"أبشر يا ياسر عرفات. أبشر. قريباً جداً ستتحقق آمالك، وينتصر شعب فلسطين وتقوم الدولة الفلسطينية وتحصل على الاستقلال، وتكون القدس هي العاصمة". هذه العبارات المظفرة الطافحة بالبشرى والتي من شأنها بالطبع ان تطمئن الفلسطينيين والعرب اجمعين الى ان النصر آت لا محالة والآمال ستتحقق قريباً جداً، لم يقلها بيل كلينتون الذي يرى كثيرون انه ممسك ببعض اهم مفاتيح الحل وقادر على ان يورثها قريباً الى خليفته في سدة الرئاسة الاميركية. ولم يقلها فلاديمير بوتين الذي قد يحلو له بين الحين والآخر ان يؤدي دور زعيم الدولة الكبرى... على رغم كل شيء. وكذلك لم يقل هذا الكلام بيان صادر عن مؤتمر قمة عربي او اي شيء من هذا القبيل. قائل الكلام هو منجّم يقرأ في بلورته السحرية. واذا كان هذا الامر في حد ذاته لا يمكن اعتباره اكثر من لفتة حماسية من شخص عربي، علماً ان من حق المنجم ايضاً - اسوة بغيره من المواطنين العرب - ان يكون ذا مشاعر عربية يعبر عنها، سواء أأتى تعبيره بعد تفحص للبلورة السحرية ام قبل ذلك ام خلاله، فإن الخطير في الامر هو المكان الذي قاله فيه المنجم. قاله امام مئات ألوف المشاهدين عبر شاشة محطة فضائية عربية. لم يقله كافتراض او امنية، بل كواقع ملموس ليس علينا - او على ياسر عرفات الذي وجه الحديث اليه - الا ان يمد يده ليلتقطه. وهكذا، من جديد نبرهن، نحن العرب، للمرة الألف، كيف يمكننا ان نستخدم احدث ما في العالم من وسائل تكنولوجية تعتمد اقصى درجات العقلانية، للترويج لأبعد الأمور عن العقلانية. وهل هناك ما هو اقل عقلانية من بلورة سحرية يرى فيها ناظرها النصر متحققاً قريباً ويعد به؟ من نافل القول إن حرية الرأي والتعبير تفرض علينا القبول بأن يعبّر الناس عن آرائهم، ولو عثروا عليها داخل بلورة مسحورة. الا ان الامر لا يعود ذا علاقة بأي حرية تعبيرية حين تصبح هذه الحرية وسيلة لنشر الخرافة والضحك على ذقون الناس. ويقينا اننا لسنا هنا في حاجة الى نشر احصاءات لكي نؤكد ان ثمة نسبة عالية جداً من المتفرجين تبدو على استعداد للتصديق ان "النصر" سيتحقق لمجرد انه مكتوب كعين الشمس في البلورة السحرية. فهل علينا ان نقول ان ثمة اموراً هي من الخطورة والاهمية، بحيث لا يجوز ابداً تركها لقمة سائغة في افواه المنجمين وغير المنجمين... وباختصار: في افواه الدجالين؟ صحيح ان معظم الصحف يهتم بهذا النوع من "التنبؤ" وان كان من غير الممكن الافتراض ان ما في الابراج يتحقق... لكن الصحيح ان القراء وغير القراء من الذين يتابعون مثل هذه الامور، بصرف النظر هل يصدقونها او لا، يتابعونها لمجرد الترفيه والتسلية لا اكثر. من هنا حين تتعلق الامور بمسائل من نوع الانتفاضة والاستقلال وسقوط الشهداء والجرحى، يصبح من الخطير ترك المجال واسعاً امام التنجيم... او ما يشبهه. يكفينا على شاشات التلفزة عشرات الاشخاص الذين يملأونها... ليملأوا الجو ضوضاء حماسة مخادعة تؤدي دوراً في ايرادنا موارد الهلاك. ويكفينا عشرات المسؤولين والمحللين يأتون ليتفننوا في التعبير عن مواقف مليئة بانتصارات مزيفة. ويكفينا بث ملايين الصور واللقطات التي تزيد من صب الزيت على النار، وتعطينا اوهام مسقبل وردي "مؤكد". يكفينا هذا كله الى درجة لسنا معها في حاجة الى تلك البلورة السحرية، الى ذلك التخريف، والامعان في البعد عن العقلانية، خصوصاً في زمن بات كل شيء يرتدي مسوح العقلانية بما في ذلك القتل والعنف والدمار. كل شيء الا نحن... وبعض شاشاتنا الصغيرة.