى دخول الاتحاد الأوروبي يقع شطر راجح منها في الجوار الشرقي لألمانيا الواحدة، أو تربطه علاقات تاريخية وثيقة بوسط أوروبا.
فمن مصلحة المانيا ان تتضم بلدان شرق أوروبا، وبلدان شرقها الجنوبي البلقان، الى أوروبا متماسكة البنيان، وفاعلة الهياكل، وثابتة الخطى. واذا استقبلت البلدان الجديدة - ومعظمها لم يستقر بعد على هيئة الدولة - الأمة، ولم يستقر في حدود ثابتة، ولم ينجز حل مشكلة الأقليات، ولم يدمج عامته وطبقاته "الدنيا" في علاقات اجتماعية وسياسية وثقافية متصلة - اذا استقبلت البلدان الجديدة أوروبا مترنحة، وغير مجمعة على حقوق اجتماعية مشتركة وعلى سياسة أحلاف وسياسة دفاع متجانستين، لم يأمن الاتحاد الأوروبي القائم، ببلدانه الخمسة عشر، التهافت والتصدع تحت وطأة الميول المختلفة والمتناقضة.
ولعل التفاوت الكبير في أحوال دول القارة الأوروبية الاجتماعية والاقتصادية، وعلى قدر أقل السياسية، هو الباعث الأقوى على حماية الانجاز الاقتصادي السوق الكبيرة، في 1993 غداة 36 سنة على معاهدة روما على السوق المشتركة وأربعين سنة على اتفاق الصلب والفحم بإنجاز سياسي يقتضي بلوغه سياسة "طويلة الأمد"، على قول الرجل أو المرء يوشكا فيشر قبل الوزير والسياسي. فالإرادوية في هذا المضمار ليست الا اسماً آخر للتحكم والتعسف والتسلط. وهذا ما يسرع أوروبيون كثر على تهمة ألمانيا به، وما لم يكتمه الفرنسي شوفينمان في رأيه الأول في مقالة الألماني.
فالدُّور السياسي، الفيديرالي، الذي يقترح وزير الخارجية الألماني بناءه انما هو تتمة للمبنى الاقتصادي والاجتماعي جزئياً الذي اختار الأوروبيون إنشاءه غداة الحرب الثانية، وبإزاء أنقاض هذه الحرب، وكانت فاتحته، أي كان أسُّه وقاعدته مبادرة فرنسية وألمانية، نواتية ورائدة. وعلى مثال سابق هو مثال هذه النواة يلاحظ فيشر ان مجلساً أوروبياً من ثلاثين رئيس دولة أو حكومة، في النصف الثاني من العقد المقبل، من المحال عليه ان يبت في المسائل المشتركة بتاً عادلاً ومتوازناً ينجم عنه التزام البلدان الكثيرة، والضالعة في أصول المسائل المشتركة وفروعها، التزاماً طوعياً. وإذا أدى تشابك المسائل الكثيرة الأصول والفروع الى قرارات تحكيم غامضة مبهمة، بمقتضى موجبات وأحكام غير مفهومة لعامة الناس المواطنين، ضعفت طوعية الالتزام، وغلب التصريف الاداري على التدبير السياسي، واقامت الفكرة الأوروبية على عزلتها وانكفائهاعلى "فوقها". وهذا ما تخشاه الثقافة السياسية الديموقراطية والدستورية أشد الخشية. فما لا يرتضيه المواطنون طوعاً ويقبلون عليه، وهم على بينة من ملابساته ونتائجه، لا يحامون عنه اذا تهدده ارتدادٌ عليه أو رفض له.
وما يدعو اليه الوزير الألماني ليس "إعلان" الفيديرالية، ولا "الاقتناع الارادي" بها، على نحوي اعلان واقتناع تتصور فيهما البرامجُ السياسية في مجتمعات العصبيات التي لم تبلغ المداولة والتعاقد السياسيين بعد. بل هو يقترح "بَرْلَمَنَة" كاملة للقرارات المشتركة. وتترتب على "البرلمنة" هذه انتخاب مجلس نواب تشريعي أوروبي بالاقتراع العام، الى جانب المجالس الوطنية، وتأليف حكومة أوروبية يحاسبها المجلس التشريعي ويراقبها. ويسند التشريع والتنفيذ الأوروبيان الى معاهدة دستورية تقوم من الأمرين مقام المرجع.
وعلى قدر ما يقتضي العقد الدستوري المشترك تقاسم السلطة والشرعية بين أوروبا "الواحدة" - والأصح ان يقال: المشتركة فالوحدة من اضغات "حلم الماني" - وبين الدول - الأمم، يقتضي الحرص على العقد المشترك، وعلى متانته، احتفاظ الدول - الأمم بكفتها راجحة وغالبة. وعلى المجلس النيابي والاشتراعي الأوروبي، على هذا، أن ينهض بتمثيل واقع مزدوج: أوروبا المؤتلفة من دول - أمم، وهي وحدات متباينة التواريخ والثقافات السياسية والأحوال الاجتماعية والاقتصادية، وأوروبا المجتمعة من مواطنين، وهم المحصلة الحقوقية والمجردة لتعريف الفرد الانسان أو المرء في مجتمع يصدر عن نفسه وعن تعاهد أصحابه وتعاقدهم.
وإذا كان تمثيل المواطنين أمراً يسيراً بعد تجاوز عسر نشوئهم ورسوخ هذا النشؤ، فَهُمْ مبناهم على العموم والاشتراك، فلا ريب في أن أمر تمثيل الكيانات الوطنية، وهي مركب من اجزاء بعضها متنافر وبعضها متناغم ومتوارد، أعسر. ولكن الدولة - الأمة نفسها، على ما يذهب اليه الماني اخر هو يورغين هابرماز - يقول فيه يوشكا فيشر، في مناقشته شوفينمان، انه هو فيشر "يشرف" بنسبته اليه و"خلطه" به، رداً على حملة الجمهوري السيادي والمنكر على الفيلسوف الألماني "تجريده" الدستوري - الدولة هي كيان مركب من خصوص الحوادث والتاريخ والأهواء والمصالح، ومن عموم الحقوق والقوانين والتمثيل. ولا يتفق الوجهان ولا يتواردان إلا على حد التنازع والتضاد. ويذهب هابرماز نفسه الى ان "الدمج الجمهوري"، إنما حصل من ائتلاف الدول - الأمم الأوووبية من جماعات وأجسام متماسكة على مناطات ومحاور لم تبلغ السياسة الإدارية والمدركة، ومن مواطنين انفكوا من الجماعات والأجسام الجزئىة و"ما دون أو ما قبل السياسية".
وتحقق الدمج والتأليف، ثم الرسو على غلبة الرابطة الوطنية الدستورية والفيديرالية، على المثال الأميركي "المتحد" في سياقة اضطلعت الدولة ومرافقها و"رعايتها" وتشريعاتها المدنية والسياسية والاجتماعية، في استقرارها ورسوخها، بدور راجح. ولعل "البرلمنة" العامة والتامة، بأوروبا، مثالها ومرجعها هما "الدمج الجمهوري" والوطني في ديموقراطية مثلثة الأركان مجتمع مدني، ودائرة علانية سياسية، وثقافة سياسية مشتركة، وفي اقتصاد سوق اجتماعي. ف"البرلمنة" هي صنو إسناد السياسة الى ارادة المواطنين ومداولتهم وبصيرتهم. وهي صنو خروج السياسة من العصبية ولحماتها التلقائية والعصبية على التدبر والمبادئ العقلانية والحرة.
فلا غرو اذا اقتضى بلوغ التجريد الحقوقي والدستوري قطع طريق شاقة وباهظة الثمن، واذا زعم المان الجيل الثالث بعد الحرب الثانية علماً يقينياً، ولو متواضعاً، به. وتقدم القول ان فيشر، على غرار فون فايزايكر وغريم وهابرماز وغيرهم، لا يكتم نسجه نسيجاً أوروبياً على منوال ألماني - ويزعم هابيرماز ان المنوال أوروبي أصلاً وهو من صنع أوروبا التنوير و"جمهوريتها الكوسمو بوليتية" - وعلى اختبار ألماني. وعلى هذا فالفيديرالية رسم سياسي دستوري يجمع بين "الجسد" الوطني وبين "الروح" الدستورية والحقوقية. وا ختيار هذا المركب، المولّد والهجين بعض الشيئ، في الدمج الوطني والجمهوري قد يكون داعياً الى اختباره في الدمج القارىء والأوروبي. و"المسرح" في كلتا الحالين واحد.
ويمضي فيشر على بلورة رأيه، فيقترح مجلسين أوروبيين، أو حجرتين على ما كان يكتب الكتاب العرب، أحدهما من نواب المجالس النيابية الوطنية المنتخبين الى المجلس الوطني والى المجلس الأوروبي معاً، والثاني على مثال مجلس الشيوخ أو على مثال مجلس الولايات المتحدة الذي تعمل به ألمانيا - فإذا انتخب على مثال مجلس الشيوخ الأميركي عاد الى الدول عدد واحد من الشيوخ هو اثنان للولاية على ما هي الحال في مجلس الشيوخ الأميركي، وإذا انتخب على مثال مجلس الولايات الألماني تفاوت عدد الشيوخ. وينتخب المجلسان بالاقتراع المباشر.
ويتم البناءَ الدستوري تشكيلُ حكومة فيديرالية يرئسها رئيس فيديرالي إما من طريق الحكومات الوطنية، على ما هي حال المفوضية القائمة، أو من طريق الاقتراع المباشر وانتخاب رئيس يتمتع بصلاحيات تنفيذ واسعة. وأياً كان الإجراء المقبول، فينبغي ألا تضطلع السلطة الفيديرالية الأوروبية إلا بالبت في المسائل التي يستحيل على المراتب الأدنى، الوطنية والمحلية ولاية أو محافظة أو قضاء أو قضية ودائرة، البت فيها بتاً وافياً وناجزاً - وهذا أصل دستوري تقرُّ به الدساتير الوطنية الأوروبية وتبني عليه.
ويترتب على تباين أحوال الدول الأوروبية، الداخلية والوطنية، وعلى اختلاف تقاليدها وتراثاتها التاريخية، تفاوت قدرتها على الاضطلاع بأعباء دور أوروبي مشترك ورائد. فقد يقتضي التباين والاختلاف هذان سبق ثلاث دول أو أربع أو أكثر الدولَ الأخرى على طريق التنسيق والإندماج. وسبقُ نواة من الدول عموم الدول التي يتألف منها الاتحاد، وتألفت منها السوق المشتركة، نهجٌ مقبول. فالوحدة النقدية، منذ أول العام 1999، ضمت احد عشر بلداً، ولحظت اتفاقية شينغين، في شأن تنظيم الهجرة الى أوروبا الاتحادية وانتقال المهاجرين، حق الدول في استئخار العمل بحرية انتقال المهاجرين بين الدول المضيفة.
وقد يتوسط المرحلة الفيديرالية، ويسبقها، ابرام "معاهدة في المعاهدة"، على قول المفوض السابق، الفرنسي جاك دولور، تجمع بلدان "مركز الثقل" أو "النواة الصلبة" على تعجيل التكامل السياسي أو الائتلاف السياسي، وبلورة شرعة دستورية. فإذا حصل ذلك اضطلعت الفيديرالية بتمثيل الدول المتعاهدة في الهيئات الأوروبية.
وحين خاطب الرئيس الفرنسي جاك شيراك المجلس النيابي الألماني، في 27 حزيران يونيو، وهو أول رئيس أجنبي يُولى هذه الحظوة منذ توحيد الألمانيتين، ودعا الى دستور أوروبي - من غير اشارة الى محاضرة الوزير الألماني قبل شهر ونصف الشهر، لم تختلف مسوغات دعوته وموجباتها عن مسوغات يوشكا فيشر وموجباته. فالإثنان يتشاركان في الخشية على البنيان الأوروبي من مفاعيل التوسيع وانضمام البلدان المتحررة من الاستبداد السوفياتي، ويتشاطران الرغبة في قيام أوروبا متماسكة وقوية بالأعباء السياسية والعسكرية والثقافية الناجمة عن تعاظم القوى المنتجة وتشابك مبادلاتها. ويدفع الاثنان تهمة السعي في التهوين من شأن الدولة - الأمة والتقليل من مكانتها.
وهما يجمعان على ما سبق لسياسيين وحقوقيين وكتاب كثر ان لاحظوه وهو ايجاب الهيئات الأوروبية المشتركة حقاً، أو تشريعاً أوروبياً ناجماً عن تخلي الدول - الأمم عن سلطتها التشريعية الوطنية. فالمصرف المركزي الأوروبي، ومحكمة العدل باللوكسمبورغ، والاقتراع على قرارات المفوضية في المجالس الوزارية الاتحادية بالكثرة الأكثرية الموصوفة، كلها قرائن على وقائع قانونية مصدرها سيادة مشتركة. ولا يرى الرئيس الفرنسي غير نشأة قطب طوعي من الدول التي ترغب في "تعميق" الائتلاف فيما بينها، جواباً عن المشكلات الناجمة عن التوسيع والتنسيق، من وجه، وعن تعاظم القوة الاقتصادية التي تتمتع بها الشبكات المعولمة، من وجه آخر.
ويكاد المشككون والنقاد، الفرنسيون والألمان، يجمعون على دقة الموازنة بين السيادةالناشئة والجديدة، وبين السيادة الوطنية.
فالتزام المواطنين بأوروبا الإسهام في صوغ إرادة ورأي عامين قاريين، ولا سند لشرعية الهيئات الأوروبية العتيدة غيره، وذلك على مثال الإلتزام الوطني الذي يتوجه "الموت في سبيل الوطن"، ليس من اليسير تحقيقه، على ما لاحظ هوبير فيدرين، وزير الخارجية الفرنسي، في تعقيب على محاضرة زميله الألماني "لوموند" الفرنسية، في 11 الى 12 حزيران. ولكن جبه "الأمركة" الليبرالية المتمادية، على قول شوفينمان، ودمج روسيا في أوروبا، مستحيلان من غير أوروبا مؤتلفة سياسةً وهيئات دستورية ومجتمعات، على ما رد فيشر على وزير الداخلية الفرنسية.
والترجح بين الأضداد من سمات المناقشات الحقيقية. فالوقائع المركبة تعصى الأحكام المبتسرة والبسيطة.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.