إنه لأمر محزن ألا نكون قادرين على أن نقرأ كتاباً من دون أن نتذكر سواه من الكتب، ومن دون أن نوازن بينه وبينها. فإصدار الأحكام باستمرار معناه الحرمان من المتعة - كما قال جول لميتر - لكننا مضطرون الى هذا الحرمان مع ديوان أحمد الشهاوي "مياه في الأصابع"، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ليس لأننا سنصدر الأحكام عليه، بل لأن هذا الديوان مختارات من أعمال سابقة، ما يعني أننا إذا أردنا الاشتغال عليه من الداخل، فعلينا العودة إلى المتون الكاملة، لاستكشاف قيمة المختارات بالنسبة اليها، معها ومنفصلة عنها، وكذلك دلالتها الخاصة على العالم الشعري لأحمد الشهاوي. ديوان "مختارات" يعني أن النصوص محكية مرتين، باعتبار الأولى هي خروج النص من دائرة المبدع إلى دائرة المتلقي. لا جديد إذاً، حتى العنوان مأخوذ من نص "حديث الأحاديث" في ديوان "الأحاديث - السفر الثاني" "ادخلي ألفي / ونامي / بعد ثانية / أكون / كل السنين التي مرت / مياه في الأصابع / شموس في الدماغ". ومع ذلك فهذا ديوان جديد لأحمد الشهاوي، والجدة فيه حصيلة الاشتغال النقدي للمبدع على إنتاجه القديم. ما الذي يدفع الأديب إلى إصدار "مختارات" من أعماله السابقة ؟! نستطيع أن نفكر في أكثر من دافع، الأول: لديه فائض فرص نشر وليس لديه نص جديد، الثاني: تيسير القارئ الذي لا يستطيع شراء سبعة دواوين أو قراءتها، بمنحه كتاباً واحداً بدلاً منها. دافع أخير: الترويج للأعمال السابقة بمنح القارئ جزءاً يحرضه على طلب الكل. "مياه في الأصابع" هو ديوان الأعمال الكاملة "منقودة" من الشاعر - ولو لم يعترف بذلك - لسببين، الأول: أن أحمد الشهاوي مثل كل الشعراء يعشق كتابته، ويمتد ظل العشق عنده قليلاً ليشمل الكتابة على كتابته، فهو يرفق كل عمل له بقائمة ضافية تضم أسماء من كتبوا عنه أو عن أعماله. يصعب إذاً أن نتصور تقديمه كتاباً يقول إن محتواه أفضل نصوص الكتب السابقة، ما دامت استحقت صدورها مرة أخرى دون سواها. السبب الآخر مأخوذ من الكتاب نفسه، إذ إن "مياه في الأصابع" ليس بمختارات، ففيه كل نصوص ديوان "قل هي" وقد حذف من بعضها أبيات وصفحات متفرقة، ولا يوجد فيه "كتاب العشق" ولا ديوان "أحوال العاشق"، ومن ديوان "الأحاديث - السفر الثاني" تخيّر الشاعر ثلاثة أحاديث فقط، ومن "الأحاديث - السفر الثاني" أسقط سبعة أحاديث. أما ديوان "كتاب الموتى" فقد أجرى عليه تعديلاً كبيراً بالحذف، على رغم أنه نص واحد لا نصوص متعددة. تحتاج الإسقاطات المتعمدة للدواوين الكاملة، أو النصوص المستقلة، الى دراسة خاصة للخروج بحدود تقويم المبدع لها. أما القص من نسيج النص الواحد في ديواني "قل هي" و"كتاب الموت" فيحتاج إلى شيء من التأني لتبيان أثر التعديل في النص نفسه. نحتاج أولاً إلى مبررات لهذا الحذف، أقربها اعتزاز الشاعر بهذين الديوانين، ورغبته في أن يضمهما الى ديوان المختارات، وصعوبة أن يضمهما كاملين. ويسقط هذا المبرر، لإمكان الاكتفاء باختيار بعض النصوص التامة من ديوان "قل هي" واختيار "كتاب الموت" كاملاً. مبرر آخر، خاص ب"كتاب الموت"، هو أن الديوان في الأصل ليس نصاً واحداً، إنما هو نصوص متفرقة، كتبت في أشهر متعاقبة تحت تأثير حال بعينها، ثم نظم الشاعر عقدها في أسبوعين، وحذف العناوين المتعددة. ويسقط هذا المبرر أيضاً كسابقه، لأن النص اكتسب الصفة الواحدية من الصوغ النهائي الذي نشر فيها. مبرر آخر، خاص بديوان "قل هي": أن المبدع أدار آلة الرقابة الداخلية انفعالاً في شكل صاخب من أشكال التلقي السلبي للشعر، وهو التلقي الديني أو العقيدي عموماً الذي يتعامل مع النص الخيالي- وعالمه الافتراضي - باعتباره وثيقة واقعية تتضمن اعترافاً من شخص حقيقي هو الشاعر نفسه. وهذا مبرر جدير بالنظر وإن كان مؤشراً محزناً على التردي الحاصل في علاقة القراء بالنص الإبداعي. يبقى أخيراً مبرر استدراك المبدع نفسه بالنقد الذاتي، وحذفه من ثم ما يتصور أنه حشو لا قيمة له. فهل هذا الاستدراك من حقه ؟! تعديل النصوص المنشورة قد لا ينظر إليه النقاد بتقدير، إذ يمكن اعتباره إما خداعاً من المبدع للمتلقي الذي استقبل النص الأصلي في هيئة معينة، وانفعل به سلباً أو إيجاباً وفقاً لهذه الهيئة، وإما تردداً من المبدع وعدم ثقة في عمله، وإما أخيراً تعجلاً بالإعلان عن النص قبل أن يكتمل، ثم إكماله بعد نشره. يبقى السؤال الأهم، هل يصلح المبدع ناقداً لنفسه ؟! في صيغة أخرى، هل ما قام به الشهاوي في نص "كتاب الموت" ونصوص "قل هي" تحديداً أضر بشعره أم أفاده؟ لا يصلح المبدع - في تقديري - ناقداً لنفسه، لأنه ما إن ينتهي من كتابته حتى يتحول إلى قارئ لنصه، ولن تكون قراءته للنص، على رغم أهميتها في حد ذاتها، سوى قراءة متلق، لذلك يصبح أي استدراك للنص بعد كتابته نأياً عن لحظة الخلق، ومراجعة تشوه الوجود الأول بغض النظر عن قيمته. يقول الشهاوي في النص الأصلي من "كتاب الموت": "دع العيدان تكبر ثم احصد كما شئت / دع نجمة / تنام في سرير ضوئها / ثم اطفئ متى شئت / لماذا أتيت/قبل أن يمر الضوء من إبرة / ويقول النخل في العراء/ آمين". وفي النص المعدل حذف الشاعر الأبيات الأربعة الأولى التي تشكل وحدة التوسل والرجاء، وبدأ من وحدة الحيرة والسؤال لماذا أتيت... الخ ليس الحذف هنا حذفاً لفائض تراكيب، بل حذفا لحال تشتبك مع الحال التالية في علاقة تنتج مركّب اللوم والعتاب للموت، وحذفاً لإيقاع نشأ من تكرار الفعلين: دع، شئت، وتشابه البنية الصرفية في الفعلين: احصد، واطفئ، وحذفاً للبعد المعنوي الزمني الذي استغرق الحاضر عبر الفعلين: تكبر، تنام. والصور الشعرية في النص هي في الحقيقة امتداد لهذه العلاقات البنائية، والتدخل بالحذف في نظام العلاقات يشوه الصورة المتولدة عنه. يقول الشاعر في النص الأصلي من "كتاب الموت" أيضاً: "لم ترَ من أمامك أو وراءك - هكذا الواله طير نائم كل خفي له يظهر-/ ولدت سماء/ فتزوجت سين بسين/ وتوحد الألفان بي وراحا يحملان النون/من كاف كن/ وساحا يطلبان نوال في عليائها". حذف الشهاوي النص كله في المختارات، عدا الجملة الاعتراضية هكذا الواله طير نائم كل خفي له يظهر والمفارقة في هذا التعديل أنه منح الهامشي قيمة تفوق ما للمتن. فالجمل الاعتراضية ليست ذات قيمة في سياق المعنى، ويمكن دائماً الاستغناء عنها، والإبقاء عليها هنا مع حذف السياق الضروري، إعلاء لقيمة ظهورها من جانب، ومصادرة للصورة الكلية من جانب آخر، بحرمان النص مما فيه من رموز القدرة النفسية، وطاقة الطلب الروحي المتمثلة في تزاوج الوحدات اللغوية ثم توحدها مع الذات، كي تحمل حروف القدرة الإلهية وتسيح في الكون لطلب "نوال في عليائها". لعلّ التعديل هو تشويه للأصل، خصوصاً مع تميز العالم الشعري لأحمد الشهاوي بتناظر الأبنية الفكرية وتكرارها، وتوجيهه عنايته الكبرى إلى الأبنية اللغوية المتماسّة مع اللغة الدينية، المقدسة والصوفية، ما يفسر تركيز الحذف على المتشابهات النصية، والأبيات التي تغلب عليها صياغات حلولية، من النمط الذي يثير الحس الدفاعي المبالغ فيه لدى بعض القراء، ممن يتلقون الأدب بآلية من يخشى أن يقوم المؤلف بخداعه، فيمنحه "بضاعة" رخيصة فاسدة لا تستحق ما دفعه في مقابلها، أو شريرة باطلة يرتكب إثماً باستعمالها. ومثل هؤلاء يقبعون غالباً وراء جانب كبير من اشتغال المبدعين رقابياً ونقدياً على نصوصهم. لكن الشعر تحديداً تحتاج قراءته منا الى ألا نبالي إذا أخطأنا بقراءته، مادام قادراً على تجديد هواء عالمه من أجلنا. وليس مهماً ما يقابل مضامينه في واقعنا، بل ليس مهماً إذا كنا - كما قال لميتر أيضاً - سنضحك غداً على ما نعجب به اليوم، فأخطاؤنا ليست لها نتائج مهمة بالنسبة إلى غيرنا، وليست مترابطة إلى حد الإضرار بنا.