برزت المسألة العراقية او الحالة العراقية على المسرح الدولي منذ الغزو العراقي للكويت في آب اغسطس 1990 وحرب الخليج الثانية التي اعقبت ذلك في بداية 1991. وترافق مع ذلك، او نجم عنه، خضوع العراق لسلسلة من العقوبات الدولية ووضع البلد تحت الحصار بموجب عدد كبير من قرارات الأممالمتحدة الصادرة في فترات متلاحقة، لا سيما القرار الأهم الرقم 687 لعام 1991. وعلى الصعيد الداخلي، تفاقمت الحياة العامة واشتدت معاناة الناس ومآسيهم نتيجة لعواقب الحصار الدولي من ناحية، واستمرار القمع والاستبداد السياسي في ادارة الحكم وتعريض وحدة البلاد والمجتمع العراقي لأخطار جدية من ناحية ثانية. على امتداد اكثر من عقد من السنين، لم يجر التوصل لحل المسألة العراقية الشائكة لا عربياً ولا دولياً، بل اخذت أخيراً بالتفاقم والتعقيد بوصفها مشكلة دولية مؤجلة الحل وذات تداعيات خطيرة على جميع الصعد. وكانت الحصيلة الرئيسية لمجمل التطورات التي تلاحقت في شأن المسألة العراقية، صدور القرار الرقم 1441 من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالاجماع في الثامن من تشرين الثاني نوفمبر 2002. وبذلك بات العراق، وربما المنطقة، أمام منعطف خطير في مسار التطور اللاحق، بحكم ما تضمنه هذا القرار من توجه حاسم لتقرير مستقبل البلد وحل المشكلات العالقة مع الأممالمتحدة، ومنها مشكلة اسلحة الدمار الشامل. وفي هذا السياق، تبرز الحاجة، على نحو ملح وضاغط، لتفادي مخاطر الحرب المحتملة لأي سبب كان، وللسعي الجاد من جانب جميع القوى الخيّرة، نحو حل سلمي حقيقي لهذه المعضلة المزمنة، وذلك بتوفير السبل والوسائل اللازمة لاحداث تحول ديموقراطي حقيقي في العراق، لحل مشكلة الحكم بوصفها السبب الاساس لبروز المسألة العراقية وتفاقمها من دون التقليل من شأن العوامل الخارجية الاخرى الاقليمية والدولية. وعلى رغم توافق الآراء بوجه عام على الدعوة الى تغيير ديموقراطي في العراق، فإن التجارب السابقة تشير الى ضرورة التوقف جدياً عند معالم التغيير المنشود، وصوغ رؤية استراتيجية للمهمات والتحولات المقبلة. ولعل اهمها هو تنمية وعي ديموقراطي حقيقي، والتزام ثابت بالقيم الوطنية والديموقراطية فكراً وسلوكاً، من جانب الحركات والمنظمات والأفراد المعنيين بالتغيير الشامل، ونقل البلاد الى مرحلة جديدة من التطور السياسي والاجتماعي، من شأنها ان تحقق اماني الشعب وتطلعاته في الاستقرار والأمن والحرية والرفاه الاقتصادي واستعادة الاستقلال والسيادة الوطنية. وفي هذا السياق ايضاً، يتعين مراجعة طائفة من الظواهر والقضايا التي نشأت وتنامت مع تطور النضال من اجل التغيير الديموقراطي وفي خضم التصدي للمعضلات والأزمات المرتبطة بسياسة الحكم وممارساته على جميع الصعد. وهذا ما يتعين النهوض به في هذا المنعطف الجديد من تطور الاوضاع في البلاد والمنطقة والعالم، وبهدف صوغ اجابات ومعالجات صائبة وقابلة للتحقيق، تستند الى نظرة واقعية ومستنيرة وشاملة. ذلك ان المطلوب ليس حل مشكلة الحكم وحسب، بل ارساء تقاليد ومثل وضوابط ديموقراطية للسلوك السياسي والاجتماعي العام، بغية تفادي اية انتكاسة او نكوص عن المهمات المرسومة، وبهدف الركون الى حكم مؤسسات وآليات توفر الضمان الحقيقي والكفيل لمسيرة ديموقراطية مستقرة في البلاد. وهنا نواجه بالضرورة مهمة تحديد المفاهيم وشرحها، والدعوة اليها كأساس فكري وسياسي للرؤية الاستراتيجية التي نطمح الى صوغها وبسط ابعادها الاساسية على اوسع نطاق. 1- النموذج الديموقراطي المنشود مع اتساع الدعوة الى الديموقراطية وتصدرها وثائق المنظمات والتيارات الساعية للتغيير، يلاحظ ان خلطاً واسعاً طاول المطلب الديموقراطي وأحاطه بشيء من الالتباس والتعميم، فضلاً عن ان مفهوم الديموقراطية لا يبدو متماثلاً ومتجانساً بين التيارات السياسية والمدارس الفكرية وذلك لأسباب معرفية وتاريخية وايديولوجية، وربما اجتماعية طبقية ايضاً. فمع التسليم "بالقيمة الاخلاقية" للديموقراطية وكونها الدافع لشيوع هذه الفكرة نقيضاً للقمع ومصادرة حقوق الانسان، الا ان هذه الفضيلة الانسانية المهمة وحدها لا تكفي لجني ثمار الخيار الديموقراطي، بل تتطلب بناء اداة مناسبة وفاعلة لخلق روابط سليمة بين المجتمع والدولة من ناحية، وبين افراد المجتمع على اتساعه، من ناحية ثانية، لذلك من المهم للغاية تحديد مفهوم الديموقراطية ومبادئها الرئىسة اولاً، وتوصيف آلياتها ومؤسساتها انسجاماً مع حاجات المجتمع والمرحلة التاريخية التي يجتازها. فمن حيث المفهوم، لا يوجد نموذج نظري جاهز للتطبيق. فالبشرية تكتنز اليوم خبرات وتجارب ثرية في هذا الميدان، نتيجة لتطور طويل ومعقد للمجتمعات الانسانية، وبالارتباط مع ظروف وأوضاع متباينة، الامر الذي يتطلب الافادة التامة من هذا الرصيد المتراكم، وصوغ نموذج حي ومتطور للبناء الديموقراطي يتلاءم مع حاجات المجتمع وقيمه ومستلزمات تطوره المطرد. ولعل تجربة العراق تطرح هذه المسألة بالحاح شديد، وتتطلب تغييراً في البنية السياسية، وفي هيكل النظام الدستوري والقانوني من اساسه. فلا يجوز الكلام عن نظام ديموقراطي والسلطة مناطة بما يسمى "مجلس قيادة الثورة" وقيادة الحزب الواحد، ولا يكون هناك ديموقراطية اذا اعطيت صلاحيات قضائية للحزب الحاكم او اذا تملكت الحكومة والحزب الحاكم وسائل الاعلام من صحافة وإذاعة وتلفزيون. ولا تعتبر الانتخابات ديموقراطية اذا تطلبت من المرشحين للمجلس الوطني البرلمان الالتزام بمعتقدات سياسية تخص الحزب الحاكم، او الموافقة على حرب مدمرة قام بها هذا النظام. كما لا تعتبر الانتخابات معبرة عن رأي الشعب اذا خضع الترشح للانتخابات لموافقة لجنة يعيّنها الحزب الحاكم. ومع الاقرار بحق الشعب وممثليه المنتخبين ومؤسساته الحرة في وضع الصياغة النهائىة للنموذج الديموقراطي للبلاد، فإنه من الضروري التشديد على الاسس والمبادئ الجوهرية لهذا النموذج المنشود، في ضوء فهم سليم لحاجات الشعب والبلاد من ناحية، استناداً للخبرات الديموقراطية المتراكمة والمتجسدة في الوثائق الدولية لا سيما "ميثاق الأممالمتحدة"، و"الاعلان العالمية لحقوق الانسان"، وما اعقبه من مواثيق فرعية مهمة اخرى، في شأن الكثير من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، مثل حقوق المرأة وحقوق الطفل وحق العمل وحق تقرير المصير والتسامح الديني ومكافحة العنصرية وحماية البيئة... الخ من ناحية اخرى. وفي مقدم هذه المبادئ والأسس ما يلي: أ- ضمان التعبير عن المصالح والرؤى الاجتماعية المتباينة. وتتجلى في اطلاق الحريات العامة على اختلافها، واحترام التعددية الفكرية والسياسية والتنظيمية بوجه خاص. وهذا من شأنه ان يرسي قاعدة متوازنة ومستقرة لتلاقي الفئات الاجتماعية والسياسية، ويتيح تفاعلاً ايجابياً وبناء في ما بينها. ب- ضمان التداول السلمي للسلطة كما تقرره نتائج الانتخابات العامة الحرة. وهذا من شأنه ان يصون الأمن والاستقرار في المجتمع، وان يعوق احتمالات التصادم والاحتراب بين فئاته، ويحترم السيادة الشعبية كمرجع نهائي في تقرير شؤون البلاد ومستقبلها. ج- سيادة القانون كمرجع حاسم في جميع القضايا، وفي تنظيم العلاقات بين افراد المجتمع من ناحية، وعلاقة الفرد والمجتمع بمؤسسات الدولة، من ناحية ثانية. وترتكز سيادة القانون على كفالة احترام حقوق الانسان في جميع الميادين، كما تجسدت في الاعلان العالمي لحقوق الانسان والمواثيق الدولية الاخرى ذات الصلة. ومن شأن الأخذ بهذا المبدأ توفير المساواة في الحقوق والواجبات بين افراد المجتمع، وحمايته من ادران الصراعات الطائفية والشوفينية والعشائرية والقبلية، وبناء اساس وطيد لكيان مجتمعي حر وموحد ومتفاعل ايجابياً. ولا شك في ان تفعيل هذه الاسس والمبادئ ووضعها موضع التطبيق رهن بإقامة مؤسسات وآليات مناسبة، وتمكينها من تجسيد المضامين والقيم التي احتوتها تلك الأسس والمبادئ النيرة. وهذه مهمة كبيرة تتوقف على حكمة وقرار ممثلي الشعب الاحرار المنوط بهم، عبر الانتخابات الحرة والعامة، النهوض بهذه الرسالة الخطيرة. ويندرج في سلسلة بناء المؤسسات والآليات انتخاب جمعية تأسيسية لصوغ دستور دائم وقوانين اساسية لاجراء انتخابات نيابية حرة، وانبثاق حكومة شرعية وغير ذلك من المهمات المباشرة والعاجل. وفي هذا السياق، تبرز الاهمية القصوى لبناء مجتمع مدني مستقل وفاعل، وتشجيع مؤسساته الاهلية المختلفة باعتباره مظهراً مهماً من مظاهر الوعي الديموقراطي في المجتمع، وأداة ناجحة للتعبير عن إرادة الرأي العام ورغباته وحماية المؤسسات والسيادة الشعبية. 2- ترسيخ المواطنة العراقية تعرضت المواطنة العراقية الى نكسة عميقة خلال الحقبة الاخيرة. وانعكست في تصدع النسيج الاجتماعي والرابطة الوطنية بين المواطنين. وهي ظاهرة مقلقة لم يشهد العراق الحديث لها مثيلاً على هذه الدرجة من التداعي والاتساع. واتخذت هذه الظاهرة اشكالاً عدة، منها انعاش النزعات القبلية والعشائرية وإثارة غرائز وقيم اجتماعية متخلفة، وتشجيع الميول الطائفية والأثنية الضيقة، والمناطقية نسبة الى المناطق. واقترن بذلك كله خلق تربة ملائمة لنمو ألوان مختلفة من الممارسات والمواقف الانعزالية. والواقع ان هناك اسباباً كثيرة وراء بروز هذه الظاهرة المقلقة من اهمها: أ- النهج السياسي والأيديولوجي للحكم القائم على القمع، والملاحقة وانتهاك حقوق الانسان، والتمييز بين المواطنين، وإثارة النعرات الدينية والطائفية، والتهجير الجماعي واستذكار حالات الاحتراب الماضية مع الشعوب الصديقة والمجاورة وتأجيجها بطريقة مشوهة ومضللة واضطهاد الشعب الكردي، وشن الحروب والعمليات العسكرية ضده، فضلاً عن انعاش الروابط العشائرية والقبلية بهدف حماية الحكم واضعاف اللحمة الوطنية للمجتمع العراقي. ب- تنامي المؤثرات الخارجية داخل العراق، سواء كان ذلك من بعض الدول الاقليمية او الاجنبية، وتشجيع التمايزات والاحتكاكات، وحتى الانقسامات بين المواطنين والفئات المختلفة على اسس ضارة. الامر الذي الحق اذى بالرابطة الوطنية المشتركة، والى تغليب النزعات والمصالح الذاتية الضيقة على المصالح المجتمعية المشتركة، وهو ينذر بأخطار على مستقبل العراق ووحدته. فإن مكافحة هذه الظاهرة وترسيخ المواطنية العراقية القائمة على الانتماء للوطن والتمسك بالرابطة الوطنية والمصالح العامة للبلاد، تقف بين المهمات الرئىسية للتغيير الديموقراطي الحقيقي في البلاد. وتتصل هذه المهمة اتصالاً مباشراً بتبني الخيار الديموقراطي الصادق وإشاعة قيمه في المجتمع، ومنها الحرص على سيادة القانون وإقامة المساواة بين المواطنين، واحترام الحقوق الدينية والوطنية والقومية وإعلاء شأن المصلحة العامة. وفي هذا السياق تبرز قضيتان رئيسيتان هما: 1- معالجة المسألة الكردية، باحترام الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي وخصوصاً في تقرير المصير ووقف جميع مظاهر الاضطهاد والتمييز التي يتعرض لها، وتحديد الصيغة المناسبة لادارة شؤونه، بما يعزز الرابطة العراقية القائمة على الشراكة الحقة والممارسة الديموقراطية الشاملة في البلاد. 2- تصفية أسباب التمييز الطائفي ومظاهره، ومكافحة النزعات الدينية الضيقة، وإشاعة روح التسامح والإخاء والتفاعل بين معتنقي جميع الاديان والطوائف، توخياً لتوطيد النسيج الاجتماعي وتعزيز الوحدة الوطنية بصفتها شرطاً اساسياً لتأمين الاستقرار العام في البلاد وتهيئة المناخ الملائم لاستئناف مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق الرفاهية العامة للمواطنين. والخلاصة فإن الرؤية الاستراتيجية لانقاذ العراق واجراء تغيير ديموقراطي شامل في البلاد تكمن في حل مشكلة الحكم. فهذه المشكلة تمثل محور وأساس المحنة العميقة التي يعانيها الشعب العراقي بجميع فئاته وطوائفه. ولعل بلوغ هذا الهدف الكبير، يضمن إعادة ارساء القيم والمثل الوطنية الديموقراطية للسلوك الاجتماعي العام تمهيداً لبناء مقومات الحياة الطبيعية ومستلزماتها، ويوفر مناخاً ملائماً لتطبيع العلاقات الاقليمية والدولية للبلاد ووضع حد للأطماع الاجنبية. ولا شك في ان اعتماد هذه الرؤية الاستراتيجية يتطلب ترجمتها الى اجراءات وتدابير عملية ومجسدة في قوانين وضوابط ملزمة وهادية لادارة المجتمع والدولة. كما ان بلوغ هذه المهمات يستدعي مستوى عالياً من العمل والمسؤولية والواقعية من جانب الاوساط والفئات السياسية العراقية والحرص على ابراز صوت الشعب العراقي والتعبير عن ارادته الحرة والمستقلة في المحافل العربية والدولية وضمان مشاركة ممثلي الرأي العام العراقي في اية مساع ومحاولات تتعلق بمستقبل العراق ومصالح شعبه. كما انه يتطلب من جهة اخرى تضامناً جاداً من البلدان العربية الشقيقة والاوساط الدولية الحريصة على أمن العراق ووحدته ودوره الايجابي المنشود في بناء الأمن والسلم في المنطقة بصورة شاملة وعادلة. * محلل سياسي واقتصادي عراقي.