حمل نائب وزير الخارجية الإسرائيلي داني أيالون مشروعاً إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الأخيرة في أيلول (سبتمبر) الماضي، نصّ على اعتبار هجرة يهود البلدان العربية منذ العام 1948 إلى فلسطينالمحتلة، بمثابة لجوء يستحقون عنه تعويضات، تماماً مثل الفلسطينيين الذين نصّ القرار 194 على تعويضهم جراء إخراجهم من بلادهم، وتشريدهم وإلجائهم بالقوة الغاشمة إلى البلدان المجاورة وغيرها، والنص أيضاً وأساساً بإعادتهم إلى ديارهم وأملاكهم الأصلية في فلسطين. ويعتبر التوجه الأخير للسلطات الإسرائيلية، جزءاً من «ترسانة» القرارات والتوجهات والإجراءات التي تمعن في سلب الفلسطينيين حقوقهم والاستحواذ على كل ما هو إيجابي فيها. لكن يهوداً من البلدان العربية هاجروا إلى فلسطينالمحتلة، خصوصا من يهود العراق، تصدوا لحملة أيالون واعتبروها من المناورات السياسية التي تريد نزع حقوق الفلسطينيين، وتحويلها إلى «تجارة» للتربح على حسابهم، وعلى حساب المعاناة الطويلة التي قاسوها في مخيمات الهجرة. فما هي المعطيات والظروف والوقائع التي تم تداولها عن هجرة بعض يهود البلدان العربية من أوطانهم؟ وهل أُجبر بعضهم على الهجرة؟ ولماذا حصلت هجرات جماعية حملت صفات «الهستيريا» في بعضها، وقامت على مخاوف فيها الحقيقي، وفيها أيضا المفبرك والمفتعل والمدبر من جانب أفراد من الحركة الصهيونية؟ قبل تسجيل ما اختزنته بعض الوثائق عن هجرة بعض يهود البلدان العربية إلى فلسطينالمحتلة، أسجل وقائع تجربة شخصية عشتها في أوائل خمسينات القرن الماضي، عندما لم يكن عمري وصل إلى العشر سنوات. ذات يوم اصطحبني والدي معه من مخيم عين الحلوة لشراء بعض احتياجاتنا من أسواق مدينة صيدا القريبة من المخيم. عندما دخلنا الأسواق القديمة، أي الزواريب، وجدنا من يدلنا ويهمس في آذاننا أن بعض المحلات ما زال يملكها ويديرها يهود، وأن الإقبال على الشراء منها كان عادياً وكغيرها من المحلات. بل وجد من اشار إلى حي داخلي مقابل باعة الأثاث وتصنيعه خلف «خان الإفرنج» بأنه حي يسكنه يهود. إذاً فإن يهود لبنان كان وجودهم مستمراً ولم يهاجروا منه، وكانوا يمارسون حياتهم كغيرهم من الطوائف اللبنانية في تلك المرحلة. ومن الحقائق والوقائع اللافتة التي تم تسجيلها في كتاب «وادي أبو جميل – قصص عن يهود بيروت» لندى عبدالصمد الصادر عام 2009، ننقل الآتي: « مع حلول نكبة فلسطين، ازدادت الهجرة اليهودية من الدول المجاورة إلى لبنان الذي بات البلد العربي الوحيد الذي زاد عدد اليهود فيه بعد النكبة، وفي المقابل كان عدد الذين سافروا إلى إسرائيل في تلك الفترة قليلا، وسط ازدهار متنام عرفته تلك الطائفة في لبنان حينها». جاء في المصدر السابق: «اما عدد اليهود الذي كان في لبنان، فبلغ ذروته سنة 1958، على الرغم من وجود حرب أهلية فيه، ويراوح بين اثني عشر ألفاً وخمسة عشر ألفاً، على اعتبار أن عدد اليهود في لبنان زاد بعد نكبة فلسطين، مع هجرة يهود من سورية والعراق إليه، ثم تراجع بعد حرب 1967 إلى ثلاثة آلاف ومئتي شخص، بينهم ألفان من حاملي الجنسية اللبنانية». الجدير ذكره أن عدد اليهود تناقص في لبنان في شكل تدريجي بعد حرب العام 1967، كما أن الحرب الأهلية فيه التي اندلعت في العام 1975 واستمرت حتى العام 1989، لم تبق من اليهود في لبنان إلا أعداداً نادرة، هي التي غيرت أسماءها وأماكن سكنها. مادة كتاب «وادي أبو جميل» على عشرات تؤكد الآتي: 1- لم تحصل مضايقة الطائفة اليهودية في لبنان حتى عند اشتداد الحرب الأهلية، وحتى بوجود المقاومة الفلسطينية واشتداد قوتها في لبنان، إلا في ما ندر. 2- الغالبية الساحقة من يهود لبنان باعت أملاكها وقبضت أثمانها و «سيّلتها» وأرسلتها إلى بنوك عدة ومن بينها «بنك صفرا» في فرنسا، وهجرة يهود لبنان تزايدت بعد العام 1975، أثناء الحرب الأهلية. وجاء في الكتاب المشار إليه «إن زوارق ترفع العلم الأميركي كانت تقترب من تلك الجهة – منطقة في البحر مقابل الجامعة الأميركية – لنقل يهود إلى باخرة كبيرة بعيدة نسبياً عن الشاطئ تتولى بدورها نقلهم إلى إسرائيل». فتن وقنابل يتوافر العديد من المعلومات عن هجرة بعض يهود البلدان العربية من أوطانهم إلى فلسطينالمحتلة وإلى غيرها من بلدان. إلا أن ما يهمنا في هذه المراجعة هو التركيز على ما أوردته بعض المصادر عن أملاك اليهود، وهل توصلوا إلى بيعها قبل هجرتهم، أم أن الحوادث دهمتهم فلم يستطيعوا التصرف بها، أو قبض تعويضاتهم من الجهات التي كانوا يعملون لديها؟ ما حدث في اليمن: جاء في كتاب «الهجرة اليهودية إلى فلسطينالمحتلة» لالياس سعد الصادر في العام 1969 ما يلي: «قام العملاء الصهيونيون في اليمن عن طريق وسائل ملتوية كثيرة بخلق أسباب الفتنة بين السكان اليهود وغير اليهود في اليمن وفي عدن، ما اضطر الإمام للسماح بالهجرة لكل من شاء من يهود اليمن، للتخلص من الصهيونيين بينهم، وطلب الإمام آنذاك من جميع اليهود الذين أرادوا مغادرة البلاد بيع ممتلكاتهم كي يحول دون مطالبة هؤلاء اليهود بحقوق لهم في المستقبل في اليمن». قنابل في العراق: أما ما جاء في الكتاب السابق ذكره عن ما حدث في العراق، فيمكن الإشارة: «انفجرت قنبلة في كنيس يهودي في بغداد، واتضح فيما بعد أن أحد العملاء الصهيونيين وضعها من أجل خلق حالة ذعر بين السكان اليهود لحملهم على الهجرة»، كما انفجرت قنبلة في مقهى كان يتردد عليه اليهود، وقنبلتان في متجرين يملكهما يهوديان عراقيان. وقد أظهرت الأحداث بعد ذلك بقليل أن الصهيونيين هم المسؤولون عن الانفجارات، ووجدت الشرطة العراقية كمية من الأسلحة في كنيس يهودي في بغداد. وقال الحاخام ساسون خضوري (كبير حاخامي العراق أيامها) أنه من الواضح أن الصهيونيين هم الذين وضعوا هذه الأسلحة من أجل استفزاز السلطات والسكان العرب. هذا بعض ما حدث في العراق، البلد الذي قيل أن اليهود فيه كانوا على وفاق مع غيرهم من المواطنين، ولم يكونوا يسكنون في أحياء خاصة بهم، بل كانوا جزءا من نسيج سكان بغداد على سبيل المثال. وكان عددهم يمثل ربع عدد سكان بغداد، وكان لهم عاداتهم المتماثلة تقريبا مع غيرهم من المواطنين ويتكلمون اللغة العربية كغيرهم، ويتمتعون بحقوقهم المدنية والدينية والسياسية، وكانوا يشغلون وظائف مهمة في كل القطاعات. وبعد حصول التفجيرات فشت بين يهود العراق هستيريا هجرة، فشهدت بدايات خمسينات القرن الماضي هجرة الآلاف من بينهم، إما إلى إيران أو قبرص وبعدهما إلى فلسطينالمحتلة أو غيرها. بينما أشارت مصادر إلى أن عدد المهاجرين اليهود من العراق بلغ نحو 123 ألف نسمة في نهاية العام 1951، وهذا الرقم هو الأكبر من بين مهاجري البلدان العربية من اليهود، مع أنهم – أي يهود العراق واليمن وغيرهم – عوملوا معاملة سيئة من جانب السلطات الإسرائيلية، وفرضت عليهم الإقامة في مخيمات غير لائقة (المعبراة) وتركوا بلا عمل وقدمت لهم مساعدات شحيحة. في مصر وبلاد المغرب: شهدت مصر بعد قيام الكيان الصهيوني في فلسطين في العام 1948 تفجيرات لمحلات يملكها يهود، على أيدي عملاء لمنظمات صهيونية، وذلك بهدف خلق حالة من عدم الاستقرار بين اليهود، ودفعهم للهجرة. واستمر ذلك بعد قيام ثورة العام 1952 على الملكية. وجاء العدوان الثلاثي الانكليزي الفرنسي الإسرائيلي على الأراضي المصرية، وخاصة على قناة السويس في العام 1965 ليزيد وتيرة هجرة اليهود من مصر. كما إن خروج الاستعمار الفرنسي من تونس والمغرب في تلك السنة، بعد أن خاض الشعبان كفاحاً مستمراً ضده، ثم اضطر للخروج من الجزائر في أوائل ستينات القرن الماضي، دفع يهود تلك البلدان إلى الهجرة، خصوصا أن غالبيتهم كانت متعاونة مع ذلك الاستعمار، وربطت مصالحها بمصالحه، وكان كثيرون من يهود تلك البلدان يحملون جنسيات المستعمر. لذلك رحل أغلبهم معه، وكان من الطبيعي أن ينذرهم المستعمر ببيع أملاكهم وقبض تعويضاتهم. وشكل اليهود العراقيون لجنة في إسرائيل، أطلقوا عليها اسم «لجنة يهود بغداد» في مواجهة الحملة التي يقودها نائب وزير الخارجية الإسرائيلي، وذلك برئاسة الشاعر ألموغ بهار الذي قال إن «داني أيالون والحكومة الإسرائيلية ووزراء من اليمين يحاولون استغلال تاريخنا بطريقة مهينة في ألاعيبهم السياسية، وهذه ليست المرة الأولى التي يجري فيها محو تاريخنا واستغلاله وتشويهه. وأضاف: «إن تكوين اللجنة ما هو إلا الخطوة الأولى في استئناف المطالبة بتاريخنا وثقافتنا وأملاكنا أيضا، ولا نترك للآخرين ومن ضمنهم الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل الاستحواذ عليها لصالحهم». وبين الجد والهزل يذكر الكاتب الإسرائيلي كوخافي شيمش في مقال له ان «من يبحث عن حل منصف للاجئين، فإن أفضل حل هو إعادتهم إلى أوطانهم، فيعود «اللاجئون اليهود» إلى الدول العربية، ويعود الفلسطينيون إلى فلسطين، أي إسرائيل اليوم، فهل هذا ما تريده إسرائيل؟ تعلمنا في المدرسة أننا كيهود عدنا إلى وطننا الأول القديم، أرض الميعاد، فكيف أصبحنا لاجئين في إسرائيل؟». * كاتب فلسطيني