لم تحظ انتخابات المجلس الوطني العراقي التي جرت أخيراً بمثل الاهتمام العالمي الإعلامي والسياسي الذي حظيت به انتخابات تزامنت معها في بلدان أخرى، خصوصاً الانتخابات البرلمانية في إيران والرئاسية في السنغال. ما أثار الجدل من جديد عما إذا كان في إمكان العراق أن يلحق بمسيرة الديموقراطية المتصاعدة التي أخذت أخيراً تضم إليها أعداداً متزايدة من الدول والمجتمعات التي تخلفت عن ركابها لعقود طويلة. والواقع أن التجاهل الذي قوبلت به الانتخابات العراقية من أجهزة الإعلام، بسبب النتائج المتوقعة لها سلفاً، لم تمنع طرح الأسئلة الملحة عما إذا كانت القيادة العراقية ضيعت فرصة أخرى للخروج من المأزق السياسي الراهن وتأمين المدخل المناسب لحل الأزمة الوطنية الشاملة التي يواجهها العراق والتحديات التي عليه أن يواجهها مستقبلاً. الانتخابات في حد ذاتها ليست القضية الرئيسية، والبرلمان في أي مكان ليس كل الديموقراطية، ولكن المؤكد أن حدثاً كهذا كان في إمكان أهل الحكم في العراق أن يحولوه في الظروف الحالكة التي يمرّ بها البلد إلى مناسبة يعبرون فيها عن استعدادهم لبدء صفحة جديدة من العمل الوطني تتيح في النهاية الخروج من المأزق السياسي والاقتصادي والاجتماعي وإعادة بناء العراق وتشكيل مستقبله على أسس جديدة تتسق مع التطلعات الحقيقية لشعبه في الانتماء والتكافؤ والمشاركة، وتعيد وضع العراق في مكانه الجدير به في المحفل الدولي وعلى خارطة الحضارة العالمية. لكن ما حدث فعلياً هو غير ذلك تماماً، بل جرى التعبير مرة أخرى عن تمسك مطلق بخيارات وأهداف خسرت رهاناتها منذ زمن طويل وأضحت عاجزة عن أن تواكب مع سمات عالم مختلف تماماً اصبح التغير والتطور يرسمان ملامح لحظته الراهنة والآتية. خلال فترة الانتخابات ظل المسؤولون العراقيون يجيبون عن سؤال: لماذا لا تسمحون بالديموقراطية - وهو بالمناسبة سؤال لم يتجرأ إلا مراسلو الإعلام الأجنبي على توجيهه - بسؤال مضاد وهو كيف تتوقعون منا أن نقيم الديموقراطية فيما الحصار الذي تفرضه الأممالمتحدة قائم ومستمر؟ هذا الجواب ذكرنا بما كنا نسمعه قبل عقد من الزمن حين كان يواجه السائل بسؤال مضاد، وهو كيف تتوقع منا ذلك ونحن نواجه حرباً مقبلة من أميركا؟ أما في العقد الذي سبقه فقد كان السبب هو الحرب مع إيران بينما ظل "الخطر الإسرائيلي الجاثم" و"المؤامرات الإمبريالية" المبرر الدائم لغياب الممارسة الديموقراطية واستحالة قيامها. وكان عدد من المسؤولين العراقيين أكثر جرأة في تسخيف المتسائلين عن الديموقراطية حين أجابوا: ولماذا نحن المطالبون دوماً بذلك في الوقت الذي يوجد بين جيراننا من لا يعترف حتى بمبدأ وجود البرلمان أو انتخابه؟ هذه الحجج بالية وأصبح مجرد إعادة طرحها يمثل استخفافاً بالعقول وبالرزانة الأخلاقية، التي يمثلها مطلب تحقيق الحرية والعدالة والمساواة كما هو استهانة بتضحيات العراقيين وآلامهم، سواء تلك التي يصنعها الحصار اللئيم المستمر، أو تلك التي سببتها الحروب والكوارث وسنوات الحرمان والقهر التي عانوا منها. إن من يستطيع أن ينظم انتخابات ويهيئ لها مستلزماتها اللوجستية، بإمكانه أيضاً، لو توفرت لديه الإرادة السياسية، أن يجعلها ديموقراطية وتمثيلية حقيقية. بل ان مستوى عالياً من الأداء الوطني لدحر الحصار وإلحاق الهزيمة به لا يمكن أن يتحقق برصيد الوعي الوطني والتزامه الأخلاقي فحسب، بل الأهم من خلال مشاركة شعبية ووفاق حقيقي يستند إلى تطلعات العراقيين وطموحاتهم بالمستقبل الأفضل. ثم ماذا سيكون العذر لو رفع الحصار وطرح السؤال مرة أخرى؟ أليس المتوقع أن تكون الإجابة هذه المرة كيف سنسمح بالديموقراطية ونحن مشغولون بإعادة الإعمار؟ وعموماً فإن شماعة الحصار ستثبت عاجلاً أم آجلاً أنها أخفّ عوداً من أن تتحمل عذر غياب الحل الوطني القائم على إعادة البناء والإصلاح، وهما مهمتان لا يمكن القيام بهما من دون نبذ لسياسات الماضي القائمة على الاحتكار، ومن دون السير في الطريق الديموقراطي واللجوء الى المؤسسات التمثيلية الحقيقية. إن ما ينبغي الإقرار به هو أن هناك تحديات ومصاعب جمّة تكتنف كل المنعطفات التي ستواجهها مسيرة العمل الوطني في العراق في المديات المتوسطة والبعيدة، والتي تتطلب مواجهتها شجاعة ومسؤولية إدراك الحاجة إلى أنماط جديدة من الحلول تنسجم مع الواقع الجديد الذي فرضته الأزمة الوطنية وتشعباتها من جهة، والمستجدات التي رافقت إعادة تشكيل العالم وفق منظوماته المعرفية والثقافية والسياسية والاقتصادية الجديدة من جهة أخرى. إن الحقيقة التي لا مناص من إدراكها هي أن رفع الحصار والعزلة المفروضة على العراق وإعادة إدماجه بالمنظومات الاقليمية والدولية، حين يحدث، سترافقه جملة تطورات لا يمكن إلا أن تجعل من العراق طبعة مختلفة عما كان عليه قبل العام 1990. هذه التطورات ترتبط بأسباب بعضها موضوعي يتعلق باستنفاذ النظام السياسي العراقي، بشكله الحالي، لمرحلته التاريخية بخطابها ومشاريعها التي ستكون منتمية إلى الماضي، بينما يرتبط البعض الآخر بالشروط والظروف التي يتوقع أن ترافق رفع الحصار والإدماج، والتي لابد أن تقيد الكثير من خصوصية النظام وطبيعته وتفرض عليه عوامل ومستجدات ستنعكس بالتأكيد ليس على التزاماته السياسية والأدوار التي تقوم بها مؤسسات الدولة والمجتمع فقط بل وعلى مستقبله أساساً. أما من حيث طبيعة العالم الذي سيواجه النظام السياسي العراقي وهو يعود للدخول إليه، فإنه سيكون مختلفاً تماماً عن ذلك الذي اعتاد على التعامل معه قبل العام 1990، ما يعني صعوبة التكيف معه بالأدوات والأفكار القديمة نفسها. عالم اليوم اختلف فيه اللاعبون ولم تعد هناك حرب باردة وصراع بين معسكرين يمكن اللعب على تناقضاتهما. في عالم اليوم هناك قواعد جديدة وفاعلون جدد ومستقبليون تقوم العلاقة بينهم على أساس الشراكة والمسؤولية الجماعية التي تحتقر النظرة المركزية والدولة القومية وترتكز ممارساتها إلى معرفة وثقافة تقوم على أساس اختفاء الحدود. في عالم اليوم هناك الثورة التكنولوجية من خلال الوسائل التي توفرها أجهزة الاتصال والأقمار الاصطناعية والانترنت التي لم يعد من الممكن لأي بلد أن يعيش من دونها من غير أن ينحدر إلى حضيض المدنية وهاوية التخلف. في عالم اليوم هناك مفاهيم حقوق الإنسان ومنظمات الدفاع عنها وهناك حق التدخل الإنساني والمصالح البشرية المشتركة والتكافل الدولي ورقابة الأممالمتحدة وجماعات الضغط التي يشكلها المهاجرون. وهي كلها وسائل تجبر أنظمة الحكم التقليدية الفردية والشمولية والتسلطية على الانزواء لمصلحة أنظمة أكثر تلائماً مع روح العصر وغاياته والتي تنبذ الاستبداد والاحتكار وترتكز إلى قيم الحرية والعدالة والمساواة. وسواء كانت فرصة ضاعت أم لا للبدء في التغير في العراق فإن من المؤكد أن الجدل بشأن من يأتي أولا، رفع الحصار أم الإصلاح سيستمر في ظل استمرار الحالة العراقية المتمثلة، من جهة، بتواصل عقوبات الأممالمتحدة وإصرار مجلس الأمن على نزع أسلحة العراق ومناطق الحظر الجوي والمواجهة مع الولاياتالمتحدة، ومن الجهة الأخرى، بانسداد آفاق حل المعضلة السياسية حلاً وطنياً شاملاً وعلى أساس مشروعي نهضوي وديموقراطي تعددي. لكن هذا الجدل ثبت أنه عقيم ومُضر بالقضية الوطنية، سواء جاء من النظام نفسه أو من خصومه الذين لا يزالون ينتظرون منذ عشر سنين أن تسقطه العقوبات أو المؤامرات التي تحاك في ظلها. ولا شك أن الحصار جريمة نتج عنه حتى الآن تدمير وطن وقتل عشرات الآلاف من مواطنيه وتعطيل الحياة فيه. لكن التذرع به والمراهنة عليه ستنطوي على ارتكاب جريمة أكبر لأنها ببساطة ترتكب بواسطة أبنائه وليس بواسطة مجلس الأمن أو الولاياتالمتحدة الأميركية. إن من السذاجة توقع انتهاء كل مشاكل العراق برفع الحصار المفروض علىه الآن وإمكان عودة النظام إلى نموذج الممارسة السياسية والفكرية القائمة على المصادرة واحتكار الحقيقة وهندسة الدولة والمجتمع وفق رؤى واجتهادات انفرادية. فعراق ما بعد الحصار مقبل على مواجهة تحديات شديدة البأس لا يمكن التغلب عليها من دون مشروع وطني نهضوي شامل قائم على مشاركة كل أبنائه وحقهم في صوغ فلسفته واتجاهاته بالشكل الذي يعبر عن تشكيلته السياسية والثقافية والقومية والاجتماعية المتنوعة. فهناك الآن ندوب في الجسد الوطني تحتاج إلى تضميد قبل أن تستفحل، ولعل أكبرها هو الوضع الكردي الذي تحتاج إعادة إدماجه في الوطن جهوداً جبارة واشتقاق حلول مبتكرة. هناك ضرورة إلى إعادة البناء الاجتماعي بعدما حطمت سنوات القهر والحصار منظومات القيم وأساليب الحياة وأنماطها الاخلاقية وأحلّت محلها ميولاً واتجاهات مدمرة صنعت واقعاً اجتماعياً استلابياً يميل للقدرية ويعوق فكرة التقدم والتنمية السياسية والاجتماعية والاتجاهات الديموقراطية. وهناك أيضاً مهمة إعادة البناء الاقتصادي لبلد خربت بنيته التحتية وتم تعويق مسيرة نموه وألحق بفرص مواكبته لحركة الازدهار العالمي ضربة كبيرة، يحتاج إنجازها لجهد جبار ولا يمكن أن تتم من دون مشاركة خلاقة من كل ابنائه ومن ضمنهم، بل ربما في مقدمهم، الخبرات الهائلة للأجيال الشابة من العراقيين في المهجر. وهناك كذلك مهمات وطنية كبرى تتطلب دحر الخيارات والسيناريوات الشريرة التي تستهدف وحدة الدولة العراقية وسيادتها أو إضعاف اللحمة الوطنية أو تنصيب نظام بديل من الدمى والعمل على استعادة العراق مكانته اللائقة في المعتركات العربية والاقليمية والدولية. إن إسقاط الحصار مهمة وطنية ملحة من دون شك، لكن القضية الوطنية أصبحت أوسع من موضوع الحصار ما يتطلب معالجتها بأساليب مبتكرة خلاقة وليس الارتكاز على اطروحات الماضي وحججه وأوهامه. فالحصار سينتهي يوماً ما مهما طال ومهما خلف وراءه من خراب ومن جروح. والناس على أرض العراق سيبدأون حينها بإعادة طرح الأسئلة المؤجلة عن مستقبل الوطن حالما يزول الحصار، ذلك لأنهم بشر يتوقون مثل غيرهم لممارسة حياتهم بحرية ووعي من دون فرض أو مصادرة، وحينها سيجد أهل الحكم أنفسهم، إما أمام مواجهة الحقيقة أو اللجوء ثانية لاختراع أسباب أخرى لتأجيل الحل المطلوب. * كاتب عراقي