سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
في ضوء تواتر المزاعم عن توطّن الفلسطينيين في العراق وتجنيدهم وتملّكهم العقارات والأرض . دعوة الى المعارضة العراقية للتدقيق في صحة المعلومات عن التوطين قبل اعلان المواقف السياسية
طرحت المسألة بحدة منذ مطلع آذار مارس الماضي بعد أن بدأ بعض الصحف ينشر تباعاً أخباراً وبيانات لقوى عراقية تتحدث عن اقتلاع مواطنين أكراد وتركمان من منازلهم وإحلال محلهم عائلات فلسطينية من أبناء اللاجئين المقيمين في بغداد... وفي عرض المسألة كما جاءت في الصحف يمكن أن نسرد ما يلي: - في مطلع شهر آذار مارس أعلن أن مجلس قيادة الثورة في العراق - وهو أعلى سلطة في البلاد - أصدر قراراً سمح بموجبه للاجئين الفلسطينيين المقيمين في العراق بتملك البيوت والأراضي. وأوضحت وكالات الأنباء ناقلة الخبر أنه مضى حوالى شهر ونصف على صدور القرار. أي أنه صدر منتصف شهر كانون الثاني يناير العام الحالي. - في تصريح لمجلة "الإعلام" العراقية أوضح المدير العام لدائرة التسجيل العقاري في وزارة العدل في بغداد زيدان خلف الطائي أن القرار المذكور منح اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في العراق منذ العام 1948، والذين خضعوا للتعداد السكاني آنذاك، حق تملك قطعة أرض أو دار سكنية أو سيارة، لكن القرار يمنع في الوقت نفسه على صاحب الملكية نقلها أو تسجيلها باسم أحد أبنائه أو ورثته. أي أن للقرار قيوداً على ملكية اللاجئين الفلسطينيين في العراق وأن حق هؤلاء في التملك ليس مطلقاً. - عدد من الدوائر العراقية استقبل الخبر بكثير من الارتياب وأخضعه للتحليل السياسي المبني على التقديرات والاحتمالات والتخمينات... وتحدث بعض الصحف عما أسماه "ردوداً عاصفة" قيل إن القرار المذكور أثارها في صفوف أكراد العراق خوفاً من أن يكون غطاء تلجأ تحته حكومة بغداد الى توطين اللاجئين الفلسطينيين مكان مواطنين أكراد وتركمان في شمال العراق. - صحف أخرى تحدثت بدورها عن "معلومات حصلت عليها من مؤسسات سياسية كردية" تقول إن السلطات العراقية طردت فعلاً مواطنين أكراداً وتركماناً من بيوتهم وأسكنت بدلاً منهم عائلات فلسطينية. كما أشارت هذه المعلومات الى مدن وقرى بعينها كمدينة كركوك وضواحيها مسرحاً لهذه الإجراءات... - لم يقف الأمر عند حدود "معلومات" نقلت من هنا أو هناك، بل أكدت صحف أخرى أن مبعوثين أكراداً أجروا مع ممثلين عن السلطة الفلسطينية وفصائل أخرى، اتصالات لهذا الغرض بما في ذلك رفع مذكرة من "المنتدى الكردي" في هولندا الى رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات يطلب إليه فيها التدخل لتعطيل ما أسماه ب"الخطة العراقية لتوطين الفلسطينيين" مكان الأكراد والتركمان. - وتخوفت المذكرة "من وقوع فتنة جديدة" ومن "دق إسفين في جسد العلاقات الكردية الفلسطينية والكردية العربية". - على وقع هذه الأخبار المتدفقة على نسق واحد، وبطريقة يبدو منها بوضوح أن الجهة التي تقف خلفها تملك خطة إعلامية تهدف من ورائها الى إثارة "الموضوع" على أوسع نطاق، والتأكيد أن هناك توطيناً للاجئين الفلسطينيين في العراق، في منازل وبيوت مواطنين عراقيين أكراداً وتركمان، تقتلعهم الحكومة من بيوتهم بالقوة... نشرت صحف عن مراسليها في عمان و"نقلاً عن قادمين من بغداد" ما يؤكد "الارتفاع في أسعار العقارات ارتفاعاً كبيراً ساهم فيه تدافع عشرات الآلاف من الفلسطينيين لشراء بيوت وشقق بل وعمارات سكنية". وأوحت هذه الأقوال ان بحوزة اللاجئ الفلسطيني قدرة شرائية لا تتوافر لدى نظيره المواطن العراقي. - ومع أن النبأ الوارد أعلاه يتناقض في مضمونه مع تفسير الطائي لقرار السماح للفلسطينيين بالتملك، واصل بعض الصحف نشره لأنباء تؤكد إقبال اللاجئين على شراء العقارات مستفيدين من "تحويلات خارجية ... من أقاربهم ومن جمعيات ومؤسسات فلسطينية لشراء المزيد من العقارات والأراضي"... ولم يكن خافياً على أحد أن مثل هذه الأنباء تحاول أن توحي بوجود مخطط فلسطيني رصدت له الأموال للاستيلاء على أكبر مساحة من الأراضي وأكبر عدد من الشقق والبنايات في العراق، وهو مخطط إن كان يهدف لشيء، فإنما - في السياق العام للأخبار كما توالت - لاستقبال اللاجئين الذين سيصبح العراق وطنهم النهائي على حساب أبنائه الحقيقيين. - وحتى يكون لمثل هذه الأنباء أبعادها "الاجتماعية والديمغرافية المقنعة" أشارت بعض الصحف الى وجود حوالى 240 ألف لاجئ فلسطيني في العراق وأن عددهم ازداد لاحقاً مع "استقرار عشرات الآلاف" من الفلسطينيين المبعدين من الكويت... وإن كانت تراجعت هذه المصادر عن هذا الرقم لكنها قالت بالمقابل إن العدد الإجمالي لهؤلاء اللاجئين بقي بحدود 150 ألفاً. - ولم تقف القضية عند حدود توزيع الأخبار بل تجاوزت ذلك الى الربط في ما بينها. فقد نقل عما سمي ب"مصادر عراقية" استنتاجها القائل أن تملك الفلسطيني في العراق يحمل في طياته مشروعاً للتوطين، وأن بغداد وافقت على ذلك بعد محادثات سرية مع أطراف دولية للدخول في صفقة مقايضة يرفع عبرها الحصار عن العراق مقابل موافقة بغداد على توطين اللاجئين الفلسطينيين. "خصوصاً وأن قضيتهم تشكل إحدى العقبات الجدية أمام إقامة سلام دائم في الشرق الأوسط". وعن "مصلحة" بغداد في هذه الصفقة نقلت الصحف عن هذه المصادر قولها إنه الى جانب فك الحصار عن العراق فإن خطة الحكومة العراقية "تقضي باستغلال الوجود الفلسطيني لإحداث توازن ديمغرافي في المناطق التي يشكل فيها الوجود البشري العراقي الكردي والتركماني عنصر قلق واضطراب"... وتقضي الخطة - والكلام للمصادر نفسها - بترحيل الأكراد والتركمان من مناطق سكناهم وإحلال مكانهم آلاف اللاجئين الفلسطينيين "وهكذا تتلاقى مصالح الطرفين العراقيوالفلسطيني - والكلام للمصادر نفسها - فالتوطين يشكل وعداً بغد أفضل للفلسطينيين، فضلاً عن أن الوجود الفلسطيني في مناطق سكناه الجديدة سيظل رهناً باستمرار النظام العراقي الحالي في الحكم الأمر الذي سيحول اللاجئين - وفقاً لتقديرات المصادر نفسها - الى ميليشيات تقاتل من أجل النظام العراقي وترهن وجودها بوجوده". وتوقعت هذه المصادر أن يتخذ النظام العراقي إجراءات من خلالها "تعتبر الحكومة كل فلسطيني بلغ الثامنة عشرة من عمره جندياً في الجيش العراقي بمرتب شهري في مناطق سكنه الجديدة شأنه شأن الجندي العراقي النظامي". - أين سيكون التوطين؟ على قاعدة "إحداث التوازن الديمغرافي" فإن التوطين سيكون بالضرورة في "مناطق الأكثرية الكردية والتركمانية". وأضاف البعض لاحقاً "مناطق الأكثرية الشيعية". ونشر بعض الصحف ما أسماه بخرائط التوطين الجاهزة بحيث تمتد مناطق إقامة الفلسطينيين من كركوك الى خانقين ليحلوا محل الأكراد الذين سيرحلون الى "مناطق تمتد من الفاو حتى صفوان كحاجز يفصل العراق عن الكويت وإيران". وكذلك قيل إن الحكومة العراقية تعمل من أجل تحويل مدينتي العمارة والناصرية الى ثكنات عسكرية للاجئين الفلسطينيين على حساب الشيعة الذين سيهجرون من سكناهم، من البصرة وبعض مدن الوسط الأخرى الى مناطق متاخمة للأراضي السعودية، ليشكلوا حاجزاً بشرياً آخر. - في هذا السياق، لم تقف المسألة عند حدود تناقل الأخبار نقلاً عن المصادر بل تعدته الى إصدار بيانات رسمية تؤكد أن خطة التوطين بدأ تنفيذها بشكل أو بآخر. فعلى لسان ناطق باسم المكتب السياسي ل"الاتحاد الإسلامي لتركمان العراق" صدر تصريح يتحدث عن قيام الحكومة العراقية بإخلاء حي عرفه في كركوك من سكانه التركمان وترحيلهم الى مدينة الرمادي. وقال الناطق إن الترحيل طال 300 عائلة جرى إسكان عائلات فلسطينية محلها. بدورها تحدثت "الحركة الإسلامية لتركمان العراق" في بيان لها عن "ترحيل 130 عائلة تركمانية من منطقة كركوك وطوز الى مناطق كردية تقع خارج سيطرة الحكومة" في بغداد، وأضاف البيان أن عائلات فلسطينية تم توطينها مكان العائلات التركمانية المطرودة. - وما صدر في بيانات للحركة التركمانية في العراق ورد أيضاً في صحف معارضة للنظام العراقي. فصحيفة "بغداد" الناطقة بلسان "حركة الوفاق الوطني العراقي" تنشر في العدد 420 7/4/2000 تحت عنوان "الفلسطينيون في العراق قنبلة موقوتة قابلة للانفجار" تقريراً عن قرار تمليك الفلسطينيين، وتربط بينه وبين مشروع لتوطين اللاجئين في العراق. ومع أن الصحيفة تنقل عن الخارجية العراقية نفيها وجود مشروع توطين وتأكيدها أن مثل هذه القضية "تروجها دول معادية للعراق إضافة الى المعارضة العراقية التي تحاول إثارة موضوع غير مطروح أصلاً" إلا أن الصحيفة ترى أن قرار التمليك جاء ليؤكد عدم صدق بيان الخارجية. أما صحيفة "نداء الرافدين" الناطقة بلسان "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق" فكتبت في العدد 217 30/3/2000 تحت عنوان: "لن ينجح النظام العراقي بزرع الفتنة بين الشعبين الشقيقين العراقيوالفلسطيني". بما معناه أن توطين اللاجئين هو مؤامرة على الفلسطينيين ضالع فيها النظام العراقي من أهدافها: التنافس مع إيران على التقارب مع الولاياتالمتحدة، وضرب التقارب الذي حصل أخيراً في أجواء العلاقات الأميركية - الإيرانية والإيحاء أن طهران ما زالت تشكل مصدر خطر كبير على المشاريع التي تسعى واشنطن لتكريسها، وهو ما يوفر أرضية تبريرية لما تقوم به منظمة مجاهدي خلق من عمليات ضد إيران كما جاء في الصحيفة. أما صحيفة "الأحرار" الناطقة بلسان "منظمة العمل الإسلامي في العراق" فنقلت في عددها الحادي عشر 15/3/2000 نبأ على ذمة "المحرر نيوز" قالت فيه إن اجتماعاً جرى في الموصل بين ممثلين عن الحكومة العراقية والسلطة الفلسطينية وحكومة تل أبيب "نوقشت خلاله السبل الكفيلة بتوطين مجموعات من فلسطيني 1948 و1967". وأضافت الصحيفة تقول إنه "لوحظ في الآونة الأخيرة أن جزءاً من هذه المجموعات وعائلاتها استوطنت منطقة كركوك ذات الغالبية التركمانية مما دفع بالعائلات التركمانية النزوح نحو المناطق الملاذ الآمن". كما ورد في الأصل. - في ظل هذه الأجواء تعرضت منطقة "البلديات" في بغداد لقصف بالهاون من عيار 60 ملم ليل 21/3/2000 أودى بحياة مواطنين عراقيين وفلسطينيين، وأصيب 38 آخرون بجروح. ومن المعروف أن "البلديات" هي التجمع السكاني الأكبر للاجئين الفلسطينيين في العراق. ولوحظ أن وسائل الإعلام والدوائر الديبلوماسية المختلفة فضلاً عن الحكومة العراقية نفسها، أولت الحدث اهتماماً ملحوظاً. حتى إن عضو القيادة القومية في حزب البعث الحاكم عبدالغني عبدالغفور، تولى شخصياً نقل تعازي الرئيس العراقي صدام حسين الى عائلات القتلى وزار الجرحى في المستشفيات. ويستدل من طبيعة السلاح المستعمل في الاعتداء أن المنفذين كانوا على مقربة شديدة من المكان، وأن الهدف من العملية هو إيقاع خسائر في صفوف المدنيين، وزرع الرعب في نفوسهم. إذ إن كل الدلائل تؤكد خلو المنطقة المستهدفة بالعدوان من أية مراكز حكومية أو حزبية أو استخباراتية أو عسكرية، قد تكون هي الهدف الحقيقي للعملية. وقد خضع الحادث لتأويلات عديدة أسوأ ما فيها أنها حاولت أن تجد مبرراً للحادث ولدوافعه. فالبعض قال إنه يأتي رداً على قصف مماثل قامت مجموعات لمجاهدي خلق الإيرانية المدعومة عراقياً ضد بعض الأهداف الإيرانية. أما التفسير الأكثر خطورة فذاك الذي ذهب في تحليله الى القول إن مجموعات كردية أو تركمانية تقف خلف العمل، وأن الفلسطينيين المستهدفون بشكل مباشر رداً على ضلوعهم في مشروع اقتلاع العائلات الكردية والتركمانية من مساكنها والحلول محلها في إطار الخطة المذكورة سالفاً والتي قيل إن النظام العراقي يقف وراءها في إطار نزاعاته مع هذه الأقليات القومية. وقد تكرر العدوان العسكري على منطقة "البلديات" بعد فترة قصيرة مما أوحى وكأن الفلسطينيين في العراق دخلوا دائرة النار. لقد حاولنا عرض الصورة من كافة جوانبها، ولعلنا استفضنا قليلاً في العرض، لا لشيء، سوى لتسليط الضوء على خطورة الموضوع وكيف أنه يحتل حيزاً هاماً من اهتمامات أطراف عراقية. وصار التحذير من توطين الفلسطينيين في العراق وإحلالهم محل الأكراد والتركمان جزءاً ثابتاً من الخطاب السياسي لممثلي الأقليات القومية وللتيارات السياسية الشيعية في العراق. ونظراً لتشعب علاقات هذه القوى على المستويين الإقليمي والدولي، فمن الطبيعي أن يكون هذا الموضوع قد أدرج على جدول اهتمامات الأطراف الإقليمية والدولية ذات الصلة بالموضوع العراقي وبالمسألة الفلسطينية. وقد أعطي هذا الأمر اهتماماً متزايداً كونه ترافق مع الإعلان عن بدء مفاوضات الحل النهائي بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، المعنية ببحث قضايا مصيرية من ضمنها قضية اللاجئين في ظل إصرار إسرائيلي معلن على رفض الاعتراف بحق هؤلاء في العودة، على أن يتم توطينهم في دول الجوار العربي وأستراليا وكندا والدول الاسكندنافية. من هنا يصبح السؤال ملحاً. ما هي حقيقة الأمر، وماذا يجري في العراق، وهل هناك حقاً مشروع لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في هذا البلد المحاصر، في إطار صفقة دولية، مقابل إسقاط الحصار أو تخفيفه عن بغداد؟ وهل ان الفلسطينيين شركاء حقاً في مشروع لاقتلاع الأكراد والتركمان وأعداد من العراقيين الشيعة من مناطق سكناهم والحلول محلهم لإحداث "تغيير ديمغرافي" في البلد، على صلة بأوضاعه الداخلية وصلاته الإقليمية؟ وهل لهذا الأمر - على سبيل الافتراض - صلة بالنزاع العراقي - الإيراني كما أشار البعض؟ وهل هناك - كما قيل - تنافس إيراني - عراقي للتقرب من الولاياتالمتحدة، يشكل الفلسطينيون اللاجئون أحد أدواته؟ في التوضيح في سياق إسهامنا في البحث عن ردود للأسئلة المثارة حول الموضوع، يهمنا أن نلفت النظر الى عدد من الملاحظات والوقائع والمعلومات: - منذ أن طرح المشروع الصهيوني لإقامة دولة إسرائيل على أنقاض الكيان السياسي الخاص بالشعب الفلسطيني، والعراق يعتبر واحداً من الدول العربية المرشحة من الصهيونية لاستقبال الفلسطينيين المقتلعين من أرضهم، الى جانب الأردن ودول عربية أخرى. لكن مشاريع التوطين سقطت بفعل رفض الفلسطينيين والدول العربية لها وإصرارهم على التمسك بحق العودة الى ديارهم وممتلكاتهم. وعندما طرحت مشاريع السلام العربي - الإسرائيلي على يد الأممالمتحدةوالولاياتالمتحدة وغيرها كانت قضية اللاجئين العثرة الكبرى أمام الحل خاصة في ظل رفض إسرائيلي السماح لهم بالعودة الى ديارهم طبقاً للقرار 194. لذلك لا غرابة ولا جديد أن يقال - في هذه الأيام بالذات - إن العراق مرشح أن يكون وطناً بديلاً للاجئين الفلسطينيين. - المفارقة بشأن العراق أنه واحد من البلدان العربية المرشحة لاستقبال أكبر عدد من اللاجئين وتوطينهم "بسبب اتساع أراضيه وغناها بالمياه الأمر الذي يوفر للفلاح الفلسطيني فرصة للاستقرار". ومع ذلك فإن الذين لجأوا الى العراق في العام 1948 لم يتجاوز عددهم الخمسة آلاف لاجئ من أصل حوالى 800 ألف تركوا فلسطين وتوزعوا على الدول العربية المجاورة لها. إلى ذلك فإن الجالية الفلسطينية في العراق، وبطلب من حكومة بغداد لم تشملها عناية وكالة الغوث الأونروا ورعايتها بعد تشكيلها في 8/12/1949 وبدئها خدماتها في 1/5/1950. ثم ان اللاجئين في العراق لم يدرجوا في سجلات الوكالة. وعندما فتح ملف اللاجئين في المفاوضات المتعددة الأطراف، استثني اللاجئون في العراق من البحث، لأن بغداد لم تشارك في الاجتماع. فهي أولاً غير مدعوة، بفعل الحظر المفروض عليها، وهي ثانياً تقاطع العملية التفاوضية منذ الأساس. - هناك تضخيم مقصود لعدد اللاجئين الفلسطينيين في العراق. فعددهم الحقيقي يراوح في حده الأقصى بين 45 ألفاً و50 ألفاً في وقت تؤكد مصادر فلسطينية مقيمة في بغداد أن عددهم الحقيقي لا يتجاوز 35 ألف لاجئ يقيمون بشكل رئيسي في بغداد، أما عدد المبعدين من الكويت فلا يتجاوز الألف نسمة 150 عائلة على الأكثر. ولعل تضخيم عدد أبناء الجالية الفلسطينية في العراق والقول إنه يتجاوز 150 ألف لاجئ كان المقصود منه تضخيم خطر إسكانهم محل الأكراد والتركمان. لكن اللجوء الى التلاعب بالأرقام بهذه الطريقة من قبل قوى عراقية يفترض بها أن تكون ملمة بالتفاصيل الدقيقة لأحوال بلدها، لا يخدم خطابها السياسي لأنه يضع المراقب أمام احتمالين لا ثالث لهما: فإما أن تكون هذه القوى مقطوعة الصلة بما يجري في العراق، ولا تعرف الحقيقة، وإما أنها تضخم في المعلومات لأهداف مبيتة، وفي الحالين سيبدو خطابها موضع تشكيك. - قرار مجلس قيادة الثورة السماح للاجئين الفلسطينيين بالتمليك ليس أمراً جديداً في العراق. بل هو جاء ليصحح وضعاً نتج عن حال الحصار المفروض على العراق. إذ سبق لمجلس قيادة الثورة أن أصدر في العام 1973 قراراً بمعاملة اللاجئ الفلسطيني معاملة المواطن العراقي في حقوقه المدنية والاجتماعية، ما عدا السياسية. فصار من حق اللاجئ الفلسطيني أن يشغل وظيفة حكومية، أو يمتلك عقاراً أو سيارة أو محلاً تجارياً كما صار بإمكانه مزاولة المهن الحرة كالتجارة والصناعة، وأن يملك رصيداً في المصارف. وبناء للقرار المذكور استبدلت الوثائق الخاصة بالفلسطينيين وشطبت عنها كلمة لاجئ ومنح اللاجئون هويات ووثائق سفر عراقية "خاصة بالفلسطينيين". تدهور الوضع في العام 1993 دفع الحكومة العراقية لأن تصدر سلسلة قرارات حمائية تتعلق باقتصاد البلاد منعت بموجبها غير العراقيين من مزاولة كل أنواع النشاط التجاري والصناعي في العراق بما في ذلك امتلاك عقار أو سيارة أو حتى الحصول على اشتراك هاتف، خصوصاً بعد أن تدهور الدينار العراقي وصار اقتصاد البلاد معرّضاً للغزو المباشر برؤوس أموال خارجية. ولأسباب، فسرت على أنها "خلل إداري" طبقت هذه القرارات أيضاً على اللاجئين الفلسطينيين في العراق، أسوة بغيرهم من العرب والأجانب. وبناء على شكاوى عدد من اللاجئين أنفسهم، بمن فيهم مسؤولون فلسطينيون كبار، أصدرت السلطات العراقية قرارها الأخير، بهدف استثناء اللاجئين الفلسطينيين المسجلين في العراق ما بين عامي 1948- 1950، من إجراءات الحماية الاقتصادية المتخذة في العام 1993. وفي كل الأحوال لا يقتصر حق الملكية على اللاجئين في العراق. بل من حق اللاجئين في سوريا - أيضاً - وبموجب قوانين رسمية امتلاك بيت أو عقار أو سيارة، فماذا يفسر القرار في العراق على أنه تمهيد لتوطين اللاجئين، ولا يعطى للقرار في سورية التفسير نفسه؟ مع التأكيد أن امتلاك اللاجئ عقاراً أو بيتاً أو سيارة لا يلغي مكانته السياسية والقانونية كلاجئ، ولا يسقط حقه في العودة الى دياره وممتلكاته، حتى وإن منح جنسية البلد المضيف - على غرار ما جرى في الأردن- فإنه يحتفظ بحقوقه كلاجئ، بما فيها حقه في العودة كما كفلته له القوانين والمواثيق والقرارات الدولية القرار 194 على سبيل المثال.. - أما بشأن اقتلاع الأكراد والتركمان والشيعة، كما جاء في البيانات وفي "مصادر المعلومات". فإن المتتبعين لأوضاع العراق يدركون جيداً أن هذه المسألة "تاريخية" في العراق وأنها على صلة بالأوضاع الداخلية العراقية وعلى صلة بالعلاقات الإقليمية للعراق، وأن الفلسطينيين ليسوا جزءاً منها. وعودة الى تاريخ العراق تفيد أن بغداد عمدت في فترات عدة الى إحلال قبائل عربية بدلاً من بعض الأكراد والتركمان. ثم ولو كان هناك - على سبيل الافتراض والجدل ليس إلا - مشروع لإحلال أعداد من اللاجئين الفلسطينيين محل مواطنين عراقيين، ترى هل يحتاج النظام الى مسوغات قانونية، كقانون التمليك على سبيل المثال؟ ولسنا بحاجة لكثير عناء لنظهر مدى خطورة أن تلجأ بعض الأطراف العراقية - وفق حسابات محلية أو إقليمية خاصة - لاستغلال الوجود الفلسطيني في العراق في أهداف لا تخدم القضية الفلسطينية ولا القضية العراقية بل تسيء الى القضيتين معاً. - يشتم من بعض الصور الإخبارية كما جرى الترويج لها، محاولة لتشبيه الفلسطينيين في العراق بالغزاة الصهاينة لفلسطين. وإلا فما معنى القول إنه إثر صدور قرار التمليك تدفقت على الفلسطينيين في العراق أموال مصدرها أفراد وجماعات وجمعيات ومؤسسات؟ أليس الإيحاء بوجود مخطط مسبق لدى الفلسطينيين بشراء العقارات في العراق وفي غيره لنقل اللاجئين إليها من الأقطار العربية المجاورة وعلى غرار ما فعلت الحركة الصهيونية في فلسطين حين كانت تلجأ الى شراء الأراضي ولو بالتمويه وتحت أسماء مستعارة لاستقدام مهاجرين يهود وتوطينهم على حساب الفلاح الفلسطيني الذي كان يقتلع من أرضه؟ التشبيه الآخر بالحركة الصهيونية هو القول إن حوالى 430 عائلة فلسطينية جرى إسكانها بدلاً من عائلات كردية وتركمانية اقتلعت من بيوتها. ترى ألم يفعل اليهود الأمر نفسه مع العائلات الفلسطينية إبان الغزو المسلح عام 1948؟ وبتقديرنا أياً كانت النوايات الحقيقية التي تقف خلف هذا الكلام وأياً كانت التعابير المستعملة فيه، ومهما بلغت درجة الحرص على صون العلاقة بين العرب والأكراد والتركمان - فإن الترويج له سيترك أثراً سلبياً لدى كل الأطراف، لدى الأكراد والتركمان "ضحايا الاقتلاع"، ولدى الفلسطينيين المتهمين بسلوك التوطين على الطريقة الصهيونية. إن الفلسطيني اللاجئ ليس إلا ضيفاً على البلد المضيف وشعبه، أكان العراق أم سورية أم لبنان أم غيرها. وبقاؤه ضيفاً مرهون بتمسكه بحقه في العودة، ونضاله لأجله، ورفضه للتوطين ونضاله ضده. إلا فإنه يخل بشروط الضيافة ويصبح مزاحماً ومعتدياً. وقد أثبتت التجارب على مر السنين آخرها اقتحام اللاجئين في لبنان للأسلاك الشائكة عند الحدود وتدفقهم نحو أرض فلسطين أن الشعب الفلسطيني رفض كل مشاريع التوطين، وأكد عند كل المنعطفات تمسكه بحق العودة، حتى عندما حزت رقاب الضحايا بالسكين في صبرا وشاتيلا، وجرفت منازل اللاجئين بالجرافات في عين الحلوة إبان الاجتياح الإسرائيلي واستهدفت صدورهم بالرصاص الحي في شوارع الضفة والقطاع بقوا متمسكين بحق العودة الى الديار والممتلكات. ولعل تصاعد حركة اللاجئين، من القطاع، الى الضفة، الى أقطار اللجوء، الى بلدان الهجر بما فيها بلدان أقصى الشمال الأوروبي، وعلى قاعدة رفض التوطين أياً كانت صيغته، والتمسك بحق العودة، يشكل مؤشراً حيوياً حول جدية الموقف الفلسطيني الجماعي من هذه القضية.. - لكن قد يقول قائل وهذا ما قيل في ندوة عقدت في دمشق لبحث "خطر توطين الفلسطينيين في العراق"، وكنت واحداً من المتحدثين فيها إن بعض الفلسطينيين في العراق حمل السلاح الى جانب النظام في أحداث الجنوب، وقد يكون بين الفلسطينيين من هو على استعداد لتنفيذ خطة اقتلاع الأكراد والتركمان من بيوتهم والحلول محلهم. في هذا السياق ألفت النظر الى أن الخارجية العراقية نفت وجود مخطط لتوطين الفلسطينيين في العراق. كما نفى ذلك عزام الأحمد سفير فلسطين في بغداد، والدكتور أسعد عبدالرحمن رئيس دائرة شؤون اللاجئين في منظمة التحرير وعضو لجنتها التنفيذية. في الوقت نفسه أدرك أن لا قيمة لهذا النفي في حسابات بعض الأطراف العراقية التي تبنت ما قيل عن لقاء ثلاثي عراقي - فلسطيني - إسرائيلي في الموصل لبحث مخطط التوطين. غير أن النفي لم يقتصر على هؤلاء بل شاركتهم فيه كل الفصائل الفلسطينية التي أجمعت على نفي وجود مشروع للتوطين في العراق كما أجمعت على رفضها أي مشروع مماثل، في العراق أم في غيره من الدول العربية. أما بشأن ما قيل عن فلسطينيين "موالين" للنظام العراقي، فالكل يدرك أن هناك فلسطينيين أعضاء في حزب البعث الحاكم وما يصدر عن هؤلاء إنما يمثل سياسة الحزب ولا يمثل الإرادة الجماعية للشعب الفلسطيني كما تعبر عنها مؤسساته الشعبية والنقابية والسياسية. فالممثل الوحيد لشعب فلسطين هو منظمة التحرير الفلسطينية التي يفترض أن تشكل إطار الائتلاف الوطني العريض للتيارات السياسية في ساحة العمل الوطني الفلسطيني. خلاصة القول إن الشعب الفلسطيني بات يملك قدراً كبيراً من الخبرة السياسية كما بات يملك حساسية سياسية تمكنه من التمعن في المشاريع المطروحة ومعرفة ما هو صالح لقضيته وما هو مسيء لها. وبناء عليه باتت لدى هذا الشعب مواقف يمكن وصفها بالثوابت الوطنية منها: - حرصه على علاقاته القومية والإقليمية وحرصه على عدم الانحياز لهذا الطرف أو ذاك في أية صراعات جانبية، فمعركة الشعب الفلسطيني الأولى هي معركته ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولأجل صون حقوقه الوطنية وتنفيذها. وتقضي مصلحته الوطنية أن يقيم علاقات سليمة مع كافة الأطراف العربية والإقليمية حرصاً منه على توفير أوسع دعم لقضيته وحقوقه الوطنية. - حرصه على التمسك بحق اللاجئين في العودة الى ديارهم وممتلكاتهم، ورفضه المطلق فكرة الوطن البديل. وإذا كان في اللجوء تشرد وصعوبات وقلق فإن التوطين لا يشكل حلاً ولا ضمانة لمستقبل الأجيال الفلسطينية، فالضمانة الوحيدة هي العودة الى الأهل والأرض. - الفلسطيني ليس بندقية تؤجر هنا أو هناك، بل هو شعب له كيانه السياسي، صانه في كل مناطق وجوده عبر أكثر من نصف قرن، في إسرائيل ضد الأسرلة، وفي الضفة والقطاع وباقي مناطق الشتات ضد التذويب والتوطين والاستيعاب. ومن المؤلم استغلال مأساة الشعب الفلسطيني في حسابات سياسية محلية أو إقليمية لا تمت الى قضية الشعب الفلسطيني بصلة. وأختم بتوجيه نداء الى القوى العراقية المعارضة أدعوها الى التدقيق أكثر في صحة المعلومات حول ما يقال عن "توطين" اللاجئين الفلسطينيين في مناطق الأكراد والتركمان، والتدقيق أكثر في موقف الشعب الفلسطيني من التوطين وعدم الوقوع في استسهال صياغة المواقف بناء على معطيات غير صحيحة. لأن هذا سيقود الى استنتاجات وسياسات مضرة لا يستفيد منها إلا أعداء الشعبين الفلسطينيوالعراقي. إن قضايانا شديدة التعقيد، وهو ما يتطلب منا قدرة أوسع على قراءة هذه التعقيدات منعاً للوقوع في الخطأ. * كاتب سياسي فلسطيني.