صناع القرار والرأي في الغرب يقبلون العرب والمسلمين إذا تخلوا عن مصادر القوة والعزة التي يتحلون ويتغنون بها. لكن العرب والمسلمين واقعون بين المطرقة والسندان. لا تتم تغطية قضاياهم بإيجابية إلا إذا استطاعوا التحول الى مصدر للشفقة والتعاطف أي الى ضحايا. ولكن هذا غير ممكن، أولاً لأن اليهود نجحوا حتى الآن في احتكار صورة الضحية الى حد كبير، وثانياً لأن التغطية السائدة للعرب تصورهم على أنهم يعشقون العنف والدم والموت. لنقرأ "نيوزويك" في طبعتها العربية 31/10/2000 وهي تصف نبض الشارع العربي: "في قرية بابيل في قلب دلتا نهر النيل حيث يركب الأولاد الحمير على امتداد الطرقات المملوءة بالمهملات، كان هناك حديث عن الحرب... كان الرجال الذين اصطفوا للإدلاء بأصواتهم في انتخابات مبكرة في مصر بعيدين جداً من رماة الحجارة والبنادق الذين يخوضون حرباً على شاشات تلفزيونهم كل ليلة، مع ذلك كان الغضب واضحاً، فحتى أطفال المدارس خرجوا من صفوفهم مبكراً لحرق الأعلام الاسرائيلية وصاح عادل محمد جاد وهو طالب جامعي 21 عاماً سنذهب كلنا الى فلسطين في سبيل الجهاد سنحارب حتى نموت". وعلى عكس هذه الصور تكتب الإيكونوميست في تاريخ 18/11/2000 في مقال بعنوان: "هذه المرة انها الحرب وليس انتفاضة" فتنقل عن مفوض الشؤون الانسانية في الأممالمتحدة ماري روبنسون بعد زيارتها للخليل ومشاهدتها ل40 ألف فلسطيني يقبعون تحت عزلة مفروضة ومنع للتجول لستة أسابيع حتى يتمكن 235 مستوطناً اسرائيلياً مدججين بالأسلحة من القيام بأعمالهم اليومية كالمعتاد من دون ازعاج، لم تستطع السيدة روبنسون إلا أن تعترف بأنها لم تشاهد أبداً أية جماعة من الناس بحاجة الى حماية دولية كما يحتاج الفلسطينيون لها اليوم. أما الTime الأميركية فاعتبرت نهاية السنة الماضية وضمن ما اختارته من صور على امتداد صفحة كاملة وتعليقات لما اعتبرته أهم الأحداث التي صنعت العام 2000، اعتبرت مقتل محمد الدرة رمزاً لانتفاضة الأقصى وخطأ رهيباً مكلفاً للاسرائيليين متنبأة بأن صورة محمد على حائط مخيم البريج لن تضمحل بسهولة. السياق التاريخي لنعد ثلاثة أعوام الى الوراء: لقد استضافت القناة الثانية من BBC في 29/8/1998 ضمن "نيوزنايت" وهذا من أهم البرامج التحليلية التي يتتبعها صناع القرار، الأميركي صمويل هنتنغتون عبر الأقمار الاصطناعية ليلقي الضوء على خلفية ما جرى من قصف اميركي على أفغانستان ويوضح أبعادها وأسبابها. أبرز ما قاله كان: 1 - الاسلام حضارة عنيفة وأعاد القول ان الاسلاميين السياسيين على حد تعبيره هم أبرز خطر عالمي يواجه الغرب في مقالة للهيرالد تريبيون في 2/2/2001. 2 - الاسلام غير متلائم مع الحضارة الحديثة ولا يمكنه التعايش معها سلماً. وللتدليل على صحة ما قاله أورد احصاءات عن أن المسلمين الذين يشكلون عشرين في المئة فقط من سكان العالم متورطون في سبعين في المئة من النزاعات التي تدور على كوكبنا. هكذا، وبدقائق لخص هنتنغتون أحد أقوى الخطابات العربية التي تعالج موضوع العلاقة بالآخر لمرحلة ما بعد زوال الخطر الشيوعي والحرب الباردة. خلال دقائق قضى على كل المحاولات والجهود التي جرت في السنوات الأخيرة لمناقشته في أفكاره ولمد الجسور الحوارية مع هذا النمط من التفكير الذي - وللأسف - يأخذ مقويات بعد كل عملية ضد مصالح اميركية أو انفجار سيارة مفخخة أو عملية استشهادية في فلسطينالمحتلة تصيب اليهود وجعل من الصعوبة بمكان التخفيف من وطأة هذه النظرية وتأثيرها على النخب السياسية والإعلامية والثقافية في الغرب وعلى الرأي العام. لكن واقع الحال والخطاب الاعلامي والفكري على الساحة الاميركية لا يشجع كثيراً على التفاؤل بفك الارتباط بين الاسلام والعنف والارهاب في العقل الاميركي والذي يجد أفضل دعم له من كتاب معلقين مثل ستيف إيمرسون مؤلف كتاب "الجهاد في أميركا"، والذي يجري الاستماع في شكل منتظم الى آرائه في محاربة "الإرهاب الاسلامي" في الكونغرس، اضافة الى آراء هنتنغتون التي تشكل الحاضن الفكري لمثل ذلك التوجه. تصف فلورا لويس في مقال لافت الهيرالد تريبيون 28/8/1998 فرح بعض المعلقين في إيجاد عدو خطير جديد يكرر الحرب الباردة، وتصل درجة "الكلام" في البرامج الاخبارية اليومية على الشبكات التلفزيونية الى درجة يحسب معها المشاهد ان لا شيء يجري في العالم سوى حكايات "الإرهاب" الفلسطيني أو اللبناني أو الليبي او الايراني أو الأفغاني أو الجزائري، باختصار "الإرهاب" العربي أو الإسلامي. فلورا لويس والتي لم أعهد في كتاباتها إلا القليل من التعاطف مع قضايا العرب والمسلمين تتحسر على الأيام التي كانت فيها وسائل الاعلام ووجوهها البارزة تبحث عن سياق لحدث ما وتفسير له من مصادر مستقلة وتناول حذر ومعتدل للموضوع. اليوم كلما كثر الكلام تناقص فهم ما يقال في العمق. الرأي العام الاميركي الذي يزين الأمور بمنظار أخلاقي مبسط لا يعرف مقياساً سوى الخير والشر أو الأبيض والأسود. إن التشدد الأميركي الشعبي في رؤية الأمور بمنظار أخلاقي هو توجه صادق مع النفس وينسجم مع المنطلقات النظرية التي تأسست الأمة أو مشروع الأمة الاميركية بناء عليها، لكن هذا التوجه الساذج الى حد ما مفيد لصانعي القرار وللنخب الحاكمة سياسياً وفكرياً وإعلامياً واقتصادياً في واشنطن لأنه يمكن قولبته وتصويره في الشكل المناسب، وكما تراه تلك النخب. على العرب والمسلمين ألا يتعجبوا من واقع ان الاميركي العادي يرى في ما جرى من عمليات تفجير لأهداف اميركية أو حتى اسرائيلية إلا نوعاً من أنواع الهجوم الثقافي والديني على طريقته في الحياة وعلى قيمه، من قبل أناس دافعهم الكره ورفض غير عقلاني لكل ما هو أميركي أو حديث. ينقل توماس فريدمان عن المؤرخ رونالد ستيل رأيه ان الاميركيين يعتقدون ان نمط حياتهم ومؤسساتهم يجب ان يحيل أنماط حياة ومؤسسات الآخرين الى مزبلة التاريخ. "نحن رسل العولمة وأعداء التقاليد". رسالة الاميركيين الى الشباب في العالم اننا نملك طريقة حياة افضل من تلك التي عاشها آباؤكم... لهذا السبب يريدون الارهابيون قتل اميركا. يصف فريدمان الارهابيين بأنهم أناس غاضبون جداً ليس لهم مطالب محددة ويحركهم الكره لأميركا ولإسرائيل ولأعداء الاسلام. يشكل الارهاب والذي عرفه الرئيس كلينتون بأنه "شبكة لا ترعاها أية دولة ولكنها خطرة كخطر دولة" تهديداً ل"الحضارة الأميركية" ولمهمتها العالمية والتي تتجسد في نهاية القرن العشرين بمقولة العولمة. من الأصوات القليلة العاقلة في هذا المجال نجد غراهام فولر الذي يحذر دائماً من انجرار الولاياتالمتحدة الى وضع استراتيجي لا يمكن الفوز فيه. هيرالد تريبيون 27/8/1998 يدعو فولر الى عدم الفصل بين السياسة والارهاب كما تفعل أجهزة الاعلام الاميركية التي تنظر الى حرب ضد الإرهاب من دون أن تحل الأسباب والقضايا التي تجعل من الإرهاب إرهاباً. ويعدد فولر ما يعتبره خلفية لأوضاع العالم العربي من فقر مدقع. وسوء أداء الحكومات والخدمات الاجتماعية والعربية وغياب الديموقراطية وانتهاك حقوق الانسان والفساد والقمع والقهر، والدعم الاميركي لاسرائيل. لائحة طويلة من الشكاوى يرددها العرب والمسلمون وتكاد تكون غير مسموعة أو مفهومة أو لا يراد سماعها وفهمها إلا في دوائر نادرة في واشنطن. ان أي تفاؤل على المدى القصير من تغيير في السياسة الأميركية تجاه قضايا العالم العربي والاسلامي هو تفاؤل في غير محله. الاتهام الجاهز عندما وقع انفجار متروباص باريس 3/12/1996 سارعت أهم اذاعة FM في لندن يستمع اليها الملايين لوصف الحادث بالإرهاب الاسلامي Islamic Terrorism في حين وصفته شبكة التلفزة الثالثة بأنه من صنع ارهابيين جزائريين مسلمين، أما شبكة BBC الأولى فكانت الأكثر موضوعية، إذ قالت انه من صنع ارهابيين جزائريين. وسائل الاعلام الأوروبية بمعظمها تقدم صورة الاسلام على أنه مرادف للتخلف والعنف والارهاب ومعاد لحقوق الانسان وحقوق المرأة، تذكروا قضايا سلمان رشدي ونصر أبو زيد والباكستاني المسلم المرتد في الكويت، والنساء في كابول تحت حكم طالبان، تذكروا قرار وزير التعليم الفرنسي في أيلول سبتمبر 1994 بمنع ارتداء كل ما يشير عمداً الى دين معين، والمقصود بذلك هو الحجاب. يصبح ذلك القمع أمراً عادياً مطلوباً من وجهة نظر دولة أوروبية دينها العلمانية، ويصبح الحجاب الاسلامي على تضاد مع قيمها. من الصعب في مثل تلك الحال الاحتجاج على تنبوءات هنتنغتون وربما وصفاته السياسية حول صراع الثقافات، وفي هذه الحال بين الثقافة الايمانية المسلمة والثقافة العلمانية الأوروبية والأميركية. في عالمنا المتقلب والمضطرب، من الممكن أن تحدث في أية لحظة أشياء ليست بالحسبان من أعمال عنف وإرهاب تنتج من فكر جامد الغائي يكون أحياناً مسلمون على علاقة بها، وأحياناً تلصق بالمسلمين من دون دليل أو برهان، كحادث تفجير أوكلاهوما، ولا أزال أذكر احدى أكثر الصحف الشعبية توزيعاً في بريطانيا وحملت على صدر صفحتها الأولى وقبل أن يعرف مرتكب هذه الجريمة صورة رجل اطفاء يحمل طفلة قتيلة من ضحايا الحادث، وفوق الصورة عنوان يقول: باسم الاسلام In The Name Of Islam. حصيلة كل ذلك تراكمات من سوء الفهم والعداء وردود الفعل اللاعقلانية. ان حادثة تفجير واحدة لمؤسسة اميركية أو لهدف اسرائيلي من شأنه أن يمحو عمل أشهر أو سنين من محاولات وجهود البعض لتحسين صورة العرب والمسلمين في الغرب. ان قضايا مثل سلمان رشدي، والردة والارهاب والحدود هي أشبه بقنابل موقوتة تنفجر كل مدة لتثير الخلاف والصراع الحضاري الذي يدور حول مفهومين متمايزين لحقوق الفرد، أساس الحضارة الغربية، وربما أيضاً حول مفهوم المرأة ومسؤولياتها ودورها في الحياة. ومن غير المستبعد أن يكون الأميركيون والأوروبيون اجمالاً على رغم كل مظاهر التسامح والعقلانية وقبول الاختلاف الثقافي لا يزالون غير قادرين على هضم صورة المرأة المسلمة المحجبة والتي يرونها في لا وعيهم التاريخي تمثل عصور الانحطاط والتخلف والعبودية وبالتالي فإنه كلما يجري التفكير بأي أمر من أمور العرب والمسلمين أو قضية من قضاياهم فإنه يجري ربطها بمفهوم غربي راسخ لحقوق الرجل والمرأة، لماهية القرون الوسطى ومن ثم اسقاط صورة ظلامية قاتمة مستمدة من قرونهم الوسطى على حاضر الاسلام وواقع المسلمين من الصعب تغييرها في ذاكرتهم الجمعية. ان المشاعر المعادية للاسلام تتزايد في انتشارها في الغرب، وحتى في بريطانيا والتي على رغم علمانيتها المتسامحة ووجود أشخاص في قمة الهرم المجتمعي كولي عهدها الأمير تشارلز ينادون بالتفاهم والاستفادة المتبادلة والتعلم من المسلمين، على رغم هذا، فإن ظاهرة "الاسلامو فوبيا" او الخوف من الاسلام في تزايد. لقد حذرت دراسة صادرة قبل أربع سنوات عن مؤسسة Runnymede والتي تقدم المشورة والنصح في العلاقات العرقية والتنوع الثقافي، حذرت من خطورة ان يتغلغل هذا الشعور في كل شرائح المجتمع وينتشر في وسائل الاعلام على كل مستوياتها. وتخوف التقرير من وصول هذه الظاهرة الى حد استخدام العنف العنصري ضد كل من يبدو انه مهاجر مسلم، خصوصاً ان سوء الفهم المتأتي من الخوف يجعل الخائفين أو بالأحرى المخوَفين بفتح الواو يرون في الاسلام والمسلمين حضارة أو ثقافة مختلفة كل الاختلاف عن ثقافتهم، وان المسلمين يستخدمون دينهم لأغراض سياسية وعسكرية أكثر منها ايمانية. فتنة الحداثة تعلمنا في جامعاتنا العصرية ان المجتمعات كلها في طريقها الى الحداثة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، بعضها وصل، والأخرى لا تزال تسعى، كالقطار الذي تصل بعض حافلاته الى المحطة قبل الأخرى لكن في نهاية المطاف فكلها تصل. هذه كانت نظرية الحداثة Modernisation. ان المجتمعات الاسلامية أخذت الكثير من الغرب وعنه بالترهيب والترغيب وتقلص الفضاء الاسلامي الى حدوده الدنيا حتى عادت الصحوة تفعل فعلها الثقافي والقيمي والاسلامي وحتى السياسي. كانت المجتمعات المسلمة تسأل، لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ ماذا نأخذ من الغرب الأوروبي؟ فإذا بالسيل الأوروبي يأتي جارفاً ويكتسح كل شيء في طريقه على حد تعبير خير الدين التونسي. سؤال المسلمين اليوم هو لماذا لم نتقدم بعد كما كنا نأمل؟ ينقل هنتنغتون عن أحد الكتاب قوله "ان المصدر الوحيد للأفكار حول الحرية الفردية والديموقراطية السياسية وحكم القانون وحقوق الانسان والحرية الثقافية، هو أوروبا، هذه أفكار أوروبية وليست آسيوية أو شرق أوسطية إلا بالتبني". ويعلق هنتنغتون بالقول ان هذه المزايا هي التي مكنت الغرب من أخذ الطليعة في تحديث نفسه والعالم، هذه المزايا تجعل من الغرب فريداً من نوعه، وقيمة الحضارة الغربية ليست في عالميتها، بل في كونها فريدة. بالنسبة الى صمويل هنتنغتون المشكلة هي ان الغرب الاميركي بالتحديد والذي كان دائماً يعتبر نفسه بأنه أمة تبشيرية أو ذات رسالة، بعد سقوط الشيوعية، تعزز لديه الشعور ان ايديولوجيته - المبنية على الديموقراطية الليبرالية قد انتصرت وبالتالي فهي صالحة في كل مكان، وان على الشعوب غير الغربية ان تتبنى قيم الغرب في الديموقراطية والسوق الحرة والحكومة المحدودة، والفصل بين الدولة والدين، وحقوق الانسان الفردية وحكم القانون. لكن المشكلة هي أن ما يعتبره الغرب عالمي فيه ما هو الا امبريالية بالنسبة الى غيره، كما ان مشكلة الازدواجية في المعايير لا يمكن الفرار منها، فالديموقراطية يجري تشجيعها إلا اذا أدت الى وصول الاسلاميين الى الحكم، ومنع اسلحة الدمار الشامل عن العراق وايران مطلوب ولكن ليس عن اسرائيل. استقر نموذج ما بعد الحداثة وترسخت نسبية القيم والمعايير، ومن ثم انتهت المرجعية في تحديد مبادئ العدل والانصاف، أو تحديد مفاهيم الانسانية وحماية المضطهدين وحقوق الأقليات، فلم يعد من شيء "انساني" يمكن الاتفاق عليه، وإلا كان التدخل الانساني أولى في حال فلسطين. ان مفهوم "الانساني" أو "العادل" هو ما يحدده الأقوى، وفي هذه الحال الأقوى هو حلف الأطلسي والولاياتالمتحدة. وستبقى اسرائيل مصدر تأزيم لعلاقتنا بالغرب، لكننا لا يجب أن نسمح لها بأن تكون المتحكمة في نظرتنا الى الغرب والى العالم والى العصر حازم صاغية وصالح بشير، "الحياة" 18/12/2000. إذا كنا نحلم بانتفاضة تستعيد الأقصى وكل ما بورك حوله من فلسطين فإننا نحتاج الى الحداثة ونحتاج اليها اليوم قبل الغد، ولا طاقة لنا على الانتظار لقرن أو نصف قرن كما كنا نعجب من تجربة اليابان في اكتساب الحداثة في وقت قياسي. مشكلتنا اننا قد نكون أخذنا حتى الآن بالحداثة من ذنبها أو بنتف منها لا تسمن ولا تغني من جوع، أو ربما ان الحداثة التي اقتبسناها بشغف كونت مجتمعات نخبة بينما بقي الناس في جهل وفقر وحرمان. * كاتب لبناني مقيم في بريطانيا.