في أواخر القرن الثامن عشر، ماتت في شكل غير متوقع شابة رائعة الحسن، لا تتجاوز سنها الخامسة عشرة، تدعى صوفي فون كوهن. حدث ذلك في احدى مدن مقاطعة ساكسونيا البروسية. كان يمكن لذلك الموت ان يمر مرور الكرام، وتدخل تلك الآنسة غياهب النسيان، مثلما هو حال بلايين البشر في كل زمان وأوان، من الذين لم يقيض لهم أن يبدعوا فيواصلوا "حياتهم" حتى بعد موتهم. لكن ذكرى صوفي لم تمت، وبقيت في خواطر الشعب الألماني، وربما قراء الشعر عموماً، حية حتى يومنا هذا. وبالتحديد لأن حبيبها الذي افتقدها كثيراً حين موتها كان يدعى نوفاليس. وكان نوفاليس شاعراً مطبوعاً من الذين تأثروا بالنزعة الرومانطيقية، وبدأوا يكتبون الشعر والأفكار والأدب عموماً متحلقين من حول فلسفة تلك المرحلة الكبار من أمثال شليغل وفيخته. والشعراء الرومانطيقيون كان الموت، موتهم المرتقب أو موت أحبائهم، أحد دوافهم الرئيسية لكتابة الشعر في ذلك الحين. وهكذا، بعد عام أو أقل من موت الصبية المنكودة الطالع، أصدر نوفاليس مجموعة شعرية جعل لها عنواناً ذا دلالة حاسمة "تراتيل الليل". ومن نافل القول هنا ان "تراتيل الليل" جاءت حافلة بذكريات حب نوفاليس لصوفي وألم موتها المبكر، وكأنه في سياق التراتيل ألم البشرية جمعاً، ألم وجودنا كله على الأرض، وامارة انتهاء عالم بأسره يرحل من دون أن يعد بأي جديد حقيقي. في "تراتيل الليل" التي سرعان ما اشتهرت منذ صدورها في العام 1800 وراحت تترجم الى الكثير من اللغات الأوروبية، وكان نشرها للمرة الأولى في العدد الأخير لمجلة رومانطيقية/ أدبية المانية تدعى "اثينايدم". لم تكن المجلة واسعة الانتشار حقاً، غير ان تلك القصيدة ساعدت في ذلك اليوم على نجاح ذلك العدد بالذات، انما من دون ان تتمكن من انقاذ مستقبلها فكان ذلك العدد هو العدد الأخير. وانطفأت المجلة لكن شعر نوفاليس، فيها لم ينطفئ... ذلك انه كان شعراً أتى، على رغم منبعه الخاص، يؤسس لجديد، ان على صعيد الشكل أو على صعيد المضمون. في هذه الأشعار التي أتت على شكل رابسوديات نثرية شعرية مزروعة بالكثير من القصائد الوجدانية، لكن نوفاليس - كما يجمع نقاده ودارسو حياته - ظل أميناً لأسلوبه الشعري الذي كان عرف به سابقاً، في القصائد القليلة التي كان عمره السريع قد أتاح له نشرها في أماكن أخرى. وكان ذلك الأسلوب أسلوباً جمالياً، أعطى فيه نوفاليس الأفضلية للموسيقى على التعبير العقلاني عن العواطف. أما من ناحية مضمون ذلك الشعر فإنه - كما أسلفنا - كان على علاقة أساسية بموت الصبية صوفي. ذلك ان نوفاليس كان يعتقد جازماً أنه لا محالة سوف يلحق بها الى دنيا الخلود، ليس من طريق الانتحار، بل عبر فعل إرادي واضح، لأن مثل هذا الموت فقط يبدو قادراً على أن ينقل الى الشاعر الشعور بأنه محاط في الوقت كله ب"الوجود الحقيقي والفعلي لتلك الفتاة الراحلة"... وأنه انما يتلقى في كل لحظة "دعوات اللامرئي العذبة". والحال أن الحكاية تقول لنا انه بعد ثلاثة أشهر من موت الصبية، ظهرت هذه الأخيرة للشاعر الملتاع، ظهور اليقين وكان ذلك يوم 13 أيار مايو 1797. ومنذ ذلك الظهور قرر نوفاليس ان يعيش منذ تلك اللحظة حياة راءٍ، يغتذي من نزعة التقوى التي تزعمها المفكر زنزدورف، من فلسفة سبينوزا ومثالية شيلنغ. صحيح ان نوفاليس عاد وتزوج بعد شهور قليلة من حسناء جديدة تدعى جوليا فون شاربونتييه، لكن الأخرى الميتة صوفي ظلت، كما يبدو تعيش في داخله. ولها بالتالي كتب المقاطع الستة الأساسية التي تكوّن "تراتيل الليل". والحال ان الليل هنا ليس سوى التعبير الشاعري عن "البركات اللانهائية" وهو شعور تحرر، وامتزاج شيق في الحب وفي الله. في المجموعة، تأتي التراتيل الثلاث الأولى متمركزة من حول لازمة نشوة الحب المطلقة، والعنوان العام هنا هو "ديمومة ليل الزفاف". أما الترتيل الأول فيقدم الليل بصفته "الطريق الأولي المفضي الى الحياة العميقة"، والترتيل الثاني فإنه تنويع على فكرة "النعاس الأبدي"، أما الترتيل الثالث فيتحدث عن صوفي وظهورها يوم 13 أيار من ذلك العام. أما التراتيل الثلاث الأخيرة يختار الشعر لوناً دينياً للتعبير عن ذاته، أما الترتيل الرابع - في هذه المجموعة - فإنه عبارة عن مقطوعة يمتزج فيها الموضوعان الرئيسيان: الحب والدين، شغف لصوفي وعبادة للسيد المسيح. وأما الترتيل الخامس فإنه يحتفل بالكشف عن حياة أرفع مستوى ومكانة موجوداً هناك في صرح الله. وأخيراً، يأتي الترتيل السادس الملحن على شكل مقطوعة للكورس تحمل عنوان "حنين الى الموت" وهو تعبير شاعري بحت يبدو قريباً من "التراتيل المقدسة" التي كان سبق للشاعر ان نشرها، كما يقول باحثو سيرته وشعره. في شكل اجمالي تبدو الموضوعات والأفكار ضئيلة الحضور في هذا العمل، أما الطغيان فهو لتلك الموسيقى التي كانت لا تزال غير ذات حضور في الأعمال الأدبية الألمانية حتى ذلك الحين، وتميزت لدى نوفاليس هنا ببساطتها واحتفائها حقاً بالحياة. لقد أشار النقاد والدارسون مراراً وتكراراً الى ان نوفاليس اقتبس، في الحقيقة، من الشاعر يونغ صوراً وأساليب، غير ان هذا لم يمنع نوفاليس من أن يحمّل شعره هذا رنةً شخصية ذاتية، أتت موسيقية بقدر ما أتت شاعرية. وحول هذا كله يقول أحد دارسي "تراتيل الليل"، ان التمازج الأسمى بين الشعر والموسيقى ها هنا، ذلك التمازج الذي كان كبار منظري الرومانطيقية، انما تحقق للمرة الأولى في تاريخ الشعر. ولن يتوقف الأمر معه عند ذلك الحين، أو على ذلك النحو، إذ انه سرعان ما سوف يصبح المنبع الخصب الذي منه ينهل فن الموسيقي فاغنر، ما يعني انه أغرق الرمزية كلها وظل مغترباً في الزمان حتى الوصول الى ريكله. ولد فردريك ليوبولد فريهر فون هاردنبرغ المعروف باسم نوفاليس، في مدينة أوفر فايدرشتادت العام 1772، وجعل من نفسه باكراً صاحب تلك الأعمال والنظريات التي سرعان ما سوف تلهم الرومانطيقيين في المانيا وكذلك في فرنسا وانكلترا. درس الفلسفة والحقوق وعلوم التعدين بين العام 1790 والعام 1794... لكن مساره الدراسي توقف حين توفيت خطيبته صوفي وهي في ريعان الصبا، هو الذي كان يخطط لنفسه للحصول على مستقبل كبير، فإذا به الآن يكتفي بأن يكون واحداً من الشعراء المتجمعين في يينا، عند بدايات عصر الرومانسية، من حول كبار أقطاب هذه الأخيرة. ونوفاليس لم يعش طويلاً بعد موت صوفي، فيرحل العام 1801، وقد خلف عدداً من القصائد جمعها في "تراتيل الليل" كما في "شذرات"، اضافة الى رواية "هاينرش فون أوفتر دنغن، التي تركها غير مكتملة فأصدرها شليغل ونيك مطبوعة في العام 1802. كما ترك كتاباً فلسفياً عن "المسيحية وآوروبا" أتى في الحقيقة دراسة في فلسفة الحضارة، غير أن هذا الكتاب لم يطبع إلا في العام 1826 أي بعد ربع قرن على موت صاحبه.