من المجازفة الدفاع عن سياسة عقلانية في لحظات انفعال لا يُسمع فيها إلا أزير الرصاص ونداء الثأر. لكن ماذا يبقى من الفكر السياسي إذا استقال من وظيفة قراءة معطيات الواقع وتحليل الآفاق المستقبلية؟ انسداد الوضع في الشرق الأوسط يلخصه عجز طَرَفي الصراع عن تحقيق أهدافهما. عجز المؤسسة العسكرية عن تأمين الأمن للإسرائيليين بلا دفع ثمن ازالة الاستيطان والاحتلال، وعجز الانتفاضة عن طرد المستوطنين والمحتلين بالكفاح المسلح بعيداً من المفاوضات "المذلة". اضف الى ذلك عجز ادارة كلينتون عن فرض مقترحاتها التي رفضها عرفات باستهتار لن ينساه له التاريخ على رغم انها كانت موضوعياً سقفاً لكل تنازلات اسرائيلية ممكنة. اغتنمت المؤسسة العسكرية المعادية لعملية السلام نسف عرفات لمؤتمر كامب ديفيد للاجهاز على السلام بممارسة عنف أعمى تجلى في قتل الطفل الدرة بدم بارد امام عدسات الكاميرا وبضرب الحصار والاغلاق. ونقاط التفتيش والتجويع والاذلال والاغتيال لتعميق الاحباط الفلسطيني من السلام وتيئيسه منه. ونجحت حتى الآن في ذلك: 60 في المئة من الفلسطينيين يحبذون الكفاح المسلح طريقاً الى الاستقلال ولا شك في ان جلّهم يتعاطف مع عمليات الإسلاميين الانتحارية في اسرائيل وهي العمليات العقيمة لأنها تزيد مخاوف الإسرائيليين من امكانية التعايش السلمي مع دولة فلسطينية تقاسمهم القدس كعاصمة. وهكذا قدم غياب السياسة في حل أو ادارة الصراع مع تل أبيب رأس مال رمزياً ضخماً للجنرال موفاز الذي سيتقاعد بعد عام لينخرط في الحياة السياسية: انها خدمته العسكرية كبطل انتصر على "العنف والارهاب" وأعاد لإسرائيل الأمن مع اعفائها من دفع ثمنه السياسي، بما ان المصائب لا تأتي فُرادى فإن عرفات اضاف لنسف مسار السلام شعار حق عودة 7،3 مليون لاجئ الى اسرائيل ليصبح سكانها الفلسطينيون مساوين لسكانها اليهود، هذا الاحتمال يحيي في الوعي الجمعي اليهودي نهاية الدولة العبرية بكارثة ديموغرافية ظلت دائماً تطارده ككابوس من بن غوريون الذي كان يتوقع تفوق فلسطينيي ال48 ديموغرافياً على السكان اليهود خلال ربع قرن الى غولدامئير التي كان يُؤرقها معرفة كم طفل فلسطيني يولد يومياً، اليوم أيضاً وعلى رغم الهجرة الحاشدة خصوصاً من الاتحاد السوفياتي السابق ما زال كابوس التفوق الديموغرافي الفلسطيني داخل الدولة يحتل مكان الصدارة في الإعلام. مثلاً نشرت معاريف 11/4/2001 ثلاثة سيناريوهات "علمية" للكارثة الديموغرافية يتوقع احدها نهاية اسرائيل في 2005 لمَّا يشرع اليهود في الهجرة من اسرائيل، يأساً من امكانية التعايش في دولة ثنائية القومية. وهكذا نجح شعار - مجرد شعار - حق العودة في تخويف الإسرائيليين من السلام وايهامهم انه يحمل في طياته خطراً وجودياً على الدولة، وهو الخطر الوحيد الذي يدفعهم الى التضحية وقبول خيار الحرب. في جميع حروبها لوَّحت المؤسسة العسكرية بهذا الخطر لبناء الوحدة المقدسة الضرورية لخوض الحرب. قد لا تحصل المؤسسة العسكرية على ضوء أميركي أخضر لشن حرب اقليمية لكنها نجحت في اشاعة مزاج شعبي خائف من السلام المحتوم في المستقبل المنظور. لأن شارون سيجد نفسه بعد تعاطي جميع المهدئات مرغماً اقليمياً ودولياً على العودة الى العلاج الحقيقي لأسباب الصراع أو على الرحيل. أما بوش فقد شرع منذ الآن يبحث عن مكان في سُلم أولياته للصراع العربي - الإسرائيلي خوفاً على استقرار عمليات استخراج النفط وأسعاره وخوفاً على أمن مضيف هرمز الضروري لنقل هذا النفط. هناك إذاً حاجة موضوعية لملء الفراغ الخطير الذي تركه توقف مسار السلام الذي يملؤه العنف اليوم وربما الحرب غداً وأيضاً لترميم الجسور مع الرأي العام اليهودي والعالمي. هذه الجسور التي نسفتها سياسة عرفات المضادة للسياسة. مشروع سلام عربي واقعي قد يملأ الفراغ ويصالح العالم العربي مع العالم اذا عرف كيف يخاطب الإعلام العالمي بلغة مقنعة لأنها صادقة وتقطع مع التطرف اللفظي المرصود للاستهلاك المحلي. سنة 1970 سأل عبدالناصر الصحافي المعروف ايريك رولو: لماذا لا تلقى تصريحاتنا صدى مماثلاً لصدى التصريحات الإسرائيلية في العالم؟ أجابه: لأنكم لا تعرفون كيف تخاطبون العالم. طلب منه عبدالناصر ان يكتب له حديثاً، حذف منه جملتين وأذن له بنشره في "لوموند"، وكان له وقْع اعلامي غير مسبوق وأُضطر وزير خارجية اسرائيل، ابا ايبان، ان يرد عليه فور نشره لأنه خلا من اللغة الخشبية المنفِّرة ووعد بالاعتراف بإسرائيل في مقابل انسحابها من الأراضي المحتلة. معظم القادة العرب يخاطب الديبلوماسيين في الغرف المغلقة بلغة واقعية يتناسونها عندما يتوجهون الى الإعلام العالمي الذي هو فاعل سياسي للقرار الدولي. بهذه اللغة الواقعية تحدث العقيد القذافي عن الصراع العربي الإسرائيلي في مؤتمر القمة الأخير - وهي اللغة المطلوبة لكتابة مشروع السلام العربي الذي لا يحتاج إلا لمجرد استنتساخ مقترحات كلينتون وتفاهمات طابا ومشروع السلام السوري - الإسرائيلي... التي تشكل مجتمعة التفسير العملي للشرعية الدولية. الجديد الذي ينبغي دمجه هو المبادرة الأردنية المصرية، واطلاق سراح الأسرى اللبنانيين من السجون الإسرائيلية واعادة مزارع شبعا الى لبنان في مقابل تعهد سورية بسحب قواتها من هذا البلد وفق أجندة معقولة وحلّ ميليشيا "حزب الله" ونزع سلاحها لتقليل مخاطرها على التوازنات الطائفية. حجة اعداء السلام المركزية في اسرائيل هي ان السلام العربي - الإسرائيلي سيقود في بدايته الى حرب أهلية بين يهود اسرائيل وفي نهايته الى "دمج اسرائيل ثقافياً بالعالم العربي". إذاً لنجعل من هذا الدمج بنداً مركزياً في مشروع السلام العربي ونَعِدَ يهود اسرائيل والعالم بقبول اسرائيل المسالمة عضواً في الجامعة العربية كما اقترح القذافي في مؤتمر القمة الأخير، وهو اقتراح بعيد النظر نزل على العقيد في لحظة الهام نادرة وغير منتظرة منه. وهو ما طالبت به على أعمدة "الحياة" غداة انتخاب باراك مع مبادرات أخرى ضرورية لكسر الحاجز النفسي الإسرائيلي - العربي وبناء الثقة المتبادلة بين اليهود والعرب. دمج اسرائيل في العالم العربي، عبر ضمها للجامعة العربية، هو لبّ التطبيع الشامل معها أي قبولها اقتصادياً، سياسياً، ثقافياً ونفسياً. هذا التطبيع كفيل بأن يكون أهم ضمانة ضد عدوانية المؤسسة العسكرية بتجريدها من سلاح تخويف اليهود من الخطر الوجودي على الدولة لتعبئتهم للحرب. وهو على أي حال أكثر نجاعة من الركض المجنون وراء تكديس الأسلحة بما فيها أسلحة الدمار الشامل التي دمر بها العرب اقتصادياتهم وسمعتهم في الإعلام العالمي. أما اسرائيل فتمتلك ضدها فضلاً عن ضربة الانتقام ترسانة من الأسلحة المضادة. بعد سقوط جدار برلين واعادة توحيد المانيا التي أدمنت اشعال فتيل الحروب حتى 1945 خشيت النخبة الفرنسية عودة الشياطين الألمانية القدمية، قطعاًَ للطريق على هذا الاحتمال لجأت باريس الى تسريع مسار التوحيد الأوروبي ل"سجن النسر الالماني في مؤسسات أوروبا الموحدة" كما قال فرانسوا ميتران حتى لا يُحلِّق طليقاً، بحثاً عن مجاله الحيوي معيداً القارة العجوز الى زمن الحروب الذي اعتقد انه غدا مجرد ذكرى. ضم الدولة اليهودية الى جامعة الدول العربية سيؤدي على الأرجح الى نتيجة مُماثلة لضم المانيا الى "الجامعة" الأوروبية في بروكسيل. تضمين مشروع السلام وعداً بضم اسرائيل الى الجامعة العربية بكل ما يمثله ويرمز اليه، كفيل بجعله مشروعاً يأسر العقول - وأسر العقول هو لبُّ فلسفة الاعلام المعاصر لتبليغ الرسائل الاستثنائية - لأنه يقدم ليهود اسرائيل والعالم ضمانة متينة ضد هاجسهم الأول عن مصير الدولة الذي طالما شلَّ منطقهم وقادهم الى اختيارات انتخابية كارثية. أي جهة مؤهلة لتقديم هذا المشروع للديبلوماسية الدولية والإعلام العالمي؟ الجامعة العربية؟ احتمال ضئيل طالما ظلت مؤسسة موظفين تنقصهم روح المبادرة وحس الإعلام ويجثم على رؤوسهم كابوس تناقضات دول الجامعة. السلطة الفلسطينية صاحبة المصلحة الأولى فيه؟ لكنها ما زالت على بُعد مسافات ضوئية من وعي رهان كسب الرأي العام العالمي للدفاع عن قضية شعبها. مثلاً لا حصراً: عن سؤال صحافي: "هل ترى فائدة من الانتفاضة المسلحة؟" رد صائب عريقات: "نحن نرى الأمور بعكس ما يراها العالم". هذه الانطوائية، التي هي لب اللاّسياسة الفلسطينية، ليست جديرة بكبير المفاوضين الفلسطينيين الذي يُفترض فيه انه يعرف دور "العالم" في صناعة القرار الدولي، بل هي غير جديرة بسائح قادم من كوكب آخر! لم تبق جهة أخرى محتملة لتبني مشروع السلام العربي وتسويقه في الإعلام العالمي حتى الا "الجماهيرية" وتكون ليبيا أول من يقطف مردوده الرمزي والسياسي وتغتنم الفرصة لصنع صورة جديدة لها في الديبلوماسية الدولية والإعلام العالمي، إذ يشار اليها دائماً بسبابة الاتهام كعدوة لليهود والسلام والاستقرار. تقديم هذا المشروع الى الاعلام العالمي يفترض تلزيمه، كما تفعل اسرائيل، لشركات علاقات عامة تنشره كإعلانات في الصحافة العالمية والإسرائيلية. أما أكثر وسائل تسويقه نجاعة فهي ان يلقيه العقيد القذافي بنفسه في الكنيست كما فعل السادات، قطعاً سيعتبر العالم نزوله في مطار بن غوريون نزولاً على سطح المريخ.