يواجه الفلسطينيون إشكالية تاريخية تكاد ترتقي إلى درجة التحدي الوجودي، ويعتبر النجاح بحلها مدخلاً إلى الوحدة والاستقلال والسيادة الوطنية. وتتمثل هذه الإشكالية بكيفية الوصول إلى القرار الفلسطيني المستقل ومتى يمكن ذلك وهل بالمقدور ممارسته قولاً وفعلاً بعد مضي عقود تلتها عقود على افتقاد هذا القرار (إلا ما ندر في بعض المجازفات) وإصرار بعض القوى على استمرار الافتقاد الفلسطيني إياه عبر مطاردته في متاهات الجغرافيا السياسية والاقتصادية المتحكمة بفلسطين والفلسطينيين جغرافياً وديموغرافياً وكفاحياً وسياسياً واقتصادياً وغير ذلك من ميادين يجد الفلسطيني نفسه مجبراً على خوضها بكل ما أوتي من قدرة على التصدي والرفض أو الصمود والمناورة أو حتى المطاوعة وأحياناً الرضوخ في انتظار مرور العاصفة التي كثيراً ما تتلوها عاصفة أخرى أو زلزالاً يضرب أركان وجذور الطموح الفلسطيني إلى السيادة والاستقلال أرضاً وقراراً. لم يعش الفلسطينيون بعد حالة أو صيرورة استقلال وطني، لا ماضياً ولا حاضراً. بعد إقرار اتفاقية سايكس - بيكو تم تقسيم بلاد الشام وضمنها فلسطين إلى دويلات عدة وضعت تحت الانتدابين الفرنسي والبريطاني، وقد وجد القوميون العرب الذين واجهوا القوميين الأتراك بزعامة أتاتورك عبر رفع راية وحدة العرب واستقلالهم، وجدوا أنفسهم أسرى حدود سايكس – بيكو وما فرضته من وطنيات قطرية، وفرض على الفلسطينيين منهم مواجهة من نوع آخر عند صدور وعد بلفور، أي مواجهة المشروع البريطاني الهادف إلى جعل فلسطين وطناً قومياً لليهود وما يوجبه من طرد الفلسطينيين من أرض وطنهم. فكانت النخبة الفلسطينية أمام مواجهتين: مواجهة المحتل البريطاني ومواجهة مشروعه الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، وهي التي لم تكن قد اعتادت بعد على العمل بمفردها أو بقوتها، الأمر الذي فرض عليها الاستمرار في التطلع إلى النخب الشقيقة والرفيقة التي عملت معها بالأمس ضد الأتراك لتحمل معها بعض أعباء المواجهتين، خصوصاً المواجهة مع مشروع الوطن القومي اليهودي بما يمثله من أخطار على فلسطين وجوارها. وأمام ضخامة المواجهة المفروضة على النخبة الفلسطينية الحديثة العهد بفلسطينيتها وجدت هذه النخبة نفسها مضطرة للتنسيق والمشاورة وأحياناً المشاركة مع الأشقاء في الرؤية والقرار والنضال. وكان الأبرز على هذا الصعيد مشاركتها في المؤتمرات السورية وقراراتها. ومع غرق النخب الشقيقة في مواجهة التطورات في أقطارها سواء على صعيد مواجهة الانتدابات هناك أو على صعيد تشكيل هيئاتها وأحزابها الوطنية وبروز بعض القيادات هنا وهناك كما في العراق والأردن (العرش الهاشمي فيهما بعد سقوطه في دمشق)، حاولت النخبة الفلسطينية أن تبلور ذاتها وبرنامجها وتطلعاتها وطنياً عبر ما عرف بالمؤتمرات الفلسطينية السبعة (1919 – 1928) إلا أنها لم تنجح بسبب التأثيرات المتباينة التي عصفت بالوطنية الفلسطينية سواء بمؤثرات بريطانية محضة، أو بمؤثرات عربية بعضها أردني (الملك عبدالله) أو سوري بما يمثله من تطلع وحنين قومي. في عام 1948 وإثر النكبة التي حلت بالفلسطينيين والهزيمة التي حلت بالجيوش العربية التي دخلت فلسطين لإنقاذها من براثن الصهاينة انكشفت إشكالية القرار الفلسطيني وتوزعه على أكثر من عاصمة عربية، ومن ثم خروجه من فلسطين والأيدي الفلسطينية وذلك عندما بدأت العواصم العربية المجاورة في تبادل الاتهامات بالمسؤولية عن النكبة، وبدأت حث الخطى لاجتذاب الفلسطينيين كنخب قيادية إلى جانبها وبدأت السعي إلى ضم الجغرافيا المتبقية من فلسطين وتشكيل هيئات فلسطينية تتبع لها، وكان الأنشط على هذا الصعيد: 1- مصر التي رعت ودعمت تشكيل حكومة عموم فلسطين في قطاع غزة في أيلول (سبتمبر) 1948 بدعم وتأييد من دول عربية مناوئة للملك الأردني، وقد اعترفت بهذه الحكومة جامعة الدول العربية، إلا أن عمرها لم يطل كثيراً سواء بسبب ضغوط بريطانية أو بسبب عدم استعداد الحكومة المصرية للذهاب بعيداً في دعم حكومة كهذه وتحمل تبعات ذلك، حيث لجأت الحكومة المصرية بعد ضم الأردن للضفة الغربية إلى وضع قطاع غزة تحت إدارة الحاكم العسكري المصري. 2- الأردن الذي لجأ وعبر مؤتمر أريحا الذي عقد في بداية كانون الأول (ديسمبر) 1948 (بعد ثلاثة أشهر من تشكيل حكومة عموم فلسطين) إلى إعلان ضم الضفة الغربية ومبايعة ملك الأردن ملكاً على فلسطين والأردن. 3- سورية التي لم تحز جغرافيا فلسطينية تذكر وقد سعت على رغم قلة عدد اللاجئين الفلسطينيين القادمين إليها إلى التأثير في الكتلة الديموغرافية الفلسطينية ورموزها القومية واجتذابها عبر العزف على أوتار القومية العربية والعمل العربي لتحرير فلسطين. استعادة الشخصية الوطنية بذلك، توزعت النخب القيادية الفلسطينية على العواصم والمحاور العربية التي امتنعت عن عقد أي مؤتمر فلسطيني عام لانتخاب قيادة، أو هيئة فلسطينية موحدة تمثل الفلسطينيين ككل أو حتى الفلسطينيين الذين يعيشون في ظل الحكم المصري أو الأردني أو غيره وغاب بالطبع القرار الفلسطيني غياباً كلياً. أدى استعجال ضم الضفة إلى الأردن ووضع قطاع غزة تحت الإدارة المصرية إلى استكمال النكبة التي حلت بفلسطين عبر القوة الصهيونية بنكبة فرضها التصارع العربي على ما بقي من جغرافيا فلسطينية وعلى قضم التمثيل الفلسطيني ومعه القرار الفلسطيني، وبذلك تم توجيه ضربة قاصمة كادت أن تكون قاضية للشخصية الوطنية الفلسطينية التي ظلت مغيبة إلى أن تم تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، من خلال تحرك قادته مصر عبدالناصر في أول مؤتمر قمة عربية بدعم من دول عربية وتأييدها في مقدمها سورية والعراق والجزائر. مع إقرار القمة العربية الأولى تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية بدأت رحلة إعادة بعث الشخصية الوطنية الفلسطينية في كيانية سياسية تمثيلية معترف بها عربياً هي منظمة التحرير بصفتها ممثلاً للشعب الفلسطيني وإطاراً سياسياً وعسكرياً قيادياً له، مهمته إعادة تنظيم الشعب الفلسطيني وإعداده سياسياً وعسكرياً (عبر إنشاء جيش التحرير الفلسطيني). وقد وقف الأردن ضد إنشاء المنظمة ورفض بشدة فكرة إنشاء جيش التحرير الفلسطيني وأن يعمد إلى تنظيم الشباب الفلسطيني وضمه في الأردن. لكن الأردن لم يستطع أن يحول دون عقد المجلس الوطني الفلسطيني الأول والثاني والثالث (وهي المؤتمرات التأسيسية للمنظمة) في القدس الشرقية، بسبب ضعف قدرته على التأثير والمناورة السياسية مع صعود مكانة مصر عبدالناصر والتغييرات التي حصلت في سورية والعراق والجزائر واليمن. وذهبت الأمور إلى ما هو أبعد على الصعيد الفلسطيني عندما بدأت حركة فتح الكفاح المسلح مع مطلع 1965 انطلاقاً من الضفة الغربية ضد إسرائيل معلنة بدء الثورة الفلسطينية المسلحة. انبعاث الشخصية الوطنية الفلسطينية والقرار الفلسطيني المستقل عبر تأسيس المنظمة وانطلاقة المقاومة المسلحة قرأته إسرائيل بصفته نذير خطر داهم، خصوصاً إذا ما تطورت الأمور مصرياً وعربياً باتجاه تمكين المنظمة والفصائل المسلحة الفلسطينية من إدارة قطاع غزة وإجبار الأردن على إلغاء قرار ضم الضفة وتسليمها إلى المنظمة، وبالتالي فتح الطريق أمام تأسيس دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع وبدء عملية تحرير الأراضي الفلسطينية أو إجبار إسرائيل على التفاوض على حدود قرار تقسيم فلسطين وإعادة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم عملاً بالقرار 194. ولعل هذا هو السبب الأهم الذي دفع إسرائيل إلى التحرك لشن عدوان 1967 بهدف احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة أولاً وتوجيه ضربة عسكرية ساحقة لمصر عبدالناصر (حيث تم احتلال سيناء بالكامل وصولاً إلى الضفة الشرقية لقناة السويس، وهو ما لم تكن تحلم به) واحتلال الجولان السوري. وبذلك استولت إسرائيل على الأرض التي كان يمكن المنظمة أن تقف عليها لإعادة بعث الكيان الفلسطيني والشخصية الوطنية الفلسطينية ومعها بالطبع القرار الفلسطيني المستقل. بعد هزيمة 1967 بعد هزيمة 1967، انطلقت حركة المقاومة الفلسطينية بقوة كبيرة من الأراضي الأردنية لتنفيذ عمليات عسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلي ودخلت فصائل المقاومة إلى المنظمة وتسلمت قيادتها عام 1968. وكادت قوة المقاومة هناك أن تهدد سلطة الملك الأردني، الأمر الذي زاد الخلاف والفرقة بين القيادتين الأردنية والفلسطينية إلى أن تفجرت الأزمة في أيلول 1970، وتمكن الأردن من إجبار المقاومة والقيادة الفلسطينية على الخروج من أراضيه، ما أدخل العلاقات الأردنية – الفلسطينية في مرحلة صعبة من تبادل الاتهامات. وعلى رغم ذلك ومع إدراكه للضعف الذي حل بالمقاومة والمنظمة بعد الخروج من الأردن ووفاة الرئيس عبدالناصر حاول ملك الأردن القيام بحركة التفافية لاستقطاب المقاومة والمنظمة عبر طرحه لمشروع (المملكة العربية المتحدة) كمشروع وحدة جديد بين الأردن والفلسطينيين في شباط (فبراير) 1972، وقد سارعت قيادة المنظمة إلى رفضه فور صدوره. ما أنقذ المنظمة والمقاومة (بعد ما حل بها في الأردن) وأعاد تعويمها ودفعها إلى المضي قدماً عربياً ودولياً هو حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 التي شنتها مصر وسورية وشاركت بها المقاومة عبر مشاغلة الإسرائيليين من الجنوب اللبناني باشتباكات محدودة (وامتناع الأردن عن المشاركة في الحرب) وما تبع ذلك من حراك عربي ساعد على تبلور الشخصية الوطنية الفلسطينية ممثلة بمنظمة التحرير وقرارها المستقل حيث اعترفت القمة العربية في الرباط 1974 بالمنظمة ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، وتمكنت المنظمة بعدها بدعم عربي ودولي مشهود من الوصول إلى الأممالمتحدة ونيل عضوية مراقب فيها. وعشية هذا الصعود كانت المنظمة أقرت ما عرف بالبرنامج المرحلي المتضمن العمل من أجل إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. وبدأت بعدها مرحلة جديدة من الصراع على المنظمة واستقلالية قرارها مع عودة الخلافات وسياسات المحاور والتضاد بين الدول العربية حيث وجدت المنظمة نفسها وسط معمعة عربية يصعب عليها فيها أن تحمي نفسها وقرارها بعد أن كثرت استهدافاتها من جانب هذه العاصمة أو تلك وهددت بإخضاعها وبإحداث انشقاقات فيها، واضطرت إلى المشاركة في الحرب الأهلية اللبنانية وإلى الاشتباك مع القوات السورية عندما دخلت لبنان عام 1976، وإلى الاختلاف مع مصر والعراق، إضافة إلى الأردن. عاشت المنظمة آنذاك مرحلة عاصفة إلا أنها، وبفضل ما حققته بعيد حرب تشرين وما أقامته من تحالفات مع بعض القوى اللبنانية وحاجة أكثر من عاصمة عربية إلى الصوت والقرار أو الممثل الفلسطيني، تمكنت من الصمود والنجاة بأقل قدر من الخسائر، وتجاوزت تلك المحنة بعد زيارة الرئيس المصري أنور السادات القدس عام 1977، وتشكيل جبهة الصمود والتصدي حيث أصبحت المنظمة عضواً كامل العضوية فيها مثلها مثل باقي دول الجبهة إن لم تكن أهم من بعض دولها، وتصالحت مع دمشق التي تصالحت وقتها مع بغداد (توقيع اتفاق العمل القومي المشترك وخطوات نحو الوحدة بين البلدين). وقد ساهم ذلك في رفع مكانة المنظمة وقرارها إلى مستوى يوازي مستوى الدولة، لكن هذه المرحلة لم تدم طويلاً، إذ سارعت إسرائيل إلى غزو لبنان 1982 مستهدفة تدمير المقاومة والمنظمة وإخراجها من لبنان وتوجيه ضربة مؤلمة للقوات السورية في لبنان، وبالتالي إجبار لبنان على توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل (اتفاقية 17 أيار 1984) بعد تنصيب رئيس موالٍ لها في بيروت. ما بعد لبنان وبالفعل، وبعد صمود دام حوالى ثلاثة أشهر في بيروت اضطرت قيادة المنظمة ومعها المقاتلون الفلسطينيون إلى الخروج من لبنان والتوزع على عدد من الدول العربية وإلى انتقال قيادة المنظمة من بيروت إلى تونس حيث بدأت مرحلة جديدة من إعادة تنظيم الصفوف ولملمتها والإمساك بالقرار المستقل بعد أن ظهر أكثر من فعل وملمح يشير إلى محاولات البعض الإمساك به أو تطويعه. فكان الأبرز عام 1983 الانشقاق الذي حصل في حركة فتح والصدامات التي تلت ذلك في طرابلس، ومن ثم عودة قيادة المنظمة إلى القاهرة والتصالح مع الأردن بعيداً من دمشق وتحدياً لها. وقد بلغ الصراع على القرار الفلسطيني في هذه المرحلة ذروته بين أكثر من عاصمة عربية مؤثرة سواء عبر تنظيمات تتبع لها في الساحة الفلسطينية أو عبر مؤثرات الجغرافيا السياسية مثل الأردن أو عبر المال (الخليج) أو عبر المنافذ السياسية (النافذة المصرية على تل أبيب وواشنطن) وكادت المنظمة وقرارها أن يعيشا المرحلة نفسها التي عاشتها بعد الخروج من الأردن. وكما انتشلت حرب تشرين المنظمة من الهوة التي كانت تتدحرج إليها بعد الخروج من الأردن، انتشلت انتفاضة الحجارة الفلسطينية في 1987، المنظمة والقرار الفلسطيني بقوة لم تكن في بال أحد من القادة الفلسطينيين والعرب والإسرائيليين حين قدمت الانتفاضة الضفة والقطاع أرضاً فلسطينية بشعب فلسطيني منتفض على الاحتلال ويتوق إلى قيادة فلسطينية وقرار مستقل ليتحرر من الاحتلال. وعندها أدركت القيادة الفلسطينية أنها تحررت إلى حد بعيد من الضرورات التي تفرضها الجغرافيا السياسية والعمل من خارج فلسطين إلى داخلها، وأنها اعتباراً من تاريخه ستعمل من وعلى الأرض الفلسطينية بقرار فلسطيني هدفه إنهاء الاحتلال وتحقيق الاستقلال وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة. بعد أشهر قلائل على اندلاع الانتفاضة أصدر الأردن قراراً بفك الارتباط أو الوحدة مع الضفة الغربية، وبعد حوالى عام على اندلاع الانتفاضة عقدت قيادة المنظمة واحدة من أهم دورات المجلس الوطني الفلسطيني، سواء من جهة مشاركة غالبية الفصائل المنضوية في المنظمة تأكيداً للوحدة الوطنية ووحدة المنظمة ووحدة القرار أو لجهة القرارات التي اتخذت في شأن دعم الانتفاضة وإعلان قيام الدولة الفلسطينية المستقلة. وبهذه الدورة استعادت قيادة المنظمة قرارها المستقل ومكانتها في السياسة العربية وبدأت عبر الحوار مع الولاياتالمتحدة بالتقدم في الساحة الدولية. وازداد ذلك بعد أن عقد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 بمشاركة وفد فلسطيني – أردني مشترك قامت المنظمة بتسمية أعضاء الوفد الفلسطيني فيه، والذي سرعان ما عمل منفرداً، وسرعان ما كشفت الأنباء بعد أقل من عامين عن مفاوضات فلسطينية - إسرائيلية سرية أسفرت عن التوصل إلى ما عرف باتفاق أوسلو الذي تم التوقيع عليه في واشنطن في 13/ 9/ 1993، ونص على الاعتراف المتبادل بين المنظمة وإسرائيل وإنشاء سلطة فلسطينية وإنهاء الاحتلال، وما تبعه من ثم من وقف للانتفاضة وانتقال للقيادة والكوادر الفلسطينية تباعاً من تونس وغيرها من العواصم إلى قطاع غزة والضفة الغربية وإنشاء السلطة والحكومة الفلسطينية بعد انسحاب قوات الاحتلال من مساحات من الضفة والقطاع. أوسلو والقرار المستقل كان التوقيع على اتفاق أوسلو ذروة القرار الفلسطيني المستقل، وعارضت ذلك فصائل ومنظمات وقوى فلسطينية كثيرة شكلت في ما بينها جبهة رفض جديدة هددت وحدة المنظمة وقرارها وقوتها التمثيلية وقد رأت إسرائيل في ذلك فرصة لها لإخضاع المنظمة وتطويع قرارها ودفعها للقبول بسقف أدنى لا يتجاوز كثيراً سلطات الحكم الذاتي، الأمر الذي أدخل المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية في أكثر من نفق، ووضعها أمام أكثر من جدار إلى أن أعلنت إسرائيل الحرب على قيادة السلطة والمنظمة طوراً في غزة وطوراً في الضفة. وبعد فشل إسرائيل في تحقيق ما أرادت جمدت الاتفاقات مع المنظمة وامتنعت عن استكمال إنهاء احتلال الضفة والقطاع، الأمر الذي قاد إلى قيام انتفاضة ثانية وإلى بروز دور حركة «حماس» والجهاد الإسلامي وبدء تسليح الانتفاضة وتجييشها وبدء ظهور بوادر انشقاق في قيادة الانتفاضة والسلطة ما بين مؤيد لمقاومة شعبية سلمية تخوضها الانتفاضة، ومؤيد لمقاومة مسلحة فيها. وتطور الاختلاف لاحقاً إلى حدوث انقلاب نفذته حركة «حماس» في قطاع غزة قاد إلى انقسام السلطة إلى سلطتين، سلطة وطنية في رام الله بقيادة المنظمة (وحركة فتح في شكل أساسي)، وسلطة أو حكومة انقلابية في قطاع غزة تقودها حركة «حماس». أنهى التوقيع على اتفاق أوسلو، وما تلاه من اتفاقات وإجراءات من بينها بعض الانسحابات الإسرائيلية وإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، مرحلة تاريخية من التنافس وأحياناً التصارع العربي أو الفلسطيني – العربي للسيطرة على القرار الفلسطيني والتأثير فيه، أو تطويعه لمصلحة سياسات وتحالفات هذه العاصمة أو تلك. وبدا أن مرحلة جديدة بدأت في السعي إلى الفوز الفلسطيني باستقلالية القرار على طريق الدولة المستقلة، إلا أن هذه المرحلة لم تستمر طويلاً بسبب امتناع إسرائيل عن تنفيذ الاتفاقات الموقعة والانسحاب من الضفة والقطاع، وبدء إسرائيل ممارسة ضغوط شديدة بما فيها العدوان العسكري للتأثير في هذا القرار ودفعه نحو الاتجاهات المرغوبة إسرائيلياً، إضافة إلى وضع عراقيل وحواجز لمحاصرته غربياً ودولياً. وفي الوقت نفسه استمرت تنظيمات فلسطينية وجهات عربية في التشكيك بالقيادة الفلسطينية وتخوينها، وكان في قلب ذلك كله رهان إسرائيلي كبير عبر ممارسة الضغط المتواصل على الأرض لإحداث انشقاق وانقسام كبير ضمن السلطة يتم من خلاله فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، وبالتالي إحداث انقسام كبير في القرار المستقل بحيث تكون هناك سلطة في الضفة تواجهها سلطة في القطاع، وقرار هنا يواجهه قرار هناك، وتنازع واتهامات بين السلطتين، ما حال دون احترابهما بعدهما الجغرافي عن بعضهما بعضاً. ربما تكون الحكومة الفلسطينية الجديدة بعد مصالحة «فتح» و«حماس» نافذة لاستعادة وحدة المؤسسات وحيز ممكن من القرار الوطني المستقل. * كاتب فلسطيني