ما من سبيل لمقارنة الاقتصاد اللبناني المأزوم بالاقتصاد الأرجنتيني المتفجرة أزمته إذا تناولنا المؤشرات المالية والاقتصادية أساساً للمقارنة من دون البحث في دينامية هذه المؤشرات في السياسة والاجتماع. بداية، تتعين الإشارة الى ان عدد سكان الأرجنتين يساوي عشر مرات سكان لبنان، والناتج هناك يساوي الناتج اللبناني 15 مرة، ولدى الأرجنتين امكانات انتاج صناعي وزراعي غير متوافرة في بلاد الأَرْز. لكن عرضاً سريعاً لمكونات الأزمة في البلدين يظهر قواسم مشتركة كثيرة هي: تفاقم الدين العام وتضخمه، ارتفاع عجز الموازنة، فقدان انتاجية القطاع المثقل بأعداد موظفين فائضة، فضلاً عن فساد مستشرٍ في بعض جوانب الحياة العامة والخاصة. وفي رأس هذا "الكوكتيل" المتفجر فتيل اشتعاله سهل إذا ما اضطربت الأسواق واهتزت الثقة هو تثبيت سعر صرف البيزو والليرة في مقابل الدولار منذ نحو 10 سنوات في البلدين. ولعل الركود الاقتصادي هو وجه الشبه الأكيد في محاولة المقارنة. فقد دخل البلدان حلقة ركود متشابهة منذ العام 1997. وتحول ذلك الى انكماش حاد في الأرجنتين خلال العام الماضي في مقابل نمو متواضع حققه الاقتصاد اللبناني نسبته لا تزيد على 1.5 في المئة بعد نمو سلبي في مدى عامين متتاليين. وإذا نظرنا الى المؤشرات المالية بقياسها النسبي الى الناتج يتبين ان أزمة لبنان أعمق وأخطر من تلك التي انفجرت في بلاد البيرونيين: فنسبة الدين العام الى الناتج لا تتجاوز 45 في المئة في الأرجنتين في مقابل 170 في المئة في لبنان، اعتماد هذه النسبة يدل إلى قدرة الاقتصاد على تحمل المزيد من الديون. فكيف توقفت الأرجنتين عن سداد مستحقات دينها الذي يقل عن نصف حجم الناتج في الوقت الذي يستمر لبنان بالالتزام بتعهداته من دون شائبة حتى تاريخه علماً ان دينه العام يساوي 1.7 مرة ناتجه؟ وثمة مؤشر آخر لا يقل أهمية هو نسبة العجز في الموازنة الى الناتج التي تقل عن 3 في المئة في الأرجنتين وهو المتوسط الدولي المقبول نسبياً في مقابل 19 في المئة في لبنان وهي نسبة تعد بين الأعلى بين الدول التي تعاني أزمات وفقراً واستدانة مفرطة. كما تعد نسبة العجز السنوية في الموازنة اللبنانية بين الأعلى في العالم وهي 50 في المئة في متوسطها السنوي منذ العام 1997. والحال هذه، كيف اندلعت الأزمة هناك وبقيت مضبوطة هنا؟ سعر الصرف أما سعر الصرف الذي يجمع المحللون الماليون والاقتصاديون على أنه مصطنع في البلدين بدليل انه يتعرض لغضوط عاتية تكاد تفك ارتباطه بالدولار لولا تدخل السلطات النقدية دفاعاً عنه في كل مرة تهتز فيه الأسواق المالية متأثرة بتراجع عامل الثقة لأسباب اقتصادية ومالية وسياسية تضاف اليها الأسباب الأمنية في حال لبنان. ومن مفاعيل هذا التثبيت النقدي ارتفاع الفوائد على العملة الوطنية لتكون أكثر جاذبية للاستثمار في سنداتها ما يرفع كلفة خدمة الدين، وهي كلفة تمول بالاستدانة مجدداً بفعل الركود الاقتصادي المؤثر سلباً في جباية الايرادات في موازاة اتفاق عام غير مضبوط. وللدفاع عن التثبيت أو الاستقرار النقدي كلفة أخرى يدفعها البنك المركزي من احتياطه بالعملات الأجنبية كلما سادت موجة تحويلات من العملة الوطنية الى الدولار. وبما ان الاحتياطات هذه محدودة لأنها بعملة الغير ولأن عوامل التحكم بها خارجة عن سيطرة البلد صاحب العملة الضعيفة. ان تلك النظرة "الستاتيكية" للمؤشرات مضافاً اليها العامل النقدي غير كافية لتفسير اندلاع الأزمة في الأرجنتين وبقائها تحت السيطرة في لبنان. لكن نظرة دينامية تظهر ان ثمة اختلافاً جوهرياً في طبيعة الدين العام في البلدين وسياسة التثبيت النقدي. لا تزال الحكومة اللبنانية تصدر سندات دين بالليرة والدولار لتجد من يشتريها، ذلك لأن لدى المصارف المحلية سيولة عالية جاهزة للاستثمار تقدر الآن بنحو 10 بلايين دولار العجز السنوي يراوح بين 2.5 و3 بلايين دولار في الخزينة العامة، أي أن في المصارف الآن ما يمول العجز لسنوات طويلة بعد. وتساوي الودائع المصرفية 2.4 مرة الناتج في مقابل أقل من ربع مرة في الأرجنتين. والفارق الجوهري الآخر هو أن الدين العام اللبناني البالغ 28.5 بليون دولار كما في نهاية العام 2001 محمول بمعظمه من المصارف والمؤسسات المالية المحلية الى جانب عدد من المستثمرين الأفراد من داخل البلد، ويتكون الدين العام كالآتي: 65 في المئة بالليرة و35 في المئة بالدولار. إذاً، ثلثا الدين من الداخل علماً أن ثلثه الباقي محمول بمعظمه في الداخل أيضاً حصة المصارف من سندات اليوربوندز تزيد على 85 في المئة والباقي عبارة عن ديون خارجية طويلة الأجل وميسرة السداد والفوائد ولا تشكل عبئاً ضاغطاً. في المقابل فإن معظم ديون الأرجنتين بالعملات الأجنبية ومحمولة من مستثمرين دوليين افراداً وصناديق ومؤسسات مالية، الأمر الذي يجعل الخزينة تحت ضغط متواصل للسداد بعملة غير عملتها مواردها منها محدودة، فضلاً عن امكان تصفية مراكز هذا الدين عند أول هزة في الأسواق ما يعني هروباً للرساميل. الى ذلك هناك وجه اختلاف عميق بين التدفقات النقدية في البلدين. فلبنان يعتمد على تحويلات مغتربيه التي تقدر بنحو 5 بلايين في المتوسط سنوياً. واستمرت هذه التدفقات الى الداخل حتى في أحلك ظروف الحرب في الثمانينات وتعاظمت في التسعينات مستفيدة من ارتفاع الفوائد. وتضاعفت الودائع في المصارف اللبنانية 7 مرات في 7 سنوات وهي الآن تزيد على 40 بليون دولار. ولدى النظر الى الودائع في الأرجنتين ترى أنها هزيلة بالقياس الى الناتج والدين العام ما يعني ان الرساميل الموظفة في الداخل تهرب عوائدها الى الخارج. أما "الدياسبورا" الأرجنتينية الموجودة أساساً في الولاياتالمتحدة فارتباطها بالوطن الأم أقل من ارتباط "الدياسبورا" اللبنانية المنتشرة في أربع رياح العالم. ما يعني ان تحويلات المغتربين لا يعتد بها في الأرجنتين كما هو الحال في لبنان. فالأرجنتيني يهاجر الى الولاياتالمتحدة ويتمركز هناك استثماراً ومدخرات ليكون مواطناً كامل الانخراط. نصائح صندوق النقد وفي جانب أوجه الخلاف بين الأزمتين، يمكن القول ان لبنان لم يبدأ بعد بتطبيق روشتة كاملة الأوصاف من صندوق النقد الدولي على غرار الأرجنتين. فلا الخصخصة انطلقت، ولا لجأت الحكومة الى خفض رواتب العاملين في القطاع العام، ولم تلتزم بعجز يساوي صفراً حتى تثير حفيظة المكلفين على نحو يمكن معه التنبؤ باحتجاجات شعبية عنيفة كالتي حصلت في الأرجنتين. وهذا سيف ذو حدين. الأول قاطع ايجاباً إذا أحسن لبنان اطلاق عمليات الخصخصة مستفيداً من أخطاء البلدان الأخرى، وتمكن من خفض الانفاق تدريجاً من دون هزات اجتماعية. والثاني قاطع سلباً إذا اصطدمت الاصلاحات المطلوبة بخلافات سياسية تؤجل تنفيذها أو تعطل مفاعيلها الايجابية وتجهض نتائجها المتوخاة... وبين الاثنين اجترح رئيس الحكومة رفيق الحريري فكرة ما اصبح يسمى بمؤتمر باريس الذي عقد دورته الأولى في شباط فبراير 2001 ويزمع عقد دورته الثانية في الأشهر المقبلة، وهو مخصص لطلب مساعدة المجتمع الدولي في "حرب" لبنان ضد كلفة الدين العام التي باتت تلتهم كل الايرادات الضريبية وغير الضريبية في ما يشبه الحلقة المفرغة التي تفرض الاستدانة مجدداً لدفع الرواتب وللانفاق الاستثماري على المشاريع الانمائية والاعمارية! وهذا المؤتمر يعد مهرباً من "روشتة" قد يفرضها صندوق النقد وفي رأس قائمتها تقويم سعر صرف الليرة وفك ارتباطها بالدولار... وإذا كانت الأرجنتين قبلت قسراً بتعويم سعر صرف البيزو البيزو يساوي دولار فلأنها التزمت مع الصندوق ببرنامج اصلاح وان كانت لم تنفذه كاملاً بعد. في المقابل يرفض لبنان المساس بالاستقرار النقدي لأسباب متصلة بمحاولة الحفاظ على القدرة الشرائية لشرائح واسعة من الموظفين لا سيما في القطاع العام وصغار المدخرين فضلاً من أهمية الحفاظ على استثمارات المصارف ومودعيها بسندات الخزينة بالليرة. لكن هذه السياسة النقدية تستنزف احتياط مصرف لبنان من العملات الأجنبية عندما تهتز الثقة بالنظام السياسي أو عندما يضطرب الأمن في المنطقة... وتناقص هذا الاحتياط 4 بلايين دولار السنة الماضية حتى كاد ينتهي لولا أحداث 11 أيلول سبتمبر التي غيرت اتجاه التحويل وأوقفت تصفية المراكز لتعود الليرة جاذبة للاستثمار فيها بعدما تدنت الفائدة على الدولار الى أدنى مستوياتها منذ 40 عاماً! وترفض السلطة النقدية تعويم سعر صرف الليرة لأسباب أخرى أبرزها عدم السماح للفوائد بالارتفاع مجدداً حتى لا ترتفع خدمة الدين وتهتز الثقة بالاستثمار العام لا سيما وان البلاد مقبلة على موجة خصخصة في بعض القطاعات الهاتف والمياه والكهرباء والمرافئ... ولدى السلطة النقدية اطمئنان الى مستقبل الليرة لأن الاقتصاد أصبح مدولراً بنسبة عالية 85 في المئة من التسليفات و73 في المئة من الودائع بالدولار علماً ان 90 في المئة من ودائع الليرة مرتبط بسندات الخزينة ولآجال متوسطة وطويلة. ولجأ مصرف لبنان الى اصدار سلسلة تعاميم تضبط السيولة بالدولار بربطها هنا وهناك احتياطات الزامية وودائع لثلاث سنوات... تخفيفاً من الضغط على الليرة. لبنان وأزمته هل يعني ذلك ان لبنان بمنأى عن انفجار أزمته؟ ثمة مؤشرات تنبئ بعكس ذلك. وتشاء "المصادفة" ان تكون هذه المؤشرات شبيهة بتلك التي في الأرجنتين: البطالة 20 في المئة من اليد العاملة، و45 في المئة من السكان قرب خط الفقر، والضرائب والرسوم الى ارتفاع في مقابل تراجع في القدرة الشرائية. فلماذا لا ينزل المتضررون الى الشارع تعبيراً عن هواجسهم؟ الجواب لا يمكن ايجاده الا في التركيبة الطائفية في لبنان. فالنقابات ممسوكة ولا تتحرك إلا بكبسة زر. ولا توجد قنوات تجمع المتضررين في كل الطوائف في بوتقة معترضة واحدة. فلا يزال الشارع يتحرك بالسياسة المطيَّفة أو الممذهبة. وبما ان مصالح زعماء الطوائف محفوظة نسبياً في النظام العام فإن الاحتجاج الشعبي ممسوك بتعبيرات أخرى غير التظاهر والاضراب. وفي لبنان "ظروف دقيقة" و"مرحلة حرجة" دائماً تتعلق بالأوضاع الاقليمية ودونها يهون أي ظلم اجتماعي أو حيف يلحق بشريحة ما من شرائح المجتمع. أما في الأرجنتين فهناك شعبوية غذتها البيرونية منذ الأربعينات وهي جاهزة للتحرك احتجاجاً حتى لو كان ذلك ضد البيرونيين انفسهم الذين لطالما عرفوا كيف يلمون الشارع. وإذا كان الأرجنتينيون تظاهروا احتجاجاً على خفض الرواتب وانخفاض قدرتهم الشرائية بعدما تحررت الأسواق وتخصخصت الخدمات العامة وتراجعت القدرة التنافسية للسلع المنتجة محلياً قياساً بتلك المستوردة، فإنهم بدأوا الى جانب ذلك بالتشهير بالطبقة السياسية الحاكمة متهمين اياها باستغلال النفوذ والفساد. أما في لبنان فالرواتب لم تخفض بعد والخدمات العامة مقبولة الأسعار حتى تاريخه ما دامت غير مخصخصة بعد والقدرة الشرائية متماسكة بفعل الاستقرار النقدي اللاجم للتضخم. لكن الحديث عن الفساد متداول به منذ أكثر من 8 سنوات من دون ان يكون لذلك أي أثر في نتائج الانتخابات النيابية ما يعني تسليماً بالأمر الواقع أو تغاضياً عن طبقة لا بد منها في النظام الطائفي المعمول به. ويشار الى ان الأرجنتينواللبنانيين يحبون الرقص ولكل رقصة أكانت "تانغو" أو "دبكة" دلالات في السلوك العام. فالتانغو عبارة عن رقصة اثنين من جنسين مختلفين خطواتهما تتشابك لكأن في الأمر عراك في دوران متكرر حتى يظهر اللاتوازن لدى الأنثى فتنزلق ليمسك بها الذكر في حركة استعلائية جديرة بكازانوفا. ويشبه ذلك الى حد بعيد شخصية البيروني الحاكم منذ الأربعينات مع تخلل حكم عسكري في السبعينات، فالبيروني غير آبه بالفساد قدر اهتمامه بالشعارات الشعبوية ويرقص التانغو مع الشارع ببراعة. ولذلك آثار في أسلوب الحياة، إذ يعد الأرجنتيني أكثر الشعوب الأميركية اللاتينية تأثراً بأنماط الاستهلاك الغربي. أما الدبكة اللبنانية فهي عبارة عن اصطفاف لتأدية خطوات عنيفة فيها الكثير من الاعتزاز بقيادة مايسترو يتفنن في اظهار العنف والتماسك في خطواته على رأس الصف متعالياً على الذي الى جانبه حتى لتعود الأدوار فتنقلب باصطفاف جديد ومايسترو جديد في مباراة دائمة دوراتها غير ممل ونهاياتها معلقة. ويشبه ذلك الى حد بعيد الحياة العامة في لبنان التي لا يمكن فصلها عن الحياة الاقتصادية ومظاهرها الاستثمارية الفردية قليل جداً عدد الشركات المساهمة العامة والاستهلاكية المفرطة على نحو لا يخفي التمظهر حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا. * صحافي لبناني.