من الصعب الدفاع عن مقولة "انعزالية" الولاياتالمتحدة عبر تاريخها، ومنذ اعلان الاستقلال. فهي كانت دائماً حاضرة على المسرح العالمي. وهي التي قال فيها احد مؤسسيها وكاتب دستورها الرئيس توماس جفرسون "... ليس في أيامنا، ولكن في المستقبل القريب، سوف تستطيع الولاياتالمتحدة هز العصا فوق رؤوس الدول، ليرتجف الأقوى منها. لكنني آمل ان تزداد حكمتنا بالتوازي مع قوتنا، لنعرف انه كلما استعملنا قوتنا أقل كلما كنا أقوى". تتمثل الترجمة العملية لعظمة أيّة امبراطورية مرّت عبر التاريخ، من خلال قدرتها العسكرية، وفي كيفية استعمالها الأغراض السياسية. فبحسب المنظّر البروسي كلوزفيتز، تبدو الحرب وكأنها صراع ارادات بين المتصارعين. أي هي الوسيلة لجعل الآخر، الخصم، العدو ينفذ إرادتنا. لا تشذّ الولاياتالمتحدة عن الامبراطوريات التي سبقتها في ما خصّ استعمال القوة العسكرية. فبين الفترة الممتدة من العام 1798 الى العام 1993، استعملت أميركا عسكرها ما يقارب ال234 مرة. واختلفت الأهداف وحجم القوى المستعملة بحسب الأوضاع. لكن أميركا لم تعلن الحرب بحسب الدستور اعلان الحرب هو من صلاحية الكونغرس إلا خمس مرات هي: عام 1812 ضد الانكليز، عام 1846 ضد المكسيك، عام 1898 ضد الإسبان، خلال الحرب الأولى عام 1917 ضد المانيا، وأخيراً في العام 1941 ضد كل من المانيا واليابان وايطاليا وفي أوقات مختلفة. ولم تسلم الدول العربية من هذه التدخلات، ففي العام 1805 كان التدخل ضد ليبيا، 1815 ضد الجزائر، 1903 في بيروت لحماية القنصلية، 1904 في المغرب، 1956 لإجلاء الرعايا الأميركيين من مصر، 1958 و1976 في لبنان، 1981 ضد ليبيا، 1982 في سيناءولبنان، 1983 في مصر، 1984 في الخليج، 1986 ضد ليبيا، 1987 في الخليج، 1989 في ليبيا، 1990 - 1991 في الكويت، 1993 في العراق... الخ. كانت أميركا في كل هذه الحروب منتصرة وذلك كما توقع أب الدستور الأميركي الرئيس جفرسون. لكن الأسباب الحقيقية للنصر الأميركي الدائم لا تعود الى استراتيجية متفوقة تعتمدها ضد خصومها. بل قد يكون السبب الحقيقي في الامكانات الضخمة واللوجستية اللامحدودة التي تستخدمها أميركا ضد أعدائها. فهي تقوم على غمر العدو Overwhelm واغراقه بما لا يستطيع تحمّله، الأمر الذي يؤدي الى استسلامه. وقد تدخل قنبلتا هيروشيما واليابان في هذا الاطار. كيف قاتلت أميركا حروبها الحديثة؟ يعتبر القصف الاستراتيجي الذي اعتمدته أميركا في الحرب العالمية الثانية ضد كل من المانيا واليابان، نمطاً ثابتاً في العقل العسكري الأميركي. يهدف هذا القصف الى ضرب مراكز الثقل العدوّة Center of Gravity المتمثلة في مراكز القيادة، البنى التحتية، الاتصالات، مراكز الانتاج العسكري... الخ. وذلك بهدف تحقيق الشلل الاستراتيجي العام للبلد العدو، تحضيراً لانهائه. وكان المفكر العسكري البروسي كلوزفيتز هو الذي عالج موضوع مركز الثقل في كتابه الشهير "فن الحرب". وما يثبت استمرار عقلية الحرب الثانية Mindset في الفكر العسكري الأميركي، هو التناقض الدائم بين العسكر والسياسيين في كيفية ادارة حروبهم وانهائها. فخلال الحرب الكورية اختلف الرئيس ترومان مع ماك آرثر، فأقيل الأخير لأنه أراد استعمال النووي ضد الصين التي تدخلت في الحرب الكورية. وتظهر هذه الحرب أول فشل مهم على الصعيد الاستخباراتي، إذ استطاعت الصين ادخال ما يقارب 250 ألف مقاتل تحت جنح الظلام الى كوريا الشمالية، فأنزلوا في الجيش الأميركي ما يقارب 35 ألف قتيل. بعد الحرب الكورية أتت حرب فيتنام وكان الاختلاف تاماً بين العسكر والسياسيين حول كيفية ادارة الحرب. العسكر يريد سلطة أكبر لاستعمال قوته كاملة، بينما الرئيس جونسون كان يتدخل على الصعيد التكتيكي محدداً أهداف القصف. في الأزمة الكوبية، طلب العسكر مباشرة غزو الجزيرة بعد قصفها بالطيران على غرار ما حصل في الحرب الثانية، ولكن حكمة الرئيس كينيدي ووعيه الأزمة أديا الى حلّ مشرّف للبلدين. في حرب الخليج بقيت العقلية هي هي. قصف اهداف استراتيجية عراقية عبر حملة جوية أدت الى شلّه. وأيضاً في هذه الحرب كان هناك اختلاف بين السياسة والعسكر حين أراد شوارزكوبف الدخول الى بغداد لكن بوش الأب رفض ذلك. في حرب يوغسلافيا تكررت العملية بالقصف الجوي، من دون الحرب الأرضية البرية. لكنه يقال ان سبب استسلام ميلوسوفيتش هو التهديد الذي تلقاه بأن الجيش البري للناتو هو في طريقه لدخول بلاده. لكن الثابت والمشترك في هذه الحروب هو عجز القوة الجوية عن حسم الحرب نهائياً، إذ كان الأمر يتطلب دائماً عملية برية. أين العقل الأميركي الآن في شقيه السياسي والعسكري من احداث 11 أيلول سبتمبر الارهابية؟ انها الحرب "العالمية الثالثة" على "العالم الحرّ" الديموقراطي. انها الحرب على "القيم الأخلاقية". انها حرب الشر ضد الخير. وسوف ننتصر على القوى الشيطانية، ونقوم من تحت الأنقاض لنقضي على الإرهاب. انها سيناريو للحروب المستقبلية. انه اعلان حرب على الولاياتالمتحدة. هذه الشعارات وغيرها أطلقت بعد الحادث الارهابي بهدف رفع المعنويات أولاً، ورسم صورة المخاطر التي تهدّد العالم الحر ثانياً. منهم من طلب اعلان الحرب للمرة السادسة. لكن السؤال يبقى ضد من؟ فهل الارهاب هو المقصود؟ ويبقى السؤال في كيفية تعريف الارهاب، وفي كيفية ادراكه Perceived بطرق مختلفة وذلك بحسب الانتماءات الجغرافية، الحضارية، الايديولوجية... الخ. فهل تعد مقاومة الاحتلال ارهاباً؟ وماذا عن الارهاب الذي تعتمده الدول المُعترف بها في الأممالمتحدة؟ ماذا عن الذين كانوا صانعين لأركان هذا الارهاب؟ ماذا عن ارهاب العرب والمسلمين الآن في أميركا؟ أسئلة لا جواب عنها في الوقت الحاضر لأنها تستلزم صفاء ذهنياً غير متوافر الآن. لكن الأكيد انه ليس كما عرفناه، وهو لن يكون كذلك حتى ولو خرج منتصراً من الحرب التي يُعدّها، وذلك لأن تاريخ صعود الامبراطوريات وانهيارها تحدّده محطات فاصلة، غالباً ما تكون معارك عسكرية. فالخاسر يسقط كما حدث مع هنيبعل، والمنتصر يصعد كما فعلت روما ليكتب التاريخ بقلمه الخاص. لا تشذُّ معركة 11 أيلول عن سابقاتها، لكنها من نوع جديد وتتمثل بعدو غير منظور. الرد الاميركي ويبقى السؤال كيف ستردّ أميركا؟ من خلال ما سمعناه من التصريحات الرسمية للإدارة الأميركية، يمكننا ان نستنتج ملامح خطة تعدُّ في ابعاد ثلاثة هي: 1 - البعد السياسي: تهدف أميركا الى تأليب العالم ضد العدو الجديد، وذلك عبر رسمه خطراً يهدّد الكلّ، وخصوصاً العالم الغربي. وفعلاً كان التجاوب ايجابياً من أوروبا وروسيا والصين. فالعدو مشترك بين هذه الأطراف، ألا وهو "الأصولية الإسلامية". تهدف أميركا أيضاً الى خلق الأحلاف الدولية والاقليمية للحرب المقبلة، فيكون لكل عضو مهمة محددة في اقليمه، قد تكون عسكرية، استخباراتية، أو حتى مالية. وهي بدأت الطلب والتنسيق مع باكستان المجاورة لأفغانستان. وقد تعمد الولاياتالمتحدة الى استصدار قرار من مجلس الأمن لترتيب الآلية والشرعية القانونية الدولية التي تبرر ما قد يحدث مستقبلاً، وتحديداً على الصعيد العسكري. 2 - البعد الإعلامي: الرأي العام يُصنع كما يقال. فللمرة الأولى بعد "بيرل هاربر" تتوحد أميركا وراء رئيسها المطالب حالياً بإظهار براعته. فالفاجعة تبرر كل شيء، والنفوس مشحونة ومملوءة برغبة الانتقام. ويبدو ان التركيز الإعلامي خصوصاً الأميركي ينصب على أسامة بن لادن ومن يؤويه ويُساعده. وتبدو أفغانستان المسرح المقبل لأية عملية عسكرية محتملة. فالمتهم الأول له سوابق مع أميركا، فهو متهم بأنه وراء تفجير مركز التجارة العالمي عام 1993، وكذلك بتفجير السفارات الأميركية في نيروبيكينيا عام 1996. والنمط الانتحاري المتبع هو نمطه وأسلوبه. إذاً النموذج الذهني Stereotype، والقلوب والأذهان متفتحة لقبوله كعدو محتمل ولا يبقى سوى الانقضاض للاجهاز عليه. والسؤال الأساس يبقى في كيفية اصدار الاتهامات، وفي كيفية التأكد من صحتها، ومن صحة الدلائل التي بُني عليها القرار الاتهامي. فلو سلمنا جدلاً ان العملية من تنفيذ داخلي أميركي بحت على غرار اوكلاهوما، فهل ستتراجع الولاياتالمتحدة عن الاتهامات التي أطلقتها خلال الأيام الماضية، وهل تستطيع تحمل الاحراج العالمي؟ ام ان القرار صدر وهو مبرم لا رجوع عنه؟ 3 - البعد العسكري: ينقسم البُعد العسكري الى شقين أساسين، الأول يهدف الى تحقيق أهداف في المدى الآني. أما الشق الثاني، فهو في المديين المتوسط والبعيد، لكنه مكمّل للأول. فماذا عنهما؟ الشق الأول: يقوم على عملية عسكرية تقليدية. لماذا تقليدية؟ الجواب عن هذا، لأن الولاياتالمتحدة بحاجة ملحة وحيوية حالياً الى تسجيل نصر ملموس، ضد عدو معروف ومنظور يمكن الاشارة اليه. وهي بحاجة الى استيعاب الصدمة الداخلية وبسرعة، وتحتاج أيضاً الى استرداد الهيبة المفقودة. فكيف يُضرب رمز القوة العسكرية الأول في العالم والمتمثل بالبنتاغون؟ وللولايات المتحدة سوابق في هذا الأمر، فيبدو غزو غرانادا أيام رونالد ريغان بعد الفشل في لبنان خير دليل على ذلك. لكن العملية المرتقبة، لن تكون تقليدية وعن بُعد، كما كان يحصل مع الرئيس كلينتون عندما أمر بالقصف الصاروخي لمخيمات بن لادن ومصنع الأدوية في الخرطوم. فهي ستكون عملية بكل ما للكلمة من معنى. سوف تكون حرباً مصغّرة، ومحدودة Miniature limited War. يتبع هذا الشق ما تم تحضيره في البُعد السياسي المذكور أعلاه. فتحدد الأهداف العسكرية، وبعدها تكوَّن القوة العسكرية بمختلف أقسامها: جواً، بحراً، فضاء وبراً Force Structure. وفعلاً بدأ وزير الدفاع الأميركي رامسفيلد باستدعاء الاحتياط كما ينص الدستور الأميركي. بعد تحقيق الأهداف العسكرية، يتم وزنها سياسياً فإذا ما كانت كافية، تعمد أميركا الى اتباع عملية انهاء الحرب War Termination Process. تتدرّج العملية العسكرية كالآتي: عزل أفغانستان عن العالم الخارجي، خصوصاً على صعيد الاتصالات. تحديد مراكز الثقل. تأمين السيطرة والتفوق الجويين. انزال القوات الخاصة في الأماكن الحيوية. البدء كما تعوّدنا بحملة قصف جوية كبيرة لتحقيق الشلل الاستراتيجي. بعدها يأتي الإطباق البري العسكري. بعد النجاح المحتمل، الانسحاب الفوري. تأتي بعدها مرحلة استغلال النصر، في مختلف أبعاده خصوصاً الإعلامية في شقّها الداخلي. قوى التحالف يبقى السؤال من سينفذ هذه العملية. هل الولاياتالمتحدة منفردة، أو من خلال تحالف على غرار ما حصل في حرب الخليج الثانية؟ هل ستكون اسرائيل من ضمن هذا التحالف، بعد أن حُرمت حق المشاركة في الحرب ضد العراق؟ هل ستشارك بعض الدول العربية وهذا مرجح ضمن التحالف، أم سيكون لكل منها دور معيّن؟ هل ستشارك الصين؟ ماذا عن روسيا؟ كلها أسئلة بحاجة الى وقت للإجابة عنها. وهنا لا بد من طرح السؤال الحيوي الآتي: ماذا لو كان لدى بن لادن أسلحة دفاع؟ ماذا لو كان هناك أسلحة من هذا النوع مخبّأة في بعض الدول الغربية، وجاهزة للتفجير عند الحالات الطارئة؟ فماذا سيكون عليه الردّ آنذاك؟ فهل ستستعمل أميركا أسلحة الدمار أيضاً لتتحقق نبوءة نوستراداموس؟ الشق الثاني: وهو الشق الذي يكمل الأول ويتبعه في المديين القريب والبعيد. وهو الشق الذي سيتكفل باستئصال التركيبة الارهابية، المتمثلة بالخلايا والتنظيمات المتوزعة في كل أرجاء العالم. وتقوم هذه العملية على التكافل والتضامن بين كل الدول المعنية، خصوصاً في المجال الاستخباراتي. فقد يُنشأ لذلك أجهزة متعددة الجنسية برئاسة الولاياتالمتحدة، مهمتها رصد النشاطات الارهابية وأماكنها بهدف ضربها، لدرء خطرها. وسوف تعاقب أية دولة تؤوي أو تساعد أياً من الارهابيين. ولكن الخطر يبقى، وكما ذكرنا في سياق المقال، بأن يُؤخذ البريء بجريرة الارهابي، وذلك عند الخطأ في تحديد أو توصيف هذا النوع من العمل الارهابي، فيبدو مثلاً الطفل الشهيد محمد الدرة ارهابياً وشارون بطلاً. * كاتب لبناني وعميد ركن متقاعد.