تبدو الالفية الثالثة صورة منقّحة عن سابقتها، المتغيرات شكلية، أما الجوهر فثابت وهذا يعود الى ديمومة الطبيعة البشرية. ويخطئ من يعتقد انه يمكن رسم الخطوط في مسيرة التاريخ التي لا نعرف بداية لها، وأين سوف تنتهي. فالتاريخ عملية تراكمية. من هنا يبدو ان ما حصل في الالفية الثانية، مستمرٌ في الثالثة، خصوصاً لجهة العنف كوسيلة اساسية لحل الخلافات. ويبدو ايضاً ان الدروس المستقاة من الحروب الدموية التي خاضتها الإمبراطوريات، خصوصاً الغربية الحرب العالمية الاولى والثانية، لم تفعل فعلها في تحسين الاداء السياسي الذي اخضع في الديموقراطيات الحديثة العسكر للسياسة، تيمناً بمقولة كلوزفيتز: "الحرب هي السياسة بوسائل أخرى". فعلى سبيل المثال، بدت الحرب الاولى بالنسبة للمنظّر الإنكليزي ليدل هارت، حرباً عبثية. لأنها اهملت عنصر المناورة معتمدة الصدام المباشر، كاستراتيجية اساسية لتجريد العدو من سلاحه طريقاً للنصر. مما ادى الى مجازر الخنادق. فما كان منه إلا استراتيجية "الاقتراب غير المباشر"، معتمداً على تجارب القادة العظام في التاريخ. وبدت ايضاً استراتيجية الحلفاء في الحرب الثانية، استراتيجية ذات بعدٍ واحد من دون حلول بديلة، فكان "الاستسلام غير المشروط" العنوان الرئيسي لها مما ابطل مفعول الديبلوماسية. وهذا ما جعل أوروبا الشرقية حمراء، في حماية الدب الروسي. لذلك يبدو مفهوم الاستراتيجية كمفهوم اساسياً، في خضم الصراعات وعلى كافة المستويات، فهو يشكل بطريقة ما آلية التنفيذ. وشبّهه البعض أي المفهوم بالنجم القطبي، الذي لا يمكن لمسه وتحسسه، لكنه على الاقل يدلنا على اتجاه الشمال الجغرافي. ولم يصدف في التاريخ ان تفردت إمبراطورية بالسيطرة على العالم. وإذا حصل ذلك فهو وضع شاذ لا يؤخذ في الاعتبار ضمن مسيرة التاريخ الطويلة. فروما مثلاً، وبعد إنهائها قرطاجة، كوّنت العالم الروماني ذا البعد الواحد. لكنها بقيت ضمن مساحة جغرافية محدودة، لا تضم الشرق الاقصى مثلاً الصين. لذلك يمكننا ان نطلق على هذه الفترة: فترة "نهاية الاستراتيجية". لكن لماذا؟ المقصود بنهاية الاستراتيجية، هو عندما تكون ذات بُعدٍ واحد. اي من دون استراتيجية مضادة مقابلة، تتفاعل معها، تقاومها، مما يؤدّي الى التوازن وهنا لا بد من التفريق بين المفهوم الازلي النابع من الطبيعة البشرية، وبين القيمة العملية الناتجة عن التطبيق. فالدفاع مثلاً يأخذ معناه من الهجوم، والعكس صحيح، وعلاقة جدلية بينهما. واستكمالاً لهذا الطرح، يمكننا ان نشبه الوضع العالمي الحالي ذا البعد الواحد بالوضع الروماني وإطلاق شعار "نهاية الاستراتيجية". لكن كيف؟ بعد الحرب العالمية الثانية، ظهر العملاقان: الاميركي والروسي. وانقسم العالم الى معسكرين، شيوعي ورأسمالي. وتغيّر وجه الحرب وشكلها، فمن الحروب الكبرى، الى المحدودة. ويعود سبب ذلك الى الرعب النووي. وفي ظل هذا الوضع ظهرت استراتيجيتان: أميركية، اعتمدت على الاحتواء للمد الشيوعي، وذلك عبر الوجود العسكري من اليابان، وحتى الخليج. في المقابل كان هناك استراتيجية مضادة روسية، هدفها تثوير العالم الثالث، ونشر المفاهيم الثورية. وأدى هذا الامر الى توازن على الصعيد العالمي، حيث وعى كل طرف حدود المناورة المسموح بها. وفي ظل هذا الوضع، استطاع الضعيف ان يجد مكاناً له خاصة إذا كان وضعه الجغرافي، وثرواته يجعلانه ذا ثقل استراتيجي الكويت مثلاً. بعد سقوط الدب الروسي، تفردّت الولاياتالمتحدة بمصير العالم، ضمناً الشرق الاقصى، وذلك بعكس ما كان يحصل قديماً. ويعود سبب هذه السيطرة الى التطور التكنولوجي الذي جعل العالم "قرية صغيرة". وكانت اول ملامح هذا التفرد الحرب التي جرت في الخليج. الحرب التي قلبت كل المقاييس والمفاهيم العسكرية، ما جعل الروس وغيرهم يعيدون النظر بقواهم وعقائدهم الاستراتيجية. تلا حرب الخليج حرب كوسوفو، حيث فرض سلاح الجو لأول مرة في التاريخ الحل السياسي دون هجوم ارضي، بعكس ما كان يحصل في الحروب السابقة التقليدية. ماذا يستنتج من هاتين الحربين؟ يستنتج الآتي: تفرد اميركا كاستراتيجية وحيدة، نهاية الاستراتيجية عملياً وليس كمفهوم، تبدل صورة ومفهوم الحرب من الحروب الميكانيكية الى التكنولوجية، عودة مفهوم الإبادة لتحقيق الاهداف السياسية، مما يعيد الى الذاكرة مقولة كلوزفيتز حول تجريد العدو من سلاحه وضرب مراكز ثقله. واقتناع واستمرار اميركا باتباع سياسة الاحتواء لروسيا لأسباب عديدة منها: اعتبار روسيا الثقب الاسود تيمناً بما كتبه بريجنسكي في كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى". فهي غير مستقرة سياسياً الى جانب امتلاكها اكبر ترسانة نووية، ما قد يؤدي في حال الفوضى السياسية الداخلية الى: تهديد اوروبا، انتشار اسلحة الدمار الشامل. أين روسيا من كل هذا؟ تبدو روسيا في ظل مشاكلها المتعددة، كالدب الجريح الذي يحاول استعادة توازنه. فهي تحاول اقتناص اية فرصة لاستعادة دورها وحلمها الامبراطوري. وذلك كما حصل في كوسوفو عندما ادخلت قواتها من دون استئذان احد. ويُظهر هذا التصرف النية الروسية لمحاولة رسم استراتيجية معينة مضادة تطبقها على الاقل في محيطها المباشر. وإلا فما معنى إعلانها عن استراتيجيتها في ما خص الامن القومي الروسي، التي تعتمد اكثر ما تعتمد على السلاح النووي. ماذا عن الشيشان؟ لا أريد الدخول هنا في عملية الارقام، كعدد القتلى، او التكتيك المستعمل في المعارك، او السؤال عن معنى دخول الروس الى غروزني. لكن الذي اريده هو وضع الحرب الدائرة ضمن الصورة التي رسمتها في سياق المقال، بهدف الاستنتاج لاحقاً ان الاستراتيجية انتهت ايضاً من الجهة العملية في الشيشان. لكن نهايتها في غروزني هي في مصاف اقل منها في كوسوفو. ويعود هذا الامر الى حجم اللاعبين، فالريادة الآن هي للعم سام. ويبدو في هذا الإطار "غض النظر" الاميركي طبيعياً، لأن روسيا هي الخاسر مهما كانت النتيجة. وهي اميركا في وضع الانتظار لمعرفة نتيجة المعركة بعد الحسم، وبسبب قرب الانتخابات الروسية بعد تنحي يلتسين. ما هي اهمية الشيشان؟ النفط، النفط، ثم النفط. إذ تعتبر القوقاز خصوصاً اذربيجان، اهم ثاني مصدر للطاقة في العالم بعد منطقة الشرق الاوسط. ويبدو ايضاً ان كل المشاريع المستقبلية لمد انابيب النفط، لا تمر في روسيا بل تتجنبها، مما يهمشها ويبعدها بالتالي عن قدرة القرار. فعلى سبيل المثال، تبدو اهمية غروزني في انها ممر لأنبوب نفطٍ ينطلق من اذربيجان وصولاً الى البحر الاسود. وتخدم الحرب الدائرة ايضاً الروس في الامور الآتية: تهريب رؤوس الاموال الغربية عن القوقاز وإفهام الكل ان القرار يمر في موسكو، او ان بوابة القوقاز هي عبر الكرملين، وقف ضخ النفط من القوقاز، تذكير الدول القوقازية بانتمائها الجغرافي، واعتبار الموضوع برمته، موضوع الكرامة الروسية كما صرح بوتين أخيراً. ويبدو ايضاً ان لدى الروس اسلحة متعددة مسلطة فوق رؤوس الدول القوقازية، ترتكز على استغلال الفوارق العرقية. ففي جورجيا، تساعد الابخاز للانفصال. وفي اذربيجان، تساعد الأرمن. لذلك، وبعيداً عن الارقام، وفي ظل الجحيم الذي ضرب غروزني جواً وبراً واحتلالاً، تبدو الإبادة السبيل الوحيد لتحقيق النصر في ظل غياب تام للديبلوماسية وهذا ما يعيدنا الى كلوزفيتز ويثبت نظريته. لكن الامر يبقى في عهدة التاريخ، وفي حليب الامهات المرضعات الشيشانيات عن نوع الحقد الذي سيزرعنه في قلوب اطفالهن تحضيراً لصراع مستقبلي. كذلك يبدو اننا سوف نشهد، وحتى إشعار آخر، استمراراً للتاريخ. وليس كما نادى فوكوياما في كتابه عن نهاية التاريخ. لكننا في المقابل سوف ننعي الاستراتيجية في الشيشان كقيمة عملية لإنتفاء البعد الآخر استراتيجية ثانية، آملين من التاريخ المستمر ان يفرز استراتيجيات متعددة، تتقابل وتتصادم مع بعضها البعض، ما يتيح للضعيف هامشاً مقبولاً من حرية العمل. * عميد ركن متقاعد في الجيش اللبناني، من مؤلفاته "صانعو الاستراتيجية".