سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"الحياة" ترصد المصالحة القلقة في شمال العراق ... و"الدولة" التي شيدوا بنيتها في العقد الاخير . دور الاكراد يتعاظم في زمن الحرب وتسويات الدول الكبرى تتم على حسابهم
تاريخ الاكراد الطويل والمليء بالخداع والدماء علمهم دروساً عدة يدور في ذهنهم بعضها هذه الايام: الهدوء في كردستان هو دائماً هدوء ما قبل العاصفة وان دور الاكراد يبرز زمن الحرب لكن تسويات زمن السلم تتم على حسابهم، و"من المستحيل الانتصار على الكرد اذا توحدت كلمتهم" حسب قول المارشال الالماني هلموت فون مولفكه الذي عمل مستشاراً لدى الباب العالي في اسطنبول. القناعة الاساسية التي يخرج بها زائر شمال العراق واللقاءات بزعيمي "الحزب الديمقراطي الكردستاني" مسعود بارزاني و"الاتحاد الوطني الكردستاني" جلال طالباني ورئيسي حكومتي اربيل نجيرفان بارزاني والسليمانية برهم صالح واعضاء المكتب السياسي للحزبين وعدد من الاعلاميين ورجال الاعمال، هي ان الاكراد يشعرون ببالغ القلق حول ما يحمله لهم المستقبل ومن ان يخدعوا مرة اخرى من الدول الكبرى ويذهبوا فرق حساب في اطار صراع المصالح بين الاطراف المقررة في المسألة العراقية حاليا. ولا شك في ان هذا القلق كان احد الاسباب الاساسية التي دفعت بارزاني وطالباني الى تجاوز جراح الماضي والاقبال على المصالحة على رغم الحساسيات الكبيرة القائمة بين "البارزانيين" و"الجلاليين" من ابتعاد طالباني عن الملا مصطفى بارزاني الذي كان رجل المهمات الخاصة لديه قبل وفاته عام 1979. وتبلورت المصالحة لدى قيام طالباني بزيارة اربيل، عاصمة كردستان العراق الواقعة تحت سيطرة "الحزب الديمقراطي"، واتفاقهما على توقيع اتفاق لتنفيذ اتفاقية واشنطن التي وقعت اولياً في ايلول سبتمبر عام 1998، واتفقا على تجاوز جميع العقبات التي حالت دون السير بالعملية السلمية وخصوصاً عائدات نقطة ابراهيم الخليل الحدودية التي تقع تحت سيطرة بارزاني ووفرت مئات الملايين من الدولارات من تصدير النفط العراقي في اطار القرار 986، وتشكيل الحكومة الموحدة، والاتفاق على حصص "البرلمان الكردي الموحد". يذكر ان الحزبين نظما عام 1992 انتخابات برلمانية لتشكيل "برلمان موحد" ضمن 49 نائباً من "الاتحاد" و51 من "الديمقراطي" وخمسة من الاشوريين، لكن ذلك لم يصمد بسبب انطلاق الاقتتال الداخلي عام 1994 ما أدى الى قيام قوات "الاتحاد الوطني" باحتلال مدينة اربيل مطلع 1995 واعتصام النواب في البرلمان، الامر الذي واجهه "الديمقراطي" بطلب دعم من قوات نظام الرئيس صدام حسين. اقليمياً، كان هدف ايران من دعم "الاتحاد الوطني" المسيطر على الاراضي المحاذية لحدودها والعراق من دعم "الديمقراطي" اعادة التوازن الى كردستان العراق وان لا ينفرد اي من الحزبين بالسيطرة على مساحة تبلغ 45 الف كيلومتر مربع يعتقد المتطرفون من الاكراد ان مساحة كردستان العراق تبلغ 75 ألفاً وتشمل كركوك، او على الاقل ضم كركوك الى مناطق الحكم الذاتي وابعاد النظام عن السيطرة على نفطها، علماً ان 57 في المئة من الاكراد يعيشون في مناطق "الديمقراطي" والبقية في مناطق "الاتحاد". اما على الارض، فان ما حصل هو تقسيم فعلي لمناطق النفوذ: السليمانية وحلبجة ومنتجع دوكان ل"الاتحاد"، واربيل ودهوك وصلاح الدين ل"الديمقراطي"، اضافة الى تشريد آلاف العائلات بالاتجاهين وتبادل الاغتيالات ونشر نقاط امنية وعسكرية لمنع انتقال اهالي من منطقة الى منطقة أخرى. وحتى عندما تشكلت لجنة السلام بعد اتفاق واشنطن، كان على اي "سليماني" راغب في السفر الى اربيل الحصول على موافقة خطية من لجنة السلام. لذلك كانت هناك اهمية رمزية وعملية للمصالحة التي تبلورت في الايام الاخيرة. قام طالباني بزيارة مناطق "الحزب الديمقراطي" ثلاث مرات، فقام بارزاني بزيارة منتجع دوكان للمرة الاولى في الثالث من الشهر الجاري عشية انعقاد "البرلمان" لاعادة الثقة الى الزعيمين واعضاء المكتب السياسي في الحزبين ومؤيدي الطرفين. ولم لا طالما ان الاكراد يشعرون بأشد انواع القلق في هذه الايام. صحيح ان المصالحة تمت بطلب اميركي تجاوزت جدته الطلب الذي اطلق عملية واشنطن قبل اربع سنوات عبر قيام وزير الخارجية كولن باول بارسال رسالة خطية ل"البرلمان" واعتبارهم "شركاء العراق المستقبلي"، تحسباً للفترة المقبلة التي تخطط فيها واشنطن لتغيير نظام الرئيس صدام حسين. لكنها تعكس ايضاً وجود قلق كردي كبير من المستقبل الذي يعقب الضربة الاميركية للعراق، الامر الذي عبر عنه بصراحة طالباني وبارزاني في لقاءاتي الخاصة معهما خصوصاً اذا حصلت "اي فوضى في العراق" او ان "تحصل التسويات على حسابنا ومن وراء ظهرنا". وعندما ينظر الاكراد الى التاريخ، من حقهم النظر الى الاسابيع والاشهر المقبلة بقلق كبير. وهكذا يقول لهم التاريخ عندما يستعيدون صفحاته القديمة والحديثة: عندما تمكنت قبيلة آغوز بقيادة عثمان من بسط نفوذها على بقية العشائر التركية تأسست الامبراطورية العثمانية. وبعد زوال المغول في بلاد فارس تأسست الدولة الايرانية المعاصرة. وكان الصراع بين العثمانيين والفرس يجرى على حساب كردستان. وعلى رغم استخدام العثمانيين للاكراد في حربهم ضد الايرانيين، فانهم مرروا الحدود الفاصلة بينهما في قلب كردستان عام 1639، قبل ان يعود العثمانيون لاستخدام الاكراد في جرائمهم ضد الارمن. بعد ذلك بعقود، كانت تنمو شعبية اسرة كردية. وفي بلدة برزان الواقعة في المنطقة الجبلية الوعرة شمال شرقي اربيل وعلى الضفة اليسرى من نهر الزاب الكبير الذي يصب في دجلة، كان يعيش اتباع شيخ برزان تاج الدين، صاحب الطريقة الصوفية النقشبندية، وتابعه الشيح عبد السلام بارزاني، ليشق طريقه في الحرب ضد العثمانيين، فاتصل بالروس الى ان القى العثمانيون القبض عليه واعدموه عام 1914. وسار ابنه الشيخ احمد على الطريق ذاته محارباً العراقيين وقاوم الحكم الملكي. وكان لشقيقه الاصغر الملا مصطفى برزاني الدور الاساس في الحرب في عامي 1930 و1931. وألقت تركيا القبض على الشيخ احمد وسلمته الى بغداد عام 1935، ونُفي الى مدينة الحلة العراقية ثم الى السليمانية التي كانت المركز السياسي للكرد. حلم الدولة يتبدد بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى، كانت الدول المنتصرة على المانيا والامبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الاولى تعتقد ان تشكيل دولة كردية يحقق توازناً نوعياً في الشرق الاوسط، فتضمنت معاهدة سيفر الموقعة بين المنتصرين والخاسرين في الحرب العالمية الاولى، بنوداً لتشكيل دولة ذات استقلال موسع، ومنها المادة 62 التي نصت على ضرورة قيام حكم ذاتي في المنطقة الكردية الواقعة بين شرق الفرات وجنوب ارمينيا وشمال الحدود لكل من العراق وسورية، على ان تقوم لجنة مشتركة تضم ممثلين عن فرنسا وبريطانيا وايطاليا وايران والكرد بحسم المسائل المتعلقة بتخطيط الحدود. وتضمنت المادة 63 تعهداً تركياً بالاعتراف بقرارات اللجنة، بل ان المادة 64 لوحت باحتمال قيام وحدة بين هذه المنطقة المستقلة ذاتياً ثقافياً وسياسياً مع كردستان العراق بعد التشاور مع عصبة الامم. اذ نصت: "لن تعارض دول المحور اي محاولة اتحاد طوعي للكرد الذين يسكنون في القسم الجنوبي من كردستان الذي كان يشكل جزءاً من ولاية الموصل". لكن تفاؤل الكرد كان سابقاً لاوانه لان الحلفاء طبخوا طبختهم من دون علم الاتراك، اذ تمكن كمال اتاتورك من حسم الصراع الداخلي لصالحه وعلى حساب السلطان محمد السادس الذي وقع على معاهدة سيفر. وفي 23 نيسان 1921 اجتمع المجلس الوطني التركي في انقرة واعلن قيام حكومة معارضة. وبعد تمتع اتاتورك بسلطات مطلقة في العام اللاحق بدأ الطعن بمعاهدة سيفر، الى ان نجحت محاولاته باستبدالها بوضع جديد تبلور في معاهدة لوزان في 24 تموز يوليو 1923، التي ضمنت ل"الاقليات غير التركية"، الارمن واليهود واليونان، حقوقاً وضمانات يسيرة من دون اي حديث عن الكرد او منطقة كردية مستقلة. وكل ما ناله الكرد في هذا الاتفاق جاء في المادتين 38 و39 اللتين تعهدت فيهما الحكومة التركية "منح كل الحماية لسكان تركيا قاطبة والحفاظ على حياتهم وحرياتهم بصرف النظر عن محل الولادة والانتماء القومي واللغة والعنصر والدين". اي ان الاحلام التي راودت شعوب الشرق الاوسط من مبادئ الرئيس الاميركي ودرو ويلسون التي تضمنت تعهداً بارساء اسس السلام على الحق المقدس للامم في تقرير المصير، سرعان ما بددتها طموحات الدول المنتصرة عبر توقيعها معاهدات سرية لكيفية تقسيم تركة الامبراطورية العثمانية. فكان تسلم اتاتورك الحكم في انقرة واكتشاف النفط في العراق السبيين الرئيسين لتبدد احلام الاكراد. "جمهورية مهاباد": 11 شهراً في العام 1943، تنازلت حكومة نوري السعيد للاكراد وأعطت نوعاً من الادارة المحلية عبر السماح لهم بحمل اسلحتهم الشخصية. اما في ايران، فان جمهورية مهاباد الكردية التي اعلنت في ايران العام 1946 بدعم من ستالين فلم تدم سوى 11 شهراً، علماً ان مسعود بارزاني كان ولد فيها. ولعل اهم منجزات النظام الجمهوري لعبد الكريم قاسم في العراق عام 1958، كان عودة الملا مصطفى من الاتحاد السوفياتي واطلاق مفاوضات لاقامة حكم ذاتي للكرد في شمال العراق. ولم يستمر ذلك سوى ثلاث سنوات، اذ ان عبد الكريم قاسم بدأ بقصف القرى الكردية. واستمر القتال عشر سنوات الى ان اضطرت الحكومة العراقية الى التفاوض مع الاكراد العام 1970. ولم يصمد هذا ايضاً إذ اندلع الاقتتال من جديد. وحاول نظام شاه ايران محمد رضا بهلوي التفاوض مع الاكراد لاثارة المشاكل للنظام البعثي في بغداد. كما ان وزير الخارجية الاميركي الاسبق هنري كيسنجر ابدى استعداداً "غير مشروط" لتقديم الدعم اللازم للاكراد ضد النظام اليساري في العراق. فخاض مصطفى بارزاني جولة جديدة من القتال عام 1974 بعد تسلمه اسلحة من الولاياتالمتحدةوايران واسرائيل. لكن "طعنة الخنجر الخلفية" حصلت في آذار مارس عام 1975، عندما تصافح نظام شاه ايران مع صدام حسين نائب الرئيس العراقي، لتسوية الخلافات الحدودية بينهما. وقام شاه ايران بالتضحية بالاكراد واغلاق الحدود في وجههم. فعلق بارزاني: "ان اكبر خطأ ارتكبته في حياتي كان انني صدقت الوعود التي قدمتها الولاياتالمتحدة لنا". ويقول الدكتور كونتر دشنر في كتابه "احفاد صلاح الدين الايوبي: الشعب الذي تعرض للخيانة والغدر" ان كيسنجر مارس سياسة تعتمد على "مبدأ لا غالب ولا مغلوب" وهو ما تأكد لاحقاًً لدى اعداد تقرير لجنة التحقيق في الاستخبارات الاميركية بقولها ان "جميع الوثائق تدل ان كيسنجر ورئيس الدولة الصديقة شاه ايران كانا يأملان ان لا يكون بمقدور وكلائنا الاكراد نيل الانتصار الحاسم. وبدلاًً من ذلك حرصوا على ان يكون بمقدورهم الدفاع عن انفسهم فقط والاحتفاظ بالاجواء العدائية وان يكونوا اقوياء الى درجة تكمنهم من الهاء الدولة الجارة لحليفتنا العراق. ولم تتم مكاشفة حلفائنا بهذه السياسة بل كان تحريضهم وتشجيعهم باستمرار هو النشاط الخارجي الوحيد المتبع آنذاك". وجاء في مذكرة اخرى اعدتها "سي آي ايه" في 22 اذار 1974، اي بعد ايام من انهيار العلاقات الكردية-العراقية :"رأى حليفنا ايران فائدة في الابقاء على وضع راكد يتم خلاله اضعاف عدو حليفنا العراق من خلال رفض المجموعة العرقية الاكراد لقانون الحكم الذاتي المبتور الذي اعلنته الحكومة. ولم نكن ولا حليفنا راغبين في ان يتم حل المشكلة بصورة اخرى". لكن الاكراد عادوا وسعوا للافادة من الحرب الايرانية-العراقية وحصلوا على دعم طهران لبسط النفوذ على مناطق واسعة من شمال العراق، الا ان وقف الحرب العام 1988 بدد آمالهم بنيل حق تقرير المصير. وكرر بارزاني وطالباني ذلك في حرب الخليج الثانية، وشكلا "المؤتمر العراقي الموحد" الذي ضم جميع قوى المعارضة. وقاموا بانتفاضة ضد الجيش العراقي، لكن سرعان ما توقف الدعم الاميركي، وسمح لنظام صدام باستخدام الطائرات وقمع المنتفضين. وادرك الاكراد وقتها ان الظروف الدولية لا تسمح لهم ب"تقرير المصير" ولا ب"اقامة دولة"، فاتجهوا الى بناء البنية التحتية ل"الدولة" دون بعدها السياسي. وعلى رغم الفساد الموجود محلياً او في الاممالمتحدة ومعارضة الحكومة المركزية، استطاعوا توظيف عائدات مذكرة التفاهم "النفط للغذاء" لتوسيع شبكات الطرق والمدارس والمستشفيات. اذ تبلغ حصة شمال العراق 13 في المئة من المذكرة بحيث ان نحو خمسة بلايين دولار اميركي كان مقرراًً ان تصرف فيها. وحسب مسؤولي تنفيذ المذكرة في السليمانية واربيل، فان الموافقات لم تصل سوى على 40 في المئة منها كانت حصة المصاريف الادارية 20 في المئة والبقية لمشاريع فعلية. وكانت بغداد رفضت اعطاء موافقة على اعادة بناء مصنع اسمنت تقدم الطلب لاجله قبل ثلاث سنوات. كما انها رفضت الموافقة على بناء مستشفى في السليمانية يضم 400 سرير على اساس ان ذلك "جزء من التخطيط المركزي". ولاقناع موظفي الاممالمتحدة بالموافقة على مشاريع البنية التحتية، كان على منسقي البرنامج الاكراد التركيز على البعد الانساني والاجتماعي لأي مشروع ينوون اقامته، الامر الذي ادى علمياً الى ان تصبح الطرقات والحالة المعيشية افضل ببضع مرات من ملايين العراقيين في بقية الاراضي العراقية. وقال رئيس حكومة السليمانية الدكتور برهم صالح: "كان لدينا في العام 1991 نحو 540 طبيباً فأصبحوا الآن 1800 طبيب. كما ان عدد المدارس ارتفع من 800 الى 2700، اي ان جميع المؤشرات تدل الى ان الوضع هنا افضل من بقية اراضي العراق". لدى الاكراد مثل تاريخي مشهور مفاده: "اعتمد على مخالبك ايها الاسد، لا جدوى من انتظار رحمة القديسيين وحدها"، لكن قدر ابناء هذا الشعب العريق ان يعتمد على "القديسين" وليس على "مخالبه"، وآخر هؤلاء "القديسين"، هو الرئيس جورج بوش. كان "القديس الأب" جورج بوش خدعهم عندما سمح لجيش النظام العراقي بقمع المعارضين عسكريا. ودخل بعدها الاكراد في فترة انتظار لبروز فرصة جديدة لمواصلة النضال لتحقيق الحرية والاستقلال. هم يعتقدون ان الفرصة مواتية الآن لتحقيق خطوة اخرى من طموحاتهم، فيدرالية مع الحكم المركزي على الاقل واستقلال على الاكثر. فأي نوع من "القديسين" سيكون بوش الابن؟