صار من المألوف في دمشق أن نشاهد في مكان واحد، شابة محجبة ترتدي المعطف الطويل إلى جانب أخرى محجبة أيضاً، بمنديل على الرأس وترتدي بنطال جينز" إلى جوار أخريات، يرتدين ما خف لبسه من ملابس الصيف، بدءاً من التنورة القصيرة والشورت وانتهاء ب"تي شيرت" تكشف الخصر والكتفين. هذا المشهد الذي كان فيما مضى دليلاً صارخاً على تفاوتات المجتمع، وما زال" يبدو اليوم عادياً، وأصبح واحداً من مظاهر المجتمعات الشرقية التي تتنازعها رغبات عدة تتراوح بين الانفتاح على الحضارة الآتية من الخارج والسعي للإستحواذ على منتجاتها المادية والمعنوية، وبين الحفاظ على الهوية وبعض المظاهر التي تؤكد الخصوصية المحلية. الحجاب الذي كان في بداية القرن العشرين مثار جدل ونقاش حول تعارضه بل وتناقضه مع قضية تعليم المرأة وخروجها إلى سوق العمل، تحول اليوم ليصبح وسيلة لخروج المرأة من البيت. تغير مفهوم الحجاب من الانعزال خلف الجدران إلى غطاء للجسد أو للرأس فقط، وبات غطاء بواسطته، بإمكان المرأة الانطلاق خارج البيت والتحرك في العمل والشارع بكل حرية" وهو ما يبرر توجه شرائح واسعة من الشباب نحو المظاهر المحافظة والمتحفظة ليشكل لهم نوعاً من الحماية الاجتماعية، أو صيغة للتفاهم مع المحيط الذي ما زال يرفض المظاهر الطارئة والمستجدة على المجتمع، في الوقت نفسه الذي ينجذب فيه آخرون نحو مظاهر التحرر الاجتماعي والديني، المتمظهرة بالتخلص من ثقل الملابس التقليدية والعادات المحافظة. جهاد اللاذقاني شاب من أسرة متدينة لا يربط ارتداء الحجاب بالتدين بقدر ما يربطه بالتعبير عن الهوية المحافظة للمرأة المتمسكة بالتقاليد والحريصة على العادات المتعارف عليها اجتماعياً، وهو يحترم الحجاب ويرفض التعامل معه بمعنى الاحتجاب والامتناع عن الحياة العامة، وبرأيه أن المحجبة بإمكانها أن تفكر بحرية وتتصرف بسلوك تحرري بالمعنى الحقيقي لا الظاهري للكلمة وهي مرتدية الزي الإسلامي. هناك من يرى في الحجاب رد فعل على الانحلال الأخلاقي الذي راح يشكل ظاهرة بين الشباب، بينما يصوره فريق آخر على أنه سلوك نفعي يتيح فرصاً افضل للزواج، وتؤكد شريحة واسعة على الأسباب الاقتصادية كون الغالبية غير قادرة على تحمل أعباء تكاليف الموضة المتغيرة يومياً، وتتطلب من الشابات متابعتها، وتحيل قلة من الشباب ارتداء الحجاب إلى دوافع دينية. رهام طالبة أدب إنكليزي محجبة من أسرة مسلمة منفتحة تحترم الحجاب ولا تتقيد به، تقول: حتى العام الماضي لم اكن محجبة بل كنت على النقيض تماماً في طريقة ملابسي، كان شكلي يجذب الأنظار كثيراً كلمات إعجاب تختلط في بعض الأحيان بعبارات نابية كانت غالباً مزعجة، ثم أقنعني صديق لي اصبح في ما بعد خطيبي بارتداء الحجاب، لأنه لا يتحمل أن ينظر إليَّ رجل آخر ويغازلني في الشارع، وبالفعل كان الحجاب مصدر أمان لي وجعلني أكثر ارتياحاً في مواجهة الرجال، إضافة إلى أنني تخلصت من المظاهر الاستهلاكية الضاغطة على الفتاة غير المحجبة، مثلاً في ما مضى كنت ارغب بالسهر مع الأصدقاء في الأماكن العامة، أو لبس آخر صرعات الموضة مهما بدت غريبة، أليس هذا مكلفاً ؟! فعدا أن دخل أهلي لا يساعد على تلبية تسارع الموضة، كانت هناك معارضة من المجتمع والأهل" لقد كان ذلك النوع من التمرد مرهقاً وبلا معنى، كل ما يهدف إليه، كان نزراً ضئيلاً من المتعة السريعة الزوال، ومنذ أن تحجبت رحت أحظى باحترام المجتمع، وكذلك بثقة الأهل الذين عارضوا في البداية الحجاب لكنهم رضخوا واحترموا قراري، وهنا لا بد من المقارنة بين رد فعلهم على ارتداء ملابس صرعة وهو ما كانوا يعترضون عليه ويمنعوني بالقوة عنه، فاضطر للظهور أمامهم بملابس عادية ترضيهم، في حين كنت بعيداً من أنظارهم ألبس وأفعل ما أريد، وبين رد فعلهم المتوازن حيال الحجاب، فأبدوا معارضة في البداية لكنهم تقبلوه في ما بعد باحترام، وصاروا يتعاملون معي كفتاة ناضجة. في العقدين الأخيرين شكل ارتداء الحجاب من قبل بنات الأسر المسلمة المنفتحة ظاهرة في دمشق، وهي الظاهرة التي ما زال المجتمع الدمشقي يتعامل معها بتحفظ نظراً لقدسية الحجاب الذي يخشى الكثيرون عليه من الأهواء الطارئة الناجمة عن ردود أفعال اجتماعية، أو عن مؤثرات خارجية ترتبط بدوافع سياسية. فاتن طالبة علوم غير محجبة، تقول: عندما كنت في الثانوي رغبت بارتداء الحجاب لأن زميلات لي ارتدينه بدوافع دينية، أعجبت بهن إذ ظهرن لي فتيات ناضجات في سن مبكرة واعتقدت أن ارتدائي الحجاب سيجعلني أنضم إلى مجتمع الكبار. وتضيف: ربما كنت أريد أن أبدو كبيرة، لكن أبي محامٍ رفض أن اتخذ قراراً كهذا قبل إنهاء دراستي الجامعية خوفاً من تغيير سريع في رأيي في ما بعد، وقوله محفور بذاكرتي الحجاب ليس لعبة ربما كان والدي محقاً" اليوم لا أفكر بالحجاب، ربما أرتديه في المستقبل، هذا خاضع لاحتمالات عديدة، ومع أن أحد الشبان اشترط الحجاب عليَّ حتى يخطبني، فقد رفضت لما فيه من إكراه على شأن شخصي لا يمكن أن يتم إلا برغبة حرة، كما فعلت والدتي حين ارتدت الحجاب رغماً عن أبي وكل أفراد أسرتها. أدى انتشار الحجاب بين الشابات وبالأخص ضمن العائلات المنفتحة إلى نوع من التنازع بين القبول به كمظهر محافظ له حرمته، وبين السلوك المتحفظ تنعكس بعض آثاره على الأسرة، ولا بد للعائلة بكاملها من الانصياع له. ماجد طالب هندسة عارض تحجب أخته الصغرى لأنه ينظر إلى مسألة الحجاب كحال تؤثر على كل أفراد الأسرة فهو لا يقتنع أن يكون سلوكه متحرراً وحياته الاجتماعية منفتحة بينما أخواته محجبات، ويرى في ذلك تناقضاً وحجاباً يحد من نشاطه الاجتماعي وعلى تضاد من تفكيره التحرري الذي لا يمكن إلا أن يكون منسجماً مع مظهر أسرته بالكامل. يقول: كيف أصطحب أختي المحجبة إلى حفلات يكون فيها أصدقائي مع أخواتهن أو صديقاتهن السافرات، لا بد من أن مظهرنا بينهم سيكون نشازاً. المشكلة ذاتها عانتها سهير، عندما خُطبت أختها لشاب متدين فرض على أختها غطاء لكامل الجسم بما فيه الوجه واليدين وهي قبلت بقناعة ورضى، بل أنها كانت في غاية السعادة مما أدهش أسرتها، وأصبح تحجبها على هذه الشاكلة موضوع صراع طوال فترة الخطبة بين الأسرة وابنتها المحجبة. تقول سهير: كنا وأخواتي الأربعة نلبس الشورت والتنورة القصيرة فكيف سينظر الناس إلينا عندما يشاهدون أختي وهي مغطاة من قمة الرأس حتى أصابع القدمين، لقد رفضنا جميعنا تغيير طريقة ملابسنا وأسلوب حياتنا، وفرضنا عليها وعلى خطيبها أن تلبس منديلاً عادياً ريثما تنتقل إلى بيت الزوجية لترتدي هناك ما تشاء. عزيزة سبيني صحافية سفور، تقول: "أختي ارتدت الحجاب في الجامعة بتأثير من زميلاتها وأظهرت قناعة تامة بهذا الحجاب وقد احترمنا رأيها وقرارها على رغم معارضتنا لها بداية، اليوم اشعر أن أختي أكثر ثقة بنفسها كما أنها أقدر مني على التعبير عن آرائها وأفكارها" فهي كما تصف شعورها، حرة والحجاب ساعدها على جعل الرجال عامة يحترمونها ولا يرون في لطافتها دعوة أنثوية وإنما لباقة عملية مطلوبة ضمن مجال عملها في العلاقات العامة، ويفهمون أي تصرف أو كلمة ضمن حدودها المنطقية، في حين ما زلت كشابة في مجتمع ذكوري أشكو من الفهم الخاطئ لتصرفات عفوية يقرأها بعض الرجال كرسالة تعبر عن ابتذال المرأة لنفسها". تصف غنوة تصرفات زملاء لها في الجامعة حيالها كفتاة محجبة "انهم يتعاملون معي كمخلوق قادم من العصر الحجري، فهم إذا اتفقوا على القيام بنزهة مشتركة لا يدعونني للذهاب معهم كأمر مفروغ منه كوني محجبة، وغالباً ما كانوا يُفاجأون بآرائي وحرية حركتي ومشاركتي لهم في معظم نشاطاتهم، فأنا أتصرف بحرية وعفوية، ولا أجد مبرراً لاعتبار الحجاب دليلاً مسبقاً على عدم الرغبة في المشاركة في النشاط الجامعي أو الاجتماعي". من جانب آخر، تعاني لينا أدب عربي من زميلاتها المحجبات، فهي لا تقبل أبداً مصادرة حريتها في ارتداء ما يعجبها من الملابس مهما بدت متطرفة، كما أنها ترفض الحجاب لما يوحي "برأيها" من تخلف، وغالبية مشكلاتها في الجامعة مع البنات المحجبات اللواتي لا يكففن عن التغامز عليها وعلى ملابسها. تقول لينا: "كيف احترمهن وهن لا يحترمنني لمجرد أنني غير محجبة، أشعر أن لدى هؤلاء البنات عقد كثيرة، مستحكمة ومتراكمة، ومن الصعب التعامل معهن، لقد شاءت الصدف أن استعير من إحداهن دفتر المحاضرات فانتهزت تلك المحجبة الفرصة لتدلني على طريق الهداية والدين الصحيح من خلال دعوتي لحضور لقاءات مع شيخة تعلمهن أصول الدين، كانت تلك الزميلة تتحدث معي وكأنها تمتلك وحدها المعرفة الحقة وقد ميزها الله بالحجاب من دون سائر البشر". تتابع لينا: "أشعر بأنني اكثر تديناً من هؤلاء، صحيح أني غير محجبة لكن لا أفوت فرضاً من فروض الصلاة إلا وأؤديه كما أني أؤمن بأن الدين معاملة، وليس مظاهر فحسب". إذا نظرنا إلى المجتمع السوري الذي تشغل فيه النساء وبالأخص الشابات المحجبات مجالاً واسعاً في سوق العمل، تبدو واضحة جداً ظاهرة عمل المحجبات في قطاع التسويق التجاري كبائعات في متاجر الأزياء وأدوات التجميل واللانجري وخصوصاً في أسواق: الحمراء ، والصالحية، والجسر الأبيض، إلى جانب عدد كبير من المحجبات يعملن في الطب والصيدلة والتمريض، وكذلك يبدو حضور المحجبات ملحوظاً ومتميزاً في مجال الكومبيوتر والمعلومات والتصميم الفني والإعلاني والإعلامي، فالحجاب لم يشكل حجر عثرة في طريق صحافيات لمعن في مجال الصحافة التي تتطلب جرأة ومغامرة. والصحافيون الشباب في دمشق يذكرون زميلة لهم محجبة هويدا كلثوم تركت بصمة واضحة في ميدان التحقيقات الجريئة، ويقول مصور كان يرافقها في العمل، لا يمكن لأحد ممن قرأ تحقيقات هويدا أن يتصور أنها محجبة لما كانت تحمله تلك التحقيقات من جسارة في اقتحام أماكن خطرة لا يجرؤ الرجال على دخولها، ويذكر مرة أنها في أحد تحقيقاتها حملت سلاحاً تحت ملابسها تحسباً لمشادة خطرة قد تخوضها أثناء العمل، ويتأسف المصور لمغادرتها سورية وابتعادها عن الصحافة. هناك من يرى في الأعمال التي تتطلب تفاعلاً حياً مع العامة، تنافياً مع منطق الحجاب وخصوصياته التي تفترض العزلة والمكوث في البيت بعيداً من الأعين، لذلك تقول هبة الله الغلاييني محجبة لم تزل المرأة المحجبة بعيدة من ميدان العمل الحقيقي على رغم أن الحجاب لا يشكل عائقاً كبيراً أمام المرأة" وفي مكان عمل هبة تكاد تشكل نسبة النساء المحجبات 60 في المئة من العاملين لكن غالبيتهن تعمل في المكاتب الإدارية والتي لا تستلزم احتكاكاً واسعاً مع الناس أو مخالطة الرجال. وتضيف هبة: أنني المس قدراً كبيراً من الحرج لدى المحجبات اللواتي يرتدين المانطو في التعامل مع الرجل، بينما الحرج أخف كثيراً لدى المرأة ذات حجاب الرأس فقط، المشكلة كما تصفها هبة في أن الحجاب نوعان واحد فرضه الدين وآخر فرضه المجتمع، للأسف غالبية ما أراه هو من ذلك النوع الذي فرضه المجتمع فيتحكم الخوف بصاحبته التي تخشى من أي سلوك مهما بدا عفوياً وطبيعياً أن يكون مناقضاً للحجاب بمعناه الاجتماعي وليس الديني.