برويز مشرّف، الجنرال الرئيس الاكثر براغماتية بين رؤساء العالم. سياسته الواقعية شفافة جداً. أعلن للعالم ولشعب باكستان الظروف والأسباب الموضوعية لوقوفه الى جانب الولاياتالمتحدة في حربها على "الارهاب" الموجود في عمقه الاستراتيجي افغانستان. شكل هذا القرار تحولاً استراتيجياً جذرياً في موقف باكستان تجاه الحركات الاصولية، خصوصاً ضد طالبان، التي تؤوي العدو الاول للعم سام: تنظيم القاعدة. فهو يعتبر في معنى آخر تخلياً عن الذات، والانفصال الكلي عن القاعدة الاسلامية الكبرى التي يتألف منها المجتمع الباكستاني. لكن للقائد حساباته الاستراتيجية البعيدة المدى. فهو اجرى حتماً توازناً بين الارباح والخسائر، قبل اتخاذ قراره. وبهدف استكمال البعد العملي لرؤيته المستقبلية، عمد الى تأمين الجهازية المؤيدة لقراراته عبر تغيير جذري في القيادات العسكرية، خصوصاً الشق الاستخباراتي. كما عمد الى تطويق الخطاب الأصولي في الشارع الباكستاني. واتخذ موقفاً متأرجحاً على الصعيد الخارجي بين التأييد للعملية العسكرية ضد الارهاب، وبين ضرورة إنهائها بسرعة، وتجنّب وقوع خسائر بين الأبرياء، مع التشديد على ضرورة الأخذ في الاعتبار مصالح باكستان عند تشكيل اي حكومة مستقبلية في افغانستان. فهو حتماً اي الجنرال لا يريد ان يكون مطوقاً من الهند وأفغانستان. ما هي اهداف الجنرال؟ بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، تراجعت اهمية باكستان الاستراتيجية في الحسابات الاميركية. وذلك بسبب تبدل الخريطة الجيوستراتيجية، وتبدل التركيبة العالمية لتوزيع القوى، الأمر الذي أدى الى سقوط النظام العالمي الذي كان قائماً من دون ايجاد بديل له في ظل تفرد أميركي واضح. في ظل هذا الوضع، تبدلت الحسابات الاستراتيجية الاميركية. فهي اصبحت القوة المهيمنة، التي تسعى الى المحافظة على الاستقرار العالمي، وذلك عبر الردع في ابعاده كافة. وهي حتماً لا تريد، او لا تسمح بصعود أي قوة منافسة لها، فتسعى نتيجة لذلك الى اعتماد "استراتيجية الاستباق"، التي تقوم على المعادلة المؤلفة من "الردع والاحتواء". فينتج من هذا السلوك ما يسمى بمراحل ادارة الازمات من دون حلها. إذ يدفع الضعيف غالباً في هذا الوضع الثمن الأغلى الفلسطينيون مثلاً. كما تسعى الدولة المهيمنة الى تجنب حرب شاملة على غرار ما حدث في الحربين الكبريين، لأن نتيجة هذه الحرب هي حتماً ظهور قوى منافسة، وهذا امر غير مرغوب به. نتيجة لهذا الوضع، بدأت مراكز الدراسات الاستراتيجية في اميركا العمل على رسم خطوط أو ملامح "استراتيجية الاستباق" المذكورة. فنجمت عن ذلك الأمور الآتية: لم يعد الاتحاد السوفياتي يشكل خطراً على الولاياتالمتحدة، سوف تكون آسيا المسرح المستقبلي للصراع، الصين هي المنافس الاستراتيجي المستقبلي، لم تعد وسائل أو استراتيجيات "الحرب الباردة" صالحة للمرحلة الجديدة، وأصبحت الدول المارقة هي الخطر المحدّق على المدى القريب، خصوصاً حين تسعى للحصول على اسلحة الدمار الشامل. ونتجت من هذه الدراسات ضرورة بناء الدرع الصاروخي لحماية الأرض الاميركية، فشكّلت ضربة 11 ايلول سبتمبر منعطفاً كبيراً في الوعي الأمني الاميركي، وأدى ذلك ظهور عقيدة بوش الجديدة، مع سلوك اميركي يعتمد اكثر ما يعتمد على ضرب أسس النظام العالمي السابق عبر الخروج، او رفض المعاهدات التي تقيّد حرية الحركة الاميركية، واعتماد ديبلوماسية متصلّبة، تسبقها القوة العسكرية في غالبية الأحيان. لا تشكل باكستان في هذه الصورة الكبرى اي فائدة للولايات المتحدة. فهي بعيدة وغير مؤثرة في الملعب الآسيوي، خصوصاً اذا ما تعلق الوضع باحتواء الصين. لا بل تعتبر باكستان خطراً على السلم العالمي لأنها دولة اسلامية نووية، غير ثابتة سياسياً ولا يتكل عليها. وهي اخطر اذا ما التفتت الى بُعدها الديني المتمثل بالعالم الاسلامي لتعطيه السر النووي مثلاً. إذاً، شكّل يوم 11 ايلول فرصة استراتيجية للجنرال للعودة الى صفوف اللاعبين الاساسيين. فهو يريد حجز دور له في اللعبة المستقبلية. كما لا يريد ان يُستفرد فيستمر الكابوس الهندي ماثلاً فوق رأسه، خصوصاً إذا ما كان هذا الكابوس مدعوماً من النسر الأميركي. كما ان استمراره في الحكم يتعلق بانجازاته الداخلية وتحديداً في شقّها الاقتصادي. والأهم من ذلك، فهو لا يريد ان يصب العالم غضبه كله على باكستان في حال رفض المساعدة في الحرب على الارهاب، الامر الذي قد يؤدي الى خسارة النووي، وبالتالي الى انهيار كيان الدولة. على رغم التفاوت الكبير في موازين القوى بين نظام طالبان وأميركا، لم يتوقع احد ان تكون النتيجة سريعة الى هذا الحد. حتى ان النتيجة كانت مفاجئة على صعيد الخسائر البشرية في صفوف الأميركيين. وراح البعض يبشّر بالنموذج الذي اعتمد في الحرب ضد طالبان، وكأنه صالح ضد دول اخرى كالعراق. لكنهم نسوا او تناسوا ان الحرب هي ميدان مجهول، وما يصلح في افغانستان لا يصلح في مكان آخر. على ماذا قام النموذج الجديد؟ اولاً، سيطرة جوية مطلقة، مع دعم ناري جوي مستديم. ثانياً، استعمال القوات الخاصة في اماكن مهمة، لمنع العدو من الافلات، وذلك عبر قطع خطوط مواصلاته وخطوط تراجعه. والطلب في الوقت نفسه القصف الجوي، وتوجيهه عبر اللايزر. ثالثاً، استعمال قوات محلية زبائن، للقيام بالجهد الرئيس. رابعاً، استعمال الطائرات من دون طيار للاستطلاع، والقصف في بعض الأحيان، الأمر الذي قصّر كثيراً حلقة اتخاذ القرار والمتمثلة بالمراحل الآتية: الرصد، التحليل، اتخاذ القرار العملاني والتنفيذ، ومن ثم تقويم الضرر. لكن النصر الأميركي يبقى منقوصاً ما لم يتم القبض، او قتل كل من بن لادن والملا عمر. وهذا امر لم يتحقق حتى الآن. لكن الادارة الاميركية تتابع عمليات البحث عنهما، في الوقت نفسه الذي تسعى الى حرمانهما من الملاذ. لذلك هي تستبق امر هربهما الى اي بلد عبر التهديد المسبق مثل الذي صدر عن مساعد وزير الدفاع بول وولفوفيتز عندما قال: "لا اعتقد ان احداً يجرؤ على إيواء الارهابيين، فالعالم رأى ما حل بأفغانستان". كما تعمد البحرية الاميركية الى السيطرة على البحار المحيطة لمنع تسلل عناصر القاعدة. إذاً أين الملا عمر، وبن لادن؟ يدور الحديث عن وجودهما في باكستان. فهي الدولة الملاذ للمجاهدين إبان الحرب ضد السوفيات. وهي متعاطفة كثيراً على الصعيد الشعبي مع طالبان، الامر الذي قد يسهّل اللجوء. كما ان هناك صعوبة جغرافية تضاريس وعرة في ضبط الحدود بين البلدين 1500 ميل. في هذا الوضع، تبدو اميركا مجبرة على منع الملاذ القريب عن الارهابيين، وذلك قبل البدء بالدوائر البعيدة الصومال، اليمن ... الخ، الأمر الذي يفرض ضغوطاً كبيرة على مشرّف. فهو مجبر على مطاردة الارهابيين، وإلا قامت بذلك الولاياتالمتحدة. كيف يبدو وضع الجنرال في ظل الكثير من الحوادث التي وقعت، وكلها لا تصب في مصلحة باكستان؟ أولاً، شكّل اتخاذ الجنرال قراره الوقوف الى جانب الولاياتالمتحدة، خسارته الرأي العام الباكستاني، وتململاً في صفوف العسكر. لكنه راهن على المكاسب المستقبلية التي تحدثنا عنها. ثانياً، على رغم مساعدته اميركا، أتت الحكومة الانتقالية الافغانية عكس ما كان يتمنى. فهي بغالبيتها لمصلحة "تحالف الشمال"، وعلى حساب قبائل البشتون، وهي مقرّبة من عدوّه اللدود الهند. ثالثاً، شكّل رفض الولاياتالمتحدة تسليم الطائرات أف - 16 العشرين لباكستان، التي دفعت ثمنها، ضربة للجنرال. وعزت اميركا سبب هذا الرفض، الى اعتماد باكستان هذا النوع من الطائرات وسيلة رئيسة للقصف النووي في حربها مع الهند. كما ان اميركا لم تمنع اسرائيل من بيع الهند طائرات الاستطلاع "فالكون". رابعاً، شكّل هجوم بعض الأصوليين من كشمير على البرلمان الهندي، ضربة ثانية للجنرال. فهم منتسبون الى جماعات تدعمها باكستان وتدرّبها للقتال في المنطقة المتنازع عليها. فهو إما يؤيد العملية، او لا سيطرة لديه على هذه المجموعات. وفي الحالين هو الخاسر الأكبر. وأفقدت هذه الحادثة الجنرال زمام المبادرة، ليصبح في موقع الدفاع. وشكلت فرصة فريدة للهند لاستعادة اميركا الى صفها. وقد يزداد وضع الجنرال سوءاً اذا ما قرر ضرب هذه المجموعات داخل باكستان، الأمر الذي يظهره ضعيفاً تجاه الموضوع الكشميري، او اذا ما قررت الهند الرد عسكرياً. خامساً، يبدو الموقف الأميركي الى جانب الهند، خصوصاً بعد ان وضع الرئيس بوش هذه المجموعات على لوائح الارهاب، الأمر الذي يفرض لاحقاً على الجنرال اتخاذ تدابير قاسية ضدها. إذاً، يبدو الجنرال محرجاً، وقد يدفع الثمن، أقله اطاحتها. وقد ينعكس هذا الوضع سلباً على كل باكستان. هل سيستسلم العسكري العنيد صاحب القرارات التاريخية والصعبة هكذا بسهولة، ام سيقاتل حتى النهاية؟ يبدو ان الجنرال، وللمرة الثانية الاولى قراره الوقوف مع اميركا على التوالي، وفي فترة لا تتجاوز الشهور الثلاثة، يقدم مستنداً على عمق حسّه الاستراتيجي، وعلى براغماتيته العالية التي عوّدنا عليها في السعي الى الخروج من المأزق. كيف حصل الأمر؟ أولاً، محاولة استيعاب النقمة الهندية، عبر السعي الى تشكيل لجنة تحقيق مشتركة، وعبر فصل المجموعة المنفذة في الهند عمن هم في كشمير، كونه يعتقد ان عمليات التحرير المشروعة يجب ألاّ توضع تحت خانة الارهاب. ثانياً، محاولة اللعب استراتيجياً في المنطقة الجغرافية الممتدة من باكستان الى الشرق الأقصى. فهو يعي تماماً اهمية الصراع الخفي القائم بين الصين وأميركا، ويحاول حجز مكان له في اللعبة. وهو يعرف تماماً اهمية الهند في استراتيجية اميركا لاحتواء الصين، وهو يعرف ان حجمه من الجهة الاميركية تكتيكي فقط. لكن النظر من المنظار الصيني قد يرفع من ترتيبه الى حليف استراتيجي. فالصراع الصيني - الهندي يستلزم تطويق الهند. فمن افضل من باكستان؟ وهو يعي بعمق ما تحاول الصين ان تفعله من نسج علاقات مع الدول المتاخمة للهند، بهدف استباق ما تخطط له كل من اميركا والهند تطويق التطويق. فقد زار الرئيس الصيني جيانغ زيمين 12 كانون الاول/ ديسمبر ماينمار بورما سابقاً، مع وعد بدعم اقتصادها بمئة مليون دولار في حقل الاستثمار. وربما تساعد الصين "الثوريين الماويين" في النيبال البلد المهم جداً للهند كونه يشكل عازلاً مع الصين. ثالثاً، اما مشرّف وبهدف ردع الهند، وتذكير اميركا بأهميته، ومحاولة استيعاب هذا الهجوم عليه، فقام بزيارة الصين لمدة اربعة ايام في 20 كانون الاول. فأميركا لم تفِ بوعودها، خصوصاً في الشق الاقتصادي، على رغم موقف مشرّف التاريخي والأساس لها في حربها على الارهاب. اما الصين فهي اكثر صدقية معه، فقد أنتجت ال50 سنة من العلاقات الثنائية ما يقارب البليون دولار من التبادل التجاري. كذلك الأمر وهبت الصين مبلغ 2،1 مليون دولار لباكستان مساعدة خلال شهر ايلول الماضي. في الختام، هناك جناح متشدد في الادارة الاميركية تقوم افكاره على الاستراتيجية الآتية: بدل اللعب على موازين القوى بين كل من الهند - باكستان، والعراق - إيران، وذلك بهدف الحفاظ على الاستقرار، يجب العمل على ضرب العراق حتى ولو أدى الأمر الى تقسيمه، والانفتاح التام على إيران وإعطائها دوراً اقليمياً مميزاً، الأمر الذي قد يبعدها من كل من الصين وروسيا، ويطوّق احلامها النووية. الى ذلك، ضرب باكستان كنظام غير قابل للعيش ايضاً، وتسليم المنطقة للهند كقوة اقليمية. والسؤال، ماذا عن النووي الباكستاني؟ الجواب هو في ما كتبه سيمور هيرش في مجلة "نيويوركر" عن التعاون الأميركي - الاسرائيلي للسيطرة على هذا النووي في حال انهيار النظام. فلننتظر. * كاتب لبناني، عميد ركن متقاعد.