فن الرسوم المتحركة، إبداع سينمائي خالص، يكسر التقليد الفوتوغرافي ويخرج على مألوف الإيقاع. يفسح المجال للإيقاع الخاص بالفنان، خلال فيلم التحريك يحق للفنان حرية الانطلاق للتعبير عن أفكاره وإحساسه. لما كانت عناصر تشكيل الكادر السينمائي هي الخط، والكتلة، والعمق واللون، فإنها تتحقق في فيلم التحريك بأقصى ما يتسع خيال الفنان من حركة وديناميكية، لا تستجيب إلا لتحريف الطبيعة وخرق الواقع. وفن الرسوم المتحركة يعتمد على إمكان التفكيك وإعادة الترتيب من أجل تعبير له طاقة تأثيرية فاعلة. انتظم إنتاج أفلام الرسوم المتحركة في مصر في أواخر ستينات القرن الماضي، حين تأسس المركز القومي للسينما عام 1967، متضمناً وحدة لأفلام الرسوم المتحركة. أشرف على تدريب الفنانين الشبان آنذاك خبير التحريك التشكيلي فلاديمير ليخكي. وشهدت المهرجانات الدولية أفلاماً من إنتاج تلك الوحدة للفنانين نصحي اسكندر، رضا جبرات، محمد حسيب وليلى مكين، عطية خيري وزكريا عبد العال وغيرهم. في العام 1974 أسس الدكتور أحمد المتيني قسماً لأفلام الرسوم المتحركة في المعهد العالي للسينما في القاهرة، تخرج فيه أكثر من عشرين دفعة وتبعه كل من كلية الفنون الجميلة في القاهرة وبعدها جامعة المنيا وأخيراً جامعة جنوب الوادي في الاقصر. كما تعددت الشركات الخاصة المنتجة لهذه النوعية من الأفلام. أقيم المهرجان القومي للسينما في القاهرة من 12 آب أغسطس الى 19 منه، وتضمن برنامج الأفلام القصيرة واحداً وعشرين فيلماً من أفلام الرسوم المتحركة، منها تسعة عشر فيلماً من إخراج طلبة المعهد العالي للسينما. تميزت غالبية الأفلام بتقديم فكرة واضحة محددة وشخصيات مبتكرة إضافة الى معالجة درامية مكثفة. تراوح طول الفيلم بين دقيقة ونصف الدقيقة و3 دقائق. للأطفال فقط؟ تعارف الجمهور على أن أفلام الرسوم المتحركة موجهة فقط للأطفال. والحق أن نوعية من الأفلام يمكن أن تعالج مواضيع تهم الكبار أيضاً منها مواضيع عن مشكلات الأطفال النفسية والاجتماعية. لقد اهتمت المؤسسات المعنية بالتنمية البشرية مثل يونيسف بأفلام الرسوم، لما لها من قدرة على التعبير وطاقة على التأثير، وذلك لدعم أهدافها التنموية. تضمن برنامج المهرجان هذا العام فيلماً من تلك النوعية بعنوان "نظرة" عن قصة ليوسف إدريس وإخراج ريهام عباس. عرض الفيلم في دقيقتين وهو يروي معاناة خادمة صغيرة من مشقة الأعمال المنزلية وحرمانها من حقها في اللعب مثل كل الأطفال. في لقطة مكبرة لعين إنسان ينعكس عليها صور من حياة البائسة الصغيرة، تضع المخرجة مشكلة عمالة الأطفال في عين المتفرج وضمير العالم. ولما كانت الصداقة من الحاجات المهمة، نفسياً واجتماعياً للكبار والصغار، عرض المهرجان فيلمين من أفلام الرسوم يمجدان قيمة الصداقة: الأول "وعجبي". دقيقة ونصف الدقيقة من إخراج هبة جلال. وفيه يلهو زوجان من حيوانات الكابوريا على شاطئ البحر حتى يعثرا على قوقعة فارغة. يحتدم الصراع بينهما فيتلاحمان حتى تتناثر أطرافهما من دون أن يفوز أحدهما بسكناها. والثاني: "أولاد آدم" 3 د. لرفيق لطيف يحتدم فيه الصراع بين صديقين للاستئثار بهدية وحينما يسقط أحدهما، يعي الآخر أن الهدية لا معنى لها من دون صديقه وأن الحياة لا طعم لها من دون صداقة. في المجتمعات التقليدية ينشأ الطفل على ثقافة الخوف حين تتردد حوله مقولات مثل "امشي جنب الحيط"، "من خاف سلم وامشي سنة ولا تعدي أنا". يلتقط الفنان طارق علي محمد تلك المفردات ويجسدها في شخصية كرتونية معبرة عن تلك الثقافة وانعكاساتها. يستهل الفيلم وعنوانه "حيطا فوبيا" 2 د. بلقطة من زاوية معبرة للمحاولة الأولى لتمرد الشخصية على المألوف حين تنزلق على "درابزين" البيت فتواجهها ثقافة الخوف "إمشي جنب الحيط". وفي ظل مجتمع يزكي الطاعة تسير الشخصية بحذر حذو الحائط خشية السقوط. وقد عنى المخرج برصد انفعالات الشخصية في لقطات مكبرة للوجه، إضافة الى عنايته بتصميم إيقاع الحركة. وفي لقطة بعيدة للطريق تبدو السيارات كما النمل فتضاعف خوف الشخصية من كارثة السقوط. حين تواجه الشخصية موقفاً بسيطاً كعبور الطريق مثلاً ينتابها من التوتر والاضطراب ما يعجل بالكارثة. وفّق الفنان الشاب في تصميم الشخصية وإبراز دوامة الانفعالات داخلها. وفازت رانيا محمود بجائزة انطون سليم* للعمل الأول عن فيلم الرسوم "ماريونيت" 5،2 د.. الفيلم يصور عروسة مقيدة بخيوط تعيق حركتها فتجهد للتخلص منها. حين تتمزق الخيوط تنفلت العروسة لتتحول بين السحب ثم تدور في دوامة إلى أن تتدخل يد بشرية لإعادتها إلى حيث كانت. اعتنت الفنانة بتصميم العروسة في شكل تجريدي يختزل التفاصيل ليبرز التعبير. اهتمت باللقطة المكبرة لرصد ردود الافعال خصوصاً لحظة التحرر من القيود. استدعت الخيال للتعبير عن انطلاق العروسة في عوالم متباينة. كثفت المخرجة ذروة الفيلم في استعارة رمزية ليد بشرية تلتقط العروسة. وكنت أتوقع أن تحمل يد الانسان دعوة للتحرر بدلاً من أن تكون أداة للحجر عليه. يعد تمجيد القيم الجمالية أحد مجالات فن الرسوم المتحركة. وقد تضمن برنامج المهرجان في هذا المجال فيلم "معلش النوبة" 2 د. وفيلم "العقد" 5،2 د.. يعرض الأول مفردات تشكيلية من التراث النوبي، على مداخل البيوت وجدرانها، الزخرفة بالحناء على كفوف الصبايا، وايضاً مجموعة حلى "جمر النوبة" المكونة من الكردان والحلق. شكلت الفنانة شيماء رجائي ايقاع الفيلم خلال النقل بين اللقطات من دون الحركة داخلها وذلك على خلفية من ايقاعات نوبية منحت الفيلم دفئاً وحيوية. ويعد فيلم "العقد" لعمرو فاروق من أجمل أفلام التحريك في المهرجان. فاز بتصفيق الجمهور عقب عرضه. الفيلم سيمفونية من الإبداع خلال تحريك جمالي لمفردات تخيرها الفنان من الخرز الملون. أبدع المخرج في تحريكها في تصميمات على شكل عقود رافقتها موسيقى مستقاة من القوالب العربية. كلب وهانم و"كلب الهانم" 5،1 د. لتغريد فتحي يصور "بالوعة" في الطريق، تتصيد عدداً من المارة. يتولى العداد إحصاء عددهم وحين تهل علينا غادة حسناء تقود كلباً صغيراً مدللاً، يسقط الكلب ويقفز العداد مضيفاً عدداً للضحايا. ولكن سرعان ما تستجيب الأجهزة لانقاذ كلب الهانم. تضمن الفيلم موقفاً درامياً نفذ بمعالجة واقعية تليق بالسينما الروائية. اسقطت المخرجة لغة التحريك وإمكاناته الكثيرة في التعبير. الموقف يحمل في طياته روح الكوميديا، غير أن المخرجة، الكاتبة في الوقت ذاته، لم تعد تستثمرها، كما أنها لم تستمد من الخيال وسيلة لانقاذ الكلب واكتفت بأن ترسل له عظْمة. يحسب للفنانة الواعدة أن حددت موضوعها في موقف مُحكم البناء، وأحسنت تصميم شخصية الهانم المتحذلقة وابتكرت شخصية العداد. الفيلم يدين التمايز الطبقي في أقسى حالاته، عندما يكون التفضيل بين البشر وكلب الهانم. في فن السينما عادة ما يلتقط المخرج فكرة طريفة ولكن لا يسعفه الخيال في معالجتها حيث تدعم قيمة أو تثري المشاعر أو تحقق البهجة والتسلية للمتفرج. تعرض الدكتورة زينب زمزم في فيلمها "شقاوة عيال" 12 د. حدوتة طريفة تبدأ باستعراض ملامح الحارة التقليدية ورموزها ابتداء من المقهى والمراجيح، الى الجزار ثم بائع العرقسوس وصاحب صندوق الدنيا وغيرهم. تتوقف الأم وطفلتها أمام بائع الغلال. تتبع الطفلة قطيطة ظريفة إلى مخزن الغلال حيث تشكل مجموعة من الحيوانات من الرز والفول والعدس مما يثير اهتمام الطفلة. حين يحل الظلام يعاونها الحمار على الخروج من النافذة لتلتقي بأمها. الفيلم من نوعية تحريك الصلصال والمخرجة ذات خبرة طويلة في ذلك المجال. الحدوتة على رغم طرافتها لم يتحقق إثراؤها درامياً. ويعد فيلم "اللي علي علي" 5،1 د. لمخرجه محمود حسام الدين من أجمل أفلام المهرجان وأكثرها ذكاء. تضمن الفيلم رؤية خاصة للمخرج في الحراك الطبقي للمجتمع. خلط أفقي يفصل الكادر، شخصية كرتونية تتقدم في الشريحة السفلى فتنهال عليها المخلفات من الشريحة العليا. يصل الموقف إلى ذروته حين يقضي كلب حاجته فوق رأس الناس اللي تحت. ينقلنا الفنان الشاب بذكاء إلى رد الفعل حين تحتج الشخصية وتصرخ عالياً وتجري بعيداً لتنجو بكرامتها. تصعد الشخصية - خلال ثغرة - إلى الشريحة العليا تفاجأ الشخصية وأيضاً المتفرج بظهور خط آخر ينبئ بشريحة أعلى. ثم تكشف المفاجأة الأكبر عن شرائح عدة علوية وأخرى سفلية تملأ الكادر وتظهر كائنات بشرية ضئيلة تناضل للصعود، فهل للمجتمع أن تستقر أحواله لينعم الإنسان بالأمان؟ فيلم الجائزة ويأتي فيلم "الشجرة" 5 د. للفنانة الشابة سحر محمد على رأس فن الرسوم المتحركة هذا العام حيث فاز بإعجاب الجمهور وأيضاً بالجائزة الأولى لأفلام التحريك، في المهرجان. حصلت مخرجته على دبلوم الدراسات العليا في فن التحريك وفاز فيلمها الأول "فتاة متمردة" بجائزة في مهرجان الاسماعيلية الدولي، كما نفذت عدداً من الأغاني المرحة للأطفال. تميزت الفنانة بعنايتها بإضفاء الخصائص الإنسانية على الشجرة حين تتثاءب ثم تضحك وترقص فرحة بالنضارة والنقاء، مما يدعم التواصل بين الشخصية والمتفرج. حين يتقدم "الونش" كاشفاً عن انيابه يملأ الكادر بطلعته المتوحشة، تعتصر عجلاته العملاقة قلبك حين تحاذي زهرتين باسمتين، تكسب الشجرة تعاطف المتفرج ليتبنى قضيتها ويحارب لرفع الخطر عنها. يتملك الخوف الشجرة، تنطق ملامحها بالرعب حين تنهال بلطة عليها في لقطة مكبرة بزاوية حادة. تدمي افئدتنا صرخات الشجر، تتسرب الحياة من أحد الفروع ليسقط على الأرض. يثري دراما الفيلم وجود شجرة وحيدة ترتعد فرائصها حين تتقدم إليها الآلة الشيطانية، في لقطة عامة نرى مساحة المعركة بعد المجزرة وتصل الى اسماعنا آهات الجرحى. ينتهي الفيلم بنقلة غير متوقعة إلى محل تجاري تحت الإنشاء وتلمح شجرة - على مدخله - تبرق بالأوراق الملونة تحت الأضواء كأنها راقصة في ملهى رخيص. حققت أفلام الرسوم المتحركة تقدماً فنياً خصوصاً أفلام طلبة المعهد العالي للسينما مما يثير التساؤل حول رعاية واستثمار تلك الطاقات الشابة في أفلام تطوف دول العالم عبر المهرجانات والفضائيات. * أنطون سليم رائد أفلام التحريك في مصر أخرج في الخمسينات من القرن الماضي فيلم "عصام وعزيزة" للأطفال. * كاتبة مصرية.