تشكل معارض الكتب التي اصبحت تقليداً سنوياً تشهده مختلف العواصم العربية كالقاهرة وبيروت والرياض وأبو ظبي ودمشق وعمان... وغيرها من المدن محطة مناسبة لجلب الاهتمام الى هموم الكتاب وقضاياه والتباحث في شأن المصاعب والعقبات التي تحول دون وصوله الى اوسع شريحة من القراء والتحاور حول ايجاد السبل الناجعة لتذليلها. ويمكن النظر الى معرض الكتاب الثامن عشر الذي شهدته دمشق اخيراً من هذه الزاوية لا سيما ان هذا المعرض بات يحتل مكانة بارزة بين مثيلاته العربية إن لجهة التنظيم او لجهة المشاركة اذ بلغ عدد دور النشر التي شاركت في الدورة الاخيرة التي انتهت قبل فترة اكثر من 300 دار جاءت من اكثر من عشرين دولة عربية وأجنبية وعرضت ما يقارب من 39 ألف عنوان في شتى حقول المعرفة الجادة منها والسطحية. وعلى رغم الاهتمام والجهد المبذولين من مكتبة الاسد - الجهة المنظمة للمعرض - عبر توفير وسائل الدلالة بدءاً من مدخل المعرض الذي وجد فيه الزائر ملصقات تضم اسماء دور النشر المشاركة وأماكن تموضع الصالات مع مخطط هندسي يبين شكل المكان وطريقة توزيع الاجنحة. وكان لافتاً وجود دليل الكتروني، فضلاً عن الدليل الورقي، اتاح للقارئ معرفة العناوين المعروضة جميعها من خلال زيارة موقع المعرض على شبكة الانترنت، وخصصت قاعدة خاصة للناشرين على ارض المعرض وكذلك قاعة خاصة للاعلاميين وثالثة للأطفال وللكتب التي تهتم بثقافة الطفل، نقول على رغم هذا الاهتمام فإن المعرض لم يستطع اخفاء الهموم الحقيقية للكتاب والتي تكمن اساساً في ضعف القوة الشرائىة لدى شرائح واسعة من المجتمع السوري مثلما هي الحال في معظم الدول العربية. وسط معادلة صحيحة ومجحفة بحق الكتاب تقول: "من يقرأ لا يملك، ومن يملك لا يقرأ". كما ان بريق الاغلفة لم يحل دون توجيه الانتقادات الى ادارة المعرض من بعض الناشرين اذ رأى هؤلاء أن الادارة اخطأت في تعاملها مع دور النشر حين وضعتها كلها في سلة واحدة من دون تمييز، لا بل عمدت الادارة - كما اشار الناشرون - الى الاهتمام بدور نشر محلية مغمورة وغير معروفة على حساب دور نشرعريقة ومهمة كالآداب والفارابي ورياض الريس والساقي والمؤسسة العربية للدراسات والنشر والعودة والمدى وغيرها، والاهتمام هنا يتمثل في اعطاء الدار مكاناً "استراتيجياً" بالمعنى المتعارف عليه في معارض الكتب، والتغاضي عن عدم تقيد اصحاب هذه الدور بشروط المعرض وقواعده، وثمة انتقادات اخرى اشارت الى ان معرض الكتاب الذي يقام في دمشق منذ عام 1985 تحول الى نشاط دعائي سياحي اكثر منه نشاط فكري ثقافي، ويدعم مثل هذا الرأي تراجع مستوى الانشطة الثقافية المرافقة عادة لأيام المعرض والتي بدت في الدورة الاخيرة باهتة وضعيفة قياساً الى الدورات السابقة. ويرى علي العايدي مدير معرض الكتاب في دمشق: "ان ثمة ثلاثة عناصر اساسية لانجاح اي معرض وهي: الجهة المنظمة، والناشر، والجمهور" مؤكداً أن الحلقة الاساسية هي الناشر "الذي ينبغي ان يقوم بدوره حيث يقدم كتاباً جديداً في مضمونه يلبي حاجات القارئ العصري كمضمون، ويهتم بالنواحي الاخراجية كشكل". لكن الناشر من جهته لديه الحجج للرد على ما يقوله العايدي فهو يشكو من الرقابة التي تعتبر سيفاً مصلتاً على رقاب الفكر والنشر على حد قول وليد ناصيف عضو مجلس اتحاد الناشرين العرب الذي اضاف ان "اجور النقل الباهظة والرسوم الجمركية المفروضة على الكتاب وارتفاع اسعار الخامات الاولية التي تدخل في صناعته تدفع بالناشر الى وضع تسعيرة عالية لكتابه الامر الذي يقلل كثيراً من نسب المبيعات"، مستغرباً طريقة تعامل الجهات الرسمية مع الكتاب على انه سلعة مثلها مثل اي سلعة اخرى تتداول. والواقع ان الكثر من الناشرين يتفق مع ما سبق ويعبرون عن استيائهم من الرقابة الصارمة القائمة في البلاد العربية، فهي رقابة تخفف من حماسة الناشر من جهة، وتحرم القارئ من كتب مهمة من جهة ثانية. ففي معرض الكتاب الاخير في دمشق، على سبيل المثال، لم تمنح لجنة المراقبة التقويمية موافقتها لجميع الكتب التي ارسلت لأجل العرض، اذ منعت حوالى عشرة آلاف عنوان باعتراف العايدي بحجة انها "رديئة المستوى ولا تتناسب مع طبيعة المجتمع السوري وقيمه وثقافته". وهذا يذكر بأزمة مشابهة على علاقة بالجمارك اثيرت خلال "معرض القاهرة الدولي للكتاب الأخير". فالرقابة تفاقم من ازمة الكتاب وتظهره على انه ضيف غير مرغوب فيه وهو ما لا يروق للناشر بصفته "الممثل الشرعي" لهذا الضيف، لذلك يرى نبيل نوفل مدير التسويق في دار الآداب البيروتية ضرورة "التخفيف من حدة الرقابة والعمل على الاهتمام بالكتاب ودعمه رسمياً وشعبياً، فليس من المعقول ألا تتجاوز اصدارات الدول العربية بمجموعها ستة آلاف عنوان خلال سنة في حين ان هذا الرقم يقفز الى 30 ألف عنوان في أي بلد اوروبي". ومسألة تكنولوجيا الاتصالات وثقافة الصورة التي تتجلى في الفضائيات والانترنت والتعاطي مع كل جديد من خلال الكومبيوتر، فهذه الوسائل أسهمت في رأي بعض الناشرين في العزوف عن القراءة ما اثر سلباً على نسب المبيعات. لكن آخرين لا يتفقون مع مثل هذا الرأي قائلين إن لكل وسيلة خصوصيتها الكفيلة بحمايتها واستمرار وجودها، فزيارة موقع على شبكة الانترنت مثلاً تتطلب وجود جهاز كومبيوتر ووجود التيار الكهربائي ووجود خط الهاتف في حين ان الكتاب لا يتطلب مثل هذه التعقيدات اذ يمكن قراءته في الحافلة او في المقهى او الحديقة وغيرها من الاماكن، فضلاً عن ان المعرفة الحقة والمعمقة لا يمكن اكتسابها الا عبر الكتاب الذي يعد في التراث العربي خير جليس في الزمان على ما يقول المتنبي الذي لم يدر في خلده - على رغم ما عرف عنه من قدرة على التنبؤ - بأن هذا الجليس الخير سيستقر في عتمة الرفوف يعلوه الغبار فلا يحظى بمعانقة العيون إلا قليلاً. إن إخراج الكتاب من تلك العتمة هي مهمة الجميع قراء وناشرين وجهات رسمية، فالاحتفاء بالكتاب لا ينبغي ان يقتصر على ايام المعارض والمناسبات بل يجب ان يتكرس هذا الاحتفاء بصورة دائمة ومدروسة من خلال تقديم الدعم للناشرين يبدأ مثلاً بإلغاء الرسوم الجمركية المفروضة على حركة الكتاب وخفض اجور نقله وتوسيع منافذ البيع وغيرها من الاجراءات التي تتيح للكتاب حرية التنقل، فمهما قيل عن جشع الناشرين والقول إنهم ينظرون الى صناعة الكتاب على انها تجارة فإن هدفهم الاول والأخير هو زيادة مبيعات الكتب وهذا الهدف وان كان يحقق للناشر مكاسب مادية فإنه يخدم في الآن ذاته القارئ المتطلب ويعيد للكتاب الموقع الذي يستحق.