لست من هواة المراهنة في الأمور الجلل مثل احتمال هجوم أميركي على العراق، لكن لا بد من التعاطي مع الاحتمال وما يعنيه لنا كعرب أو كعالم ينتج ذاته من جديد على نحو يعزز الاعتقاد بأننا حيال انتصار القدرية القائلة بأنه - العالم - يسير إلى منتهاه. والمسألة تجاوزت منذ سنوات طويلة قبول العراق أو رفضه استقبال مفتشي الأسلحة غير التقليدية لتتمحور على مفاعيل السياسات الأميركية، كما تحاول أن تطوها النخب الجمهورية اليمينية. وهي تحظى بدعم قيادات الصهيونية الاصولية في أميركا الشمالية وإسرائيل المتحالفة مع ما يسمى "حزام التوراة" وهو تجمع مسيحي غيبي معادٍ للأجانب وتساندهما الأوساط الانكلوسكسونية المأسورة بإرثها الاستعماري. وعليه، ليس من قبيل الصدفة أن نرى التحمس للعدوان على العراق يأتينا من ثلاثة مواقع بين سائر مواقع الأرض! غرف البيت الأبيض لا سيما تلك التي يجلس بين جدرانها بوش الابن وتشيني ورامسفيلد، ديوان الحكومة الإسرائيلية على كراسيه كلها، ومكتب رئيس الحكومة البريطانية بلير. ثلاثة مواقع يريد المتنفذون فيها الاقلاع عكس الزمن المتراخي أصلاً، الأمر الذي يعزز خشيتنا في أنهم سينجحون. وهم في اقبالهم على حرب عدوانية جديدة ضد العراق كأنهم يتزينون لحفل جنس جماعي بمستوى قاري. وواضحة العلاقة بين الجنس وبين العنف، وقد فككها فرويد وتلامذته. وهي باب يمكن النفاذ منه لتحليل سلوكيات هذا الزعيم وسياسات ذلك المسؤول كما يقضي أحد مذاهب العلوم السياسية التي تدمج بين علم النفس وبين السياسة. الاستعدادات لعدوان ثلاثي جارية مهما يكن أمر الدور الذي يمكن أن تجترحه مؤسسة الأممالمتحدة بقيادة كوفي أنان مدعومة باجتهادات فرنسا أو روسيا. وإذا كان العدوان الثلاثي الأول في الشرق الأوسط 1956 استهدف مصر ناصر وما جسدته من نهوض عربي وانتصاب قامة خارجة من آتون الاستعمار، فإن العدوان المتحفز الآن يستهدف النفط لا سيما العربي في منطقة تحتوي على ثلثي احتياطات النفط في العالم. وإذا كانت فرنسا في حينه الضلع الثالث في مثلث العدوان إلى جانب بريطانيا وإسرائيل، فإن الولاياتالمتحدة تلعب الآن الدور الأساس في هذه التجربة التي تعتبر دورة ثانية للتاريخ على محوره ولكن، كما قال ماركس، على نحو أكثر هولاً وسخرية من المرة الأولى. فالعدوان الثلاثي الأول الذي جاء بحجة تأميم مصر لقناة السويس لا يشبه في خصوصيته العدوان الماثل أمامنا اليوم. وكانت مصر خرجت منه أكثر قوة ونفوذاً ومحورية مما كانته عشية العدوان. إلا أن ما يعده الأميركيون الآن يبدو مروعاً لا سيما ان الأمر بشأن عملية اخضاع وسيطرة وهيمنة وانتاج للجبروت الباحث عن ساحة استعراض. كما ان دور الإسرائيليين قد يكون مختلفاً تماماً. وقد لوح أكثر من مسؤول في الدوائر الإسرائيلية إلى الرغبة الإسرائيلية في لعب دور مغاير لما كانه الدور في حرب الخليج الأولى عندما وصف سلوك إسرائيل بأنه "ضبط للنفس" وامتناع عن الرد على سقوط الصواريخ العراقية فوق مدنها. ومنهم من هدد بالسلاح النووي وبضرب مدينة عراقية حتى محوها تماماً عن الخريطة. وقد يكون في الأمر هذه المرة أكثر من تهديد خصوصاً ان القيادات الاسرائيلية في كل المستويات تعتقد ان هيبة اسرائيل قد انحسرت منذ حرب لبنان وانسحابها الأول في العام 1985 مروراً بالانتفاضة الأولى وبحرب الخليج الأولى والانسحاب الثاني من لبنان تحت وقع ضربات المقاومة اللبنانية ومن ثم مع تفجر الانتفاضة الثانية واستمرارها على رغم حجم العنف الاسرائيلي ضدها. كما ان هذه الهيبة تضعضعت حسب الاجهزة الأمنية بأعين الفلسطينيين داخل اسرائيل نفسها. وهذا ما يدفع الى مغامرة اسرائيلية تتعدى المألوف اذا أخذنا في الاعتبار قيادتها الحالية وتوجهات يمينية متطرفة تمسك بزمام الأمور في تل ابيب. ويشار هنا الى ان الجماعة اليهودية في اسرائيل تحاول ان تنتج نفسها في المنطقة من جديد عبر تجديد قوة ردعها. ويمكننا ان نرى الى القمع الاسرائيلي وبشاعة احتلالها المتجدد في هذا الاطار، وذلك على خانة الصراع المفتوح مع الفلسطينيين. ومن غير المستبعد ان ينسحب هذا التوجه على خانة صراعها مع العالم العربي وعمقه الاستراتيجي ممثلاً بالعراق. والملفت للنظر ان مثل هذا السؤال، امكانية ضرب العراق بالسلاح النووي، مسألة ضمن الخطاب اليومي في اسرائيل. يسأله معدو استطلاعات الرأي ويتناوله المحللون وينظر له الاكاديميون. ونسي الجميع في غمرة الاستعدادات ونشوة التفوق ما كان آباء اسرائيل قد أعلنوه من انهم لم يكونوا أول المستخدمين للسلاح النووي في الشرق الأوسط، وهو سلاح إبادة جماعية، كون شعبهم تعرض لمشروع إبادة جماعية ممثلة بالهولوكوست. الأمر الثاني الملفت للنظر هو ان مثل هذا السؤال يطرح في وقت تتمتع فيه اسرائيل بأكبر تفوق على العالم العربي بأسره وفي كل المستويات. ينتج ان ثقة اسرائيل بنفسها وبهيبتها تتناسب عكسياً مع اتساع رقعة تفوقها على العرب. وقد يكون في هذا منطق جدلي، مفاده ان اعتماد اسرائيل على منتهى القوة فقط في حفظ وجودها في المنطقة وليس على الشرعية يولد شعوراً ذاتياً جماعياً لدى الاسرائيليين بعدم الاستقرار، يحاولون على طريقتهم ان يواجهوه بتكديس المزيد من القوة التي بدورها تزيد من الشعور المذكور. وهكذا هو الدوران في دورة مغلقة! الموقف الاسرائيلي الداعي بحماس منقطع النظير لحرب ضد العراق يقوم على جملة من الاسباب أو الافتراضات. فحرب كهذه تؤجل المسألة الفلسطينية أو تدفعها الى الظل. وهذا ما حصل بعد غزو العراق للكويت. لكن هذا في المرحلة الأولى والمعلن من الأسباب. الدافع القائم في أروقة الحكم وفي الأدمغة الصهيونية في اسرائيل وخارجها هو الافتراض بأن حرباً كهذه، لن تجعلها اسرائيل خاطفة على قدر ما تستطيع، ستشكل فرصة ذهبية لتمرير مشروع أسود وهو التطهير العرقي للمرة الثانية في فلسطين. فإذا ما كانت للحرب تداعيات ومفاعيل مثل تحرك الرمال تحت حدود المملكة الهاشمية مثلاً، وقد لا يكون الأمر عسيراً على اسرائيل ان تقوم بنفسها بعمل التحريك، فإن الفرصة تكون قد نضجت تماماً. وهكذا، بدل ان تحل المسألة الفلسطينية بفكفكة المستوطنات ونقل سكانها غرب الخط الأخضر، يصير الحل في تطهير فلسطين من أهلها من خلال ترحيلهم الى شرق النهر. على الأقل ترحيل جزء منهم وتأجيل الحسم بالديموغرافيا. بل قد تمنحهم هذه الحرب فرصة سنوات من مواجهة السؤال الفلسطيني يستطيعون خلالها أن يزرعوا في الضفة والقطاع 200 أو 300 ألف مستوطن آخر ليواجهوا الدولة الفلسطينية بديموغرافيا يهودية. وكان اتخذ قرار التقسيم 1947 في حينه بإعمال عامل الديموغرافيا ووصول عدد المستوطنين اليهود في فلسطين الى نصف مليون مستوطن أو أكثر بقليل. أمر آخر في صلب حماس اسرائيل الحربي هو اعتقاد منظريها العسكريين بأن العراق هو العمق الاستراتيجي لسورية ولبنانوالفلسطينيين اضافة الى ايران. وضرب هذا العمق ودك حصونه نهائياً سيضعف سورية والفلسطينيينولبنان ويسهل اخضاعهم من دون حرب على الجبهة الديبلوماسية. وهو أمر مهم، بل في منتهى الأهمىة، لأنه بشأن ثلاثة محاور متاخمة لاسرائيل. أما الأبعد من هذا وذاك فهو كون مسألة اللاجئين، وهي كما تبين على طول المفاوضات مع الفلسطينيين أحد كوابيس اسرائيل، قائمة بالأساس ضمن هذا المثلث. في حين أن سورية ولبنان يعارضان التوطين أو ايجاد حل لهذه المسألة فوق أراضيهما. وفي تقديرنا المتواضع ان اسرائيل كانت ستعيد لسورية حتى آخر شبر من أرضها بل وقد تزيد لو ان سورية قبلت ان تحل مسألة اللاجئين فوق أرضها وأرض لبنان. فالمسألة الديموغرافية هي أحد التحديات الاستراتيجية لاسرائيل حلت المسألة الفلسطينية أو لم تحل. بل هي تفضل قطع رأسها على أن يعود الفلسطينيون الى ديارهم. وقد لمسنا ذلك في كل لقاء لنا على منبر مع اليسار الصهيوني ورموزه. فقد نحصي نقاط التفاهم بسرعة الى أن نصل وإياهم الى معضلة اللاجئين والعودة. هنا، تنفرط السبحة على حباتها لتبدأ المحاولة من جديد وصولاً مرة جديدة الى حوار الطرشان. ومن هنا نسمع القيادات الاسرائيلية تتخبط بصوت عال في هذا الموضوع وتنتج أفكاراً جهنمية تطال الفلسطينيين داخل اسرائيل نفسها. ونعتقد جزماً بأن اسرائيل اليوم جاهزة لاستثمار أي فرصة تسنح لها لتنفيذ ولو جزء محدود من أفكارها. وقد تكون فوضى الحرب الدولية وتحرك الرمال تحت غبار الحرب على العراق الغني والقوي فرصة، وأيما فرصة!! لأن الاسرائيليين خائفون حتى النخاع، ولأن مأزقهم في تعقيد متنام حيال علاقتهم بأنفسهم ومحيطهم بسبب وجودهم القائم على القوة والعنف اللذين وصلا ذرى جديدة، ولأنهم يشككون في صدقية روايتهم وفي شرعية وجودهم أكثر من أي وقت مضى، ينبغي أن نخشى الدور الذي يمكن أن يلعبوه في عدوان ثلاثي كارثي. وبما ان مفاوضاتهم المراوغة فشلت، فإنه قد لا يكون تبقى سوى ما يملكون من قدرة تدميرية هائلة على أشكالها الثلاثة، التقليدي وغير التقليدي وما بينهما. ولا نغالي إذا قلنا انهم قد يجرون الأميركيين اليه جراً أو انهم قد يغامرون لوحدهم بحجة ضرورة تدمير القدرات غير التقليدية للعراق لأنها في نهاية المطاف قد تهدد أمنهم. ألم يفعلوا ذلك في العام 1981؟ * أكاديمي فلسطيني - دالية الكرمل.