منذ انفجار الخلاف السياسي بين الرئيسين جون كيندي وشارل ديغول مطلع الستينات، لم تعرف واشنطن وباريس تبايناً في وجهات النظر كالتباين الذي باعد بين الرئيسين جورج دبليو بوش وجاك شيراك حول المعركة ضد العراق. ولقد دعم الجمهور الفرنسي موقف رئيسه، ان كان داخل الجمعية الوطنية ام في الشارع، بدليل ان ارقات استطلاعات الرأي أعطت شيراك نسبة عالية من التأييد في معارضة السياسة الاميركية. ومن المتوقع ان ينتقل تيار هذه المعارضة الى اجتماعات الفرانكوفونية المنعقدة في بيروت حالياً. خصوصاً ان امين عام المنظمة بطرس غالي وضع على جدول الاعمال قضية الشرق الاوسط بشقيها الفلسطيني والعراقي املاً بأن ينتصر تيار الاعتدال الفرانكوفوني على تيار التطرف الانغلوفوني. ومع انه أثنى على افكار خلفه في امانة عام الاممالمتحدة كوفي انان الذي دشّن سلسلة افتتاحيات صحيفة ال"اوريان لوجور" بمناسبة القمة التاسعة للفرانكوفونية، الا انه كان يتمنى مشاركته في لقاء يضم ممثلي 55 دولة. ولكنه يعرف بالاختبار ان خلفاء الوزيرة اولبرايت سيطاردون انان ويطردونه كما طردوه هو، في حال تجرأ على حضور قمة لا تباركها واشنطن! في وصفه لأهداف اول قمة فرانكوفونية تعقد في عاصمة عربية، قال امين عام المنظمة بطرس غالي، انها معنية بمناقشة موضوع حوار الحضارات كعامل اساسي يسهم في بناء السلام والامن. ونوّه بأهمية بيروت كموقع مميز يعمل على تمتين روابط الشرق الاوسط بالقارة الاوروبية، الامر الذي يقوّي العلاقات التاريخية القائمة بين شمال البحر المتوسط وجنوبه. وكان بهذا الوصف يعكس الى حد كبير صورة لبنان في الذاكرة الجماعية الفرنسية التي رسمها الرئيس جاك شيراك اثناء زيارته الاولى لبيروت في الرابع من نيسان ابريل 1998، عندما قال: "عبر اختياري لبنان محطة لزيارتي الرسمية الاولى الى الشرق الاوسط، أردت ان أبرز تعلّق فرنسا ببلدكم ومحبتها له. وهذا الرباط القوي والقديم الذي يجمعكم بفرنسا واوروبا منح بلدكم انفتاحاً استثنائياً على العالم الغربي. ان لبنان يستمد ثروته وفرادته من لقاء الحضارات والاديان، كموقع تقاطع الشرق والغرب وملتقى المسيحية بالاسلام وصلة الوصل بين العالم الاوروبي والعالم العربي. ان تعلّق فرنسابلبنان حيّ للغاية لانه مرتكز على الاخلاص لمجموعة من القيم تشكّل تميز بلدكم وخصوصيته في هذه المنطقة. اني أرغب في تمتين روابطنا الثقافية وتكييفها كي تعود بيروت هذه العاصمة التي تتميز بقوة الفرانكوفونية فيها صلة وصل بين فرنسا واوروبا والشرق". بهذه العبارات التي ردّدها جاك شيراك خلال زياراته الثلاث السابقة للبنان في غضون سنتين، كان يؤكد التزامه الخط الديغولي بوصفه الوريث السياسي لتقليد قديم. ولقد اثبت بالتفاهم الذي طرحه اثر عملية "عناقيد الغضب" نيسان/ ابريل 1996 ان الديبلوماسية الفرنسية تتبنى وجهة نظر لبنان في المسائل المتعلقة بأمنه وسيادته واستقراره، وهي حريصة على ممارسة هذه السياسة حتى لو اضطرت الى الاصطدام بالموقف الاميركي الاسرائيلي، كما حصل في عهد شارل ديغول. اي في عهد المجابهة السافرة بين استقلالية القرار الفرنسي وطغيان النفوذ الاميركي داخل القارة الاوروبية. ولقد اضطر ديغول الى اعلان سخطه بمرارة وغضب عندما هددته الاستخبارات الاميركية بالقتل لأنه تجرأ وزار اليونان اثناء ولاية كرامنليس في محاولة لاعتاقها من حصار الولايات المتحدة. ولكي يعرب الرئيس الفرنسي في حينه عن تحديه للهيمنة الاميركية انتقل الى كندا ليطالب بكوبيك حرة مستقلة. افتتح المجلس الوزاري لمنظمة الفرانكوفونية اجتماعه التحضيري للقمة التاسعة بطرح ثلاث قضايا مهمة: الارهاب ومشكلة الشرق الاوسط وازمة ساحل العاج. ويستدل من طبيعة تمثيل القارات الخمس، ان قمة بيروت ستقدم لكل قارة المنطق الذي يطمئن هواجس شعوبها ويريح مخاوف قادتها. ومع ان المهمة الثقافية التي تضطلع بها المؤسسات الفرنسية في هذه القارات تحرص على الابتعاد عن خلط اللغة بالسياسة، الا ان المشاريع العلمية والثقافية تبدو دائماً عاجزة وضعيفة اذا لم تحتضنها السياسة ويرعاها الاقتصاد. من هنا القول ان فرنسا تمثّل بالنسبة للفرانكوفونية ما تمثله الولايات المتحدة بالنسبة للانغلوفونية، اي مركز استقطاب يتمدد ويتقلص حسب موازين القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية. وأصدق مثل على هذا الترابط ما تعرضت له اللغة الروسية من انحسار سريع داخل دول المنظومة الاشتراكية اثر انهيار الاتحاد السوفياتي وتراجع هيمنته العسكرية والسياسية والاقتصادية. والطريف ان اللغة الانكليزية لم يتقلص انتشارها بعد تحرر المستعمرات البريطانية قدر تقلص اللغة الفرنسية عقب استقلال مستعمرات فرنسا. والسبب ان الانغلوسكسونية خلقت وضعاً فريداً بحيث استمرت الانغلوفونية تحت غطاء النفوذ الاميركي الواسع من دون ان تتأثر بانهيار الامبراطورية البريطانية. ومثل هذا الترابط اللغوي الوثيق ظل يتفاعل سياسياً مع مختلف القادة، لا فرق أكان ذلك في عهد روزفلت وتشرشل أم في عهد جورج بوش وطوني بلير. وهذا ما يفسر تردد الشعب البريطاني في قبول فكرة الأسرة الأوروبية الموحدة التي طرحها جان مونيه وتبناها الجنرال ديغول. بل هذا ما يفسر تفرد الحكومة البريطانية الاشتراكية بقرار التبعية للموقف الأميركي، مخالفة في هذا التفرد سياسة الدول الأوروبية وخصوصاً فرنسا والمانيا. الملاحظ ان فرنسا استخدمت دائماً الثقافة كأداة لتكريس علاقات المصالح السياسية، في حين كانت بريطانيا تولي الاقتصاد أهمية استثنائية. وبوحي من هذه الفوارق اختارت باريس الفرانكوفونية جسراً لتجديد روابطها بالبلدان التي استقلت عنها سياسياً، بينما لجأت لندن الى ابتكار منظمة "الكومنولث" كوسيلة لتقاسم ثروات مستعمراتها. وترسخت هذه الفوارق بعد الثورة الفرنسية وبعد وصول نابليون الى مصر عام 1798 يرافقه جيش من الخبراء والعلماء. ورأت بريطانيا في الحملة الفرنسية تهديداً لنفوذها ومصالحها، الأمر الذي حملها على مقاومة نابليون وطرده بعد سنة تقريباً. واستمرت هذه المنافسة اكثر من مئتي سنة، أي الى حين بروز الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية كقوة مناهضة لتمدد المشاريع الفرنسية. وكان من الطبيعي ان تتضاعف حدة المنافسة عقب انهيار الامبراطورية السوفياتية وظهور الامبراطورية الاميركية كقطب احادي يسعى الى منع الاتحاد الاوروبي من الانطلاق والتوسع. وبسبب هذه الدوافع السياسية - الاقتصادية جرت عمليات تطويق وحصار لكل المؤسسات الفرنسية الثقافية منها والعلمية في آسيا والشرق الأوسط واستراليا وافريقيا. كما جرت محاصرة النفوذ الالماني في أوروبا الشرقية، من خلال التدخل الاميركي السافر في شؤون تلك المنطقة. ويرى المراقبون ان الرئيس جاك شيراك اعطى الدول الافريقية المشاركة في القمة الفرانكوفونية بعض الاهتمام لحل أزمة ساحل العاج، ولكنه في الحقيقة يتطلع الى عمليات مطاردة مصالح فرنسا في القارة الافريقية بكثير من التخوف والحذر. وربما يكون حرصه على منع استيلاء واشنطن على النفط العراقي نابعاً من حاجته الى الاحتفاظ بعلاقات سليمة مع دولة نفطية لا تستأثر أميركا بانتاجها. تقول صحيفة "الموند" الفرنسية ان الولايات المتحدة ركزت اهتمامها على اقامة أفضل العلاقات مع الدول النفطية الافريقية. وتوقعت ان يزداد نشاط الشركات العملاقة، مثل اكسون - موبيل وشيفرون وتكساكو وفيليبس بتروليوم. ولوحظ ان الرئيس جورج بوش يحرص على الاشتراك في هذه الحملة بدليل انه استقبل في نيويورك يوم 13 ايلول سبتمبر الماضي رؤساء عشر دول من افريقيا الوسطى. كما أرسل وزير خارجيته كولن باول لزيارة دولتين افريقيتين هما انغولاوالغابون. ثم تبع ذلك زيارة مساعد وزير الخارجية للشؤون الافريقية والتر كانستانير الذي توجه الى أرخبيل ساو تومي المجاور للغابون. وهو أرخبيل صغير من المتوقع ان يصل انتاجه الى مستوى انتاج سلطنة بروناي بعد خمس سنوات. ومع ان افريقيا حالياً لا تحوي على اكثر من ستة في المئة من الاحتياطي العالمي للنفط، الا ان سبعة من أصل ثمانية بلايين برميل اكتشفت العام الماضي في غرب افريقيا. ويؤكد الخبراء ان الولايات المتحدة ستزيد من حجم وارداتها النفطية الافريقية من 15 في المئة إلى 25 في المئة بعد خمس عشرة سنة. لذلك نفذت شركاتها مشروعاً نفطياً بقيمة أربعة بلايين دولار في التشاد والكاميرون، ثم انتقلت إلى غينيا الاستوائية لاحتكار انتاج النفط فيها على أمل أن يتجاوز ستئمة ألف برميل يومياً بعد خمس سنوات، أي ما يساوي ربع انتاج نيجيريا. الحكومة الفرنسية تتوقع من واشنطن ممارسة ضغوط خفية على محكمة العدل الدولية بحيث يصدر قرار تحكيم النزاع بين نيجيريا والكاميرون لمصلحة نيجيريا. والمشكلة بين هاتين الدولتين تعود إلى عام 1967 حين انتصرت الكاميرون للدولة المركزية في نيجيريا ومنعت انفصال اقليم البيافرا. وكافأتها نيجيريا على دعمها العسكري والمعنوي بأن تنازلت لها عن شبه جزيرة بالماسي المتنازع عليها. ومنذ عامين اكتشف المنقبون ان هذه الجزيرة القاحلة تحوي ثروة نفطية ضخمة، لذلك طالبت نيجريا باسترجاعها على أمل أن تساعدها واشنطن لدى محكمة العدل الدولية، ويتخوف المراقبون أن يؤدي حكم المحكمة إلى حرب بين الدولتين في حال جاء لمصلحة الكاميرون. وبما أن فرنسا ملتزمة قرار حماية الكاميرون حسب اتفاقية مشتركة، فإن تورطها في النزاع قد يبدو أمراً متوقعاً. خصوصاً أن إدارة جورج بوش تشجع نيجيريا على الانسحاب من "أوبك" والتحرر من حصص الانتاج والتقيد بالأسعار الملزمة. وهي تحرضها على تأسيس منظمة للدول الافريقية المصدرة للنفط مع وعد بأن تضم تحت وصايتها الغابون وأنغولا والكونغو وغينيا الاستوائية والتشاد وارخبيل ساو تومي وجنوب السودان مستقبلاً. من هنا يمكن فهم حاجة القمة الفرانكوفونية إلى هذا الحضور الافريقي الطاغي، كأن فرنسا ترد على الهجمة الأميركية الواسعة باستنفار أكثر من ربع دول العالم لمقاومتها، ولكن المقاومة تبقى محدودة في غياب القدرة على منافسة العولمة بطبعتها الانغلوفونية. ولقد جردت الولايات المتحدة لهذه المنافسة كل إمكاناتها العسكرية والاقتصادية والسياسية، معتبرة أنها تملك مراكز الاستقطاب لقلب موازين القوى لمصلحتها. وهي ترى أن الصراع محسوم لثقافة تكنولوجيا المعلومات والكومبيوتر وكل ما تتطلبه أساليب العصر الحديث وأنماط الاستهلاك ولغة الاقتصاد والمال والتبادلات الدولية. وللمحافظة على هذا التمدد القاري اعتمدت أميركا في جشعها المبدأ الذي وضعه هنري دي مونترلان وفيه يقول: "في الماضي كان الناس يحبون الذهب لأنه طريق القوة، وعن طريق القوة يمكن تحقيق الكثير من الأعمال الكبرى. أما اليوم فإنهم يحبون القوة لأنها توفر الذهب. وبه يمكنهم تحقيق الكثير من الأعمال الصغرى". ولكن القوة وحدها ليست الأسلوب الأضمن لتطوير المفاهيم الإنسانية باعتبارها تمثل مشروع الهيمنة الأحادية الجانب لانغلوفونية تستخدمها الولايات المتحدة لصدام الحضارات بدلاً من استخدامها لحوار الثقافات. والقوة المجردة من حكمة العقل تصبح خطراً على الاخرين وعلى صاحبها أيضاً. وفي دراسة علمية نُشرت منذ سنوات، ظهرت نظرية انقراض الديناصور لتؤكد أن قوته كانت تضاهي قوة خمس دبابات في حين أن دماغه لا يزيد عن حجم دماغ الدجاجة. ولهذا انقرض تدريجياً من عالم ليس فيه مكان إلا لأصحاب العقول! * كاتب وصحافي لبناني.