هناك موقفان في التعامل مع أفلام جان - لوك غودار الأخيرة، وعلى الأقل منذ «موزار الى الأبد»، وصولاً الى «فيلم اشتراكية» الذي عرض في آن واحد تقريباً، قبل أسبوعين، في تظاهرة «نظرة ما» في «كان» على الانترنت، كما في الصالات: نظرة استعلائية تفترض أن الإعلان عن مناصرة هذه الأفلام نوع من التميز والخروج من صفوف عباد الله البسطاء الصالحين الذين قد لا يفهمون هذه الأفلام وبالتالي لا يستسيغونها، ونظرة استعلائية أخرى تفترض أن الإعلان عن موقف سلبي حاد من هذه الأفلام نوع من التميز المضاد يطاول هذه المرة محبي أفلام غودار على أساس أن صاحب الموقف يتجاوزهم. والنظرتان حمقاوان على قدم المساواة. وذلك بالتحديد لأن سينما غودار ليست من نوع السينما التي تطرح لتناصَر، أو لتُعادى، أو على الأقل لا ينظر اليها صاحبها على هذا النحو. وغودار لم ينظر على هذا النحو الى سينماه منذ بداياته قبل ستين سنة، حين كان مع «على آخر رمق» من مؤسسي الموجة الجديدة الفرنسية. كذلك فإن غودار لا يعتبر سينماه استفزازية كما يحلو للبعض أن يرى. نعي لأوروبا بالأحرى هو ينظر الى كل فيلم من أفلامه كما ينظر الشاعر الى قصيدته أو الرسام الى لوحته: عمل ابداعي يقول رؤية الى الذات وإلى العالم في لغة يجب أن تكون دائماً متجاوزة، جديدة مرتبطة بالعصر. ومن هنا أكثر من أي لقب آخر يمكن أن يعطى له، يصح أن يلقب غودار ب «شاعر السينما». وما فيلمه الجديد «فيلم اشتراكية» سوى تأكيد جديد على هذا. حتى وإن كان عنوان الفيلم، كما عناوين معظم أفلام غودار، يغشّ وبالكاد يشي بما في الفيلم. أما ما في «فيلم اشتراكية» فإنما هو قبل أي شيء آخر نعي لأوروبا. أوروبا التي لم تفِ بوعودها. ولا سيما تجاه المتوسط و... فلسطين. غير أن هذا النعي انما يأتي نعياً «موسيقياً» إذ ان الفيلم بأكمله أتى «كسيمفونية في ثلاث حركات». وهي ثلاث حركات لا يبدو، من وجهة نظر منطقية ان ثمة رابطاً واضحاً في ما بينها. مهما يكن، من يبحث عن رابط سيبدو وكأنه نسي انه هنا أمام فيلم لغودار. والأقسام الثلاث، أو بالأحرى الحركات الثلاثة لها عناوين محددة: «أشياء مثل هذه» و «كوفاديس أوروبا» وأخيراً «انسانياتنا». في الحركة الأولى والثالثة رحلة متوسطية: الأولى في المكان والثانية في الزمان. أما الحركة الثانية فتدور في كاراج تقيم فيه أسرة صاحب محطة وقود في الجنوب الفرنسي. وخاصية هذه الأسرة التي تبرر هنا شغلها الحركة الثانية من السيمفونية، هي ان ولديها مرشحان للمجلس البلدي، ما يدفع محطة التلفزة المحلية التابعة ل «القناة الثالثة» الى تصوير تحقيق مع العائلة وحولها، ولا سيما مع الفتى ابن العائلة، الذي لا يتوقف عن الكلام، إلا حين يقلد قائد أوركسترا... إذاً في منطقة السافوا، تدور هذه الحركة من دون أي تسلسل منطقي. فالمشاهد هنا تتتابع عن الشخصيات وبينها، عن الفتاة الصبية وعن حيوان لاما من الصعب تصور أسباب وجوده هنا، وعن حمار أليف مرتبط بمغارة الميلاد... والخلاصة هنا خبر يعلمنا اياه الفيلم: اليوم إذ صار الأنذال صادقين، صار للأطفال فرصتهم. ومجلس الدولة الذي لم يصادق على الانتخابات الأولى للمجلس البلدي، يجد نفسه أمام الابن والإبنة وقد حازا 93 في المئة من الأصوات. وإزاء هذا الخبر يجد المرء نفسه متسائلاً: إذاً لماذا يحضر كتاب «الأوهام الضائعة» لبلزاك كل هذا الحضور؟ هذا القسم، بالسؤال الذي ينتهي اليه، مؤطر في شكل واضح بالرحلتين اللتين ذكرناهما. في الأولى لدينا مجموعة من أهل المجتمع ومن الأفراد ومن النصابين والفنانين (مثل باتي سميت) والمفكرين (مثل آلان باديو فيلسوف ما بعد الماركسية) والاقتصاديين، يقومون معاً بجولة بحرية في مدن متوسطية. يأكلون يشربون يغامرون يلعبون يثرثرون، يشاهدون نقلاً لمباريات كرة قدم، يقدّسون، كما يجب على سطح مياه المتوسط التي صورتها كاميرا غودار، الديجتال أحياناً، بل حتى كاميرا المحمول في أحيان أخرى، في شكل ندر تصويره في السينما. وهنا أيضاً، كما في خاتمة الحركة الثانية، سؤال - بين أسئلة أخرى - يلح على غودار وعلى الفيلم: عندما خرج الاحتلال البريطاني من فلسطين، أين اختفى الذهب الذي كان في بنك فلسطين؟ وهذا سؤال يربطه غودار بسؤال مشابه، انما جوابه معروف في شكل أفضل، حول ذهب الجمهوريين الإسبان الذي نقل الى موسكو، فضاع نصفه في الطريق... وهنا لا يفوتنا أن نربط هذين السؤالين بمسألة مطالبة اسرائيل بمقتنيات يهود المانيا التي أودعت في مصارف سويسرا خلال الحرب العالمية الثانية. الفيلم الوصية مثل هذه الأسئلة والاستطرادات تشكل صلب هذا الفيلم، الذي جعل للغة المطبوعة دوراً أساسياً في مشاهده. بل ان الترجمة الإنكليزية للعبارات المنطوقة جاءت شديدة الخصوصية، متقشفة ناقصة لتشكل جزءاً من منطق الفيلم كله - وغرابته بالنسبة الى كثر خيّل اليهم ان في الأمر خطأ في انجاز النسخة المعروضة -. على تفكير هؤلاء كان الجواب بسيطاً: نحن هنا أمام فيلم لغودار. وفيلم لغودار هو فيلم لغودار. وفي هذا الفيلم الجديد لغودار، كان من الواضح أن غودار يتصرف ويصوّر وكأنه في لعبة تمرين دائم على السينما، على المونتاج، على الحوار، على السياسة... ثم لاحقاً على التاريخ. وفي لعبة مثل هذه، يعطي المخرج نفسه الحق في التصرف كما يشاء. يعطي نفسه الحق في أن يكون منطق فيلمه من داخل الفيلم لا من خارجه، بمعنى انه لا يمكن التعامل مع هذا الفيلم كما يتم التعامل مع الأفلام الأخرى مهما كانت طليعية. ومن هنا حين يطرح سؤال، من قبل الصوت الآتي من خارج الشاشة، أو من شخص على الشاشة، أو كتابة على هذه الشاشة، لا يعود مهماً انتظار اجابة عليه. ذلك ان لسؤال من هذا النوع لدى غودار، أهميته في طرحه. وكذلك حال تلك الشظايا الصغيرة من الحروف أو الدلالات أو الاستطرادات التي يحتاج الدخول فيها (فهمها إذا شئتم!!)، إدراكاً للمرجعيات التي تكمن في خلفيتها. وينطبق هذا في شكل خاص على «الحركة» الثالثة، التي هي بدورها عبارة عن رحلة، لكنها رحلة في الزمان هذه المرة، ومن دون أن يتوضح ما إذا كانت استطراداً للرحلة الأولى أو جواباً عليها، أو تنويعاً. هذه الحركة هي عبارة عن زيارة - سياحية في نهاية الأمر، ولكن سياحية من نوع شديد الخصوصية - للأماكن الستة» التي إذ يعطيها غودار عنواناً عاماً هو «انسانياتنا»، يستطرد انها معاً، أماكن «الأسطورة» وأماكن التاريخ: مصر وفلسطين، أوديسا (على البحر الأسود)، و «هيلاس» (اليونان) ونابولي وبرشلونة. ولكيلا تبدو الزيارة مجرد سياحة، يأتي هنا سؤال اضافي لغودار: ان التراجيديا والديموقراطية ولدتا معاً في أثينا، فلماذا لم تعطيا حين اجتمعتا سوى الحرب الأهلية؟ في النهاية يأتي جواب غودار فصيحاً في عدم فصاحته، إذ تملأ الشاشة عبارة No Comment، أي لا تعليق. ولكن قبل ذلك، يكون الفيلم قد قام بجولته المتفاوتة الطول بين مكان لإنسانيتنا وآخر: يمر عند شاطئ فلسطين لتظهر على الشاشة عبارة مستقاة من الكومبيوتر «لا يمكن الدخول هنا». في منطق الفيلم تبدو هذه العبارة القصيرة أفصح ما في هذا الفيلم - وفي المقابل تبدو المشاهد الطويلة التي يصورها غودار في أوديسا، وعند الميناء نفسه والدرج الشهير الذي صور فيه ايزنشتاين قبل نحو عقد فيلمه الأشهر «الدارعة بوتمكين». بل ان الفيلم الغوداري يستعير لقطات عدة من فيلم ايزنشتاين، ليس لتوضيح فكرة أو لإبداء رأي وإنما لخلق عدوى ورابطة، تعول على ما هو مسكوت عنه في التاريخ. هذا التاريخ الذي - ومن دون أن يقول الفيلم هذا بصراحة - يبدو في صراع مع الجغرافيا: كما أشرنا الرحلة الأولى تمثل الجغرافيا، فيما الثانية تمثل التاريخ. أما ما بينهما فسؤال نعي لأوروبا... هذه الأوروبا التي ربما تقوم كارثتها الكبرى في أنها - كما يقول غودار - حين تحررت بعد الحرب العالمية الثانية، رضيت أن تسلم قيادها، أي أن تهدي حريتها، الى أميركا... فيما تقوم خطيئتها الكبرى في أنها ذات يوم وحين دعت الحاجة، لم تقم بواجبها تجاه فلسطين! وبقي هنا أن نذكر أخيراً، أن جان - لوك غودار أعلن بعد انجازه «فيلم اشتراكية» انه سيكون فيلمه الأخير... والحال أن هذا لا يعني أقل من أن هذا الفيلم انما هو وصية غودار السينمائية، ولكن أيضاً السياسية والجمالية الأخيرة. قد يكون هذا مقبولاً، ولا سيما إذ يشاهد الفيلم انطلاقاً منه، ولكن في المقابل، ان نظرنا الى «فيلم اشتراكية» من دون التوقف عنده، ونسينا ان مخرجه يقترب حثيثاً من الثمانين من عمره، سنحسنا أمام فيلم عابق بالشباب، بالمغامرة الجمالية، بالتقنيات الجديدة وبالتجريب، وبأحوال العالم الراهن، أكثر من أي فيلم آخر حققه مبدع هذه السنوات الأخيرة.