- 1 - تقدّم القمة الفرانكوفونيّة في بيروت صورةً جديدةً، على مستوى الخطاب، عن العلاقات فيما بين الدّول، تتجاوز الإطار السياسيّ الى العُمْق الثقافيّ - الإنساني. بل يبدو "السّياسيّ"، بلغتهِ وأُطْروحاتهِ، كأنّه أداةٌ لِتَعْزيز الثقافيّ. فلقد أَفْصحت هذه القِمّة عن انْشغالِها بِهُموٍمٍ حضاريّة كحوار الثقافات، والتنوّع الثقافيّ، والتعدديّة اللغويّة، والديموقراطية، والسّلام، وحقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب والعُنْف والاستعباد والتطرّف والتعصّب. وتلك ظاهرةٌ تكاد أن تكون فريدةً في قمم الأنظمة السّياسيّة. - 2 - لعلّ هذه الهموم أن تترسّخَ حَقّاً في الدول الفرانكوفونيّة، وبخاصّةٍ تلك التي تنتمي الى "العالم الثالث". فهذه الدُّولُ تجعل من الثّقافة، على العكس، أداةً للسّياسة - سياسة النّظام، وتابعةً لها. وفي هذا تخسر الثّقافةَ، وتظلّ سياستُها ارتجالاً واعتباطاً. وأميل الى القَوْلِ، اسْتطراداً، إِنّ الخَللَ الأساسَ في هذه الدُّول، إنما هو خَلَلٌ ثقافيّ. فغياب الثقافة، بوصفها إبداعاً حرّاً ومتواصِلاً، يقلّص الزّمنَ كله في الماضي، ويقلّص حيويّة الشّعب في محاكاته، ومحولة اسْتعادتهِ. وتجعل من الحياة كلّها سَيْراً يقتفي ذلك الأثرَ الذي هو الماضي - محوّلةً الوجودَ كلّه إلى نَوْعٍ من الصَّحراء، والحياةَ كلّها إلى نَوْعٍ من الدّوران في دائرةٍ فارغة. وتبدو الأيّامُ كأنّها صلواتٌ وتَراتيلُ في هَيْكلٍ ضَخْمٍ اسمه "الماضي الذَّهبي". - 3 - لِلمرّة الأولى يُشارُ في "إعلان بيروت" الى "تضامُنٍ" مع اللّغة العربيّة والثقافة العربية، على مستوى "الكون" الفرانكوفونيّ. ولهذه المناسبة، كان من الأفضل، كما يُخيل إليَّ، أَلا يُشارَ هذا الإعلان الى ضرورة "تأمين هكذا في الترجمة العربية، ولعلّها: تعزيز وضع الفرنسية والتّرويج! لها، كلفة اتّصالٍ على المستوى الدّولي". فهذه اشارةٌ غير مجدية، كيفما نُظِرَ إليها. على العكس، قد يكون فيها بعض الإساءة. - 4 - يثير "إعلان بيروت" سُؤالاً مُلحّاً: ما الخِطَطُ التي تهيّئها المنظمّة الفرانكوفونية لكي تكونَ "الدّيموقراطيّةُ، والفرانكوفونيّة، والتطوّر" وحدةً لا تتجزّأ، كما جاءَ في هذا الإعلان؟ وكيف يتمّ ذلك عمليّاً، ومعظم البلدان الأعضاء في المنظمّة تفتقر كثيراً كثيراً الى الدّيموقراطيّة، وإلى التطوّر؟ - 5 - هل ستكون الفرانكوفونيّة "رسالة ثقافيّةً" في المقام الأوّل؟ هل ستبدأ تاريخاً من "جمال الأوكسيجين"، وِفْقاً لتعبير شاعر الزّنوجة، إيميه سيزير؟ غير أنّ هذا التّاريخ يقتضي من كلّ دولةٍ عُضْوٍ في هذه المنّظمة، أن تُحدث "ثورتَها" الداخليّة الخاصّة، فتتخلّص من الفساد والتعفّن اللذين لا يليقان بالإنسان، وتتيح للثقافة أن تلعبَ دورَها التكوينيّ الحُرّ: لا يعود الأدب يزحف وراءَ خطواتِ الواقع، لا يعود الفكر يتسكَّع في جنائن السّياسة والمال. - 6 - لن يكون للفرانكوفونيّة أيّ أُفُقٍ إنسانيّ أو ثقافي، إذا كانت مجرّدَ اتّحادٍ بين رجال السّياسة ورجال الأعمال. يجب أن يكونَ لها "تراثٌ" و"تَاريخ". وهذا ما تعجز عن بنائهِ يَدُ السّياسة والمال. لا تراثٌ ولا تاريخٌ خارج الفنّ والأدب، خارجَ الثَّقافة. ولا أهميّة لوحدةٍ فرانكوفونيّة، إِلاّ بثقاة خَلاقةٍ وعاليةٍ تحتضنُها. - 7 - فرانكوفونيّة ثقافيّة، تُستعاد فيها أوروبا اليونانية - العربيّة، أو أوروبا المتوسّطية، في عالمٍ أندلسيّ جديد. مُلقّحاً بالزّنوجة، مفتوحاً على الشمال. - 8 - لا تعرف العروبةُ الفرانكوفونيّة ذاتها حَقّاً إلاّ في تَواجُهٍ مَعْرفيّ وإنسانيّ مع الآخر الأوروبيّ - الأفريقيّ. إنّ ذاتية العُروبةِ الثقافية مرتبطةٌ عضويّاً بالآخريّة الأوروبيّة - الأفريقية. - 9 - هكذا أشعر أنّ الفرانكوفونيّة يجب ان تكون سؤالاً، على المستوى الكونيّ، مطروحاً على الولاياتالمتحدة. وهو سؤالٌ أصوغه كما يلي: بأيّ حقٍّ تريد أن تستأثرَ بِ"التفوّق" الذي تؤكّده في قولها القاطع: "لن تسمح الولاياتالمتحدة مطلقاً لأيّ طرفٍ دَوْليٍ آخر بأن يتحدَى تفوّقَها العسكريّ"، وثيقة استراتيجية الأمن القوميّ للولايات المتحدة، وهو ما تردّده السّياسة الإسرائيليّة، بالنسبة الى "الأطرافِ" في الشرق الأوسط، وبخاصّةٍ العربيّ؟ نعم، بأيّ حقٍّ، واستناداً إلى أيّة شَرْعيّة؟ بأي حقٍّ تُختزل قضايا العالم كلّها في مجرّد الحفاظ على "أَمْنِها"، وعلى "تفوّقها"؟ إنّها نظرة لا تُقيم أيَّ وزن للإنسان، ومشكلاتهِ، وحقوقه. إنها إرادة احتواءٍ للعالم، وإرادة سيطرةٍ كاملة عليه - لا "تستعمر" عقله وحده، وإنما تستعمر كذلك، جسدَهُ وحركته. وفي المناخ الذي تولّده هذه "الإرادة" يبقى الفقراء الجائعون المحرومون المنبوذون المضطهدون المنفيّون، حيث هم، في سجونهم وقيودهم وضياعهم. وماذا يخسرون، إذاً، عندما يرفضون الانصياعَ لهذه الإرادة، ويتمردّون عليها، كلٌّ بطريقته الخاصّة؟ لن يخسروا إلاّ ما يقيّدهم، وما يبقيهم في أوضاعٍ دون المستوى اللاّئق بالبشر. بل إنهم سيشعرون بسعادةٍ كبرى في تمرّدهم باسم الشرعيّة الإنسانية على هذه الشرعيّة الأميركيّة. كلاّ، ليس العالم في حاجةٍ الى "روما" جديدة. إنه، على العكس، في حاجةٍ الى "أثينا" جديدة، إلى "أندلسٍ" جديدة. وذلك هو ما ينبغي أن يهجسَ به العالم الفرانكوفونيّ، وأن يعملَ له. وتلك هي "رسالة" الفرانكوفونية - رسالة الحريّة والإبداع والمساواة، في إخاءٍ كونيّ. - 10 - هكذا تمكن الموافقةَ على وَصْف الرئيس اللبناني "قمة الفرانكوفونية" بأنّها "تاريخيّة" بشرطٍ أساس: أن تكونَ فاتحة إعلانٍ لاِسْتئناف ثورة "الحريّة والأخوّة والمساوة، وطنيّاً وكونيّاً، فيما يتخطّى السّياسة الى الكينونة الإنسانيّة والحضاريّة، وفي مواجهةٍ عاليةٍ وجذريّةٍ لما تؤسّس له الهيمنة "الامبراطوريّة" الأميركيّة - عسكريّاً، واقتصاديّاً، وتقنيّاً. خصوصاً أن القضايا التي أعلنت هذه القمة أنّها تَشغلُها، حياةً ومصيراً، - قضايا حوار الثقافات، والحريّات وحقوق الإنسان، والديموقراطية، والتنوّع الثقافي... إلخ انما هي مهمّاتٌ ضخمةٌ يقتضي العمل من أجلها انقلاباً في النّظر، داخل الانتماء الفرانكوفونيّ، وانقلاباً في البنية التّنظيميّة، وانقلاباً في العمل والممارسة. دون ذلك، لن تكون هذه القِمّة أكثرَ مِنْ عارضٍ "تاريخيّ"، أو أكثر من تكرارٍ آخر لِلَهْوٍ سياسيٍّ آخر.