لم يترجم الى اللغة العربية للمفكر الأميركي صامويل هنتنغتون سوى كتاب وحيد هو "النظام السياسي لمجمعات متغيرة" عام 1993 دار الساقي، وهو العام نفسه الذي نشرت فيه فصلية Foreign Affairs مقاله الشهير عن "صدام الحضارات". وهو المقال الذي أثار جدلاً مستمراً، وترجم الى غالبية اللغات الحية ومنها العربية. وقد شجعت الاصداء الواسعة للمقال ان يعمل المؤلف على توسيع اطروحته ويجيب عن كثير من الاسئلة التي أثارتها ويسد ما رآه من ثغرات، وعلى رغم صدور الكتاب في سنة 1996 الا أن افكاره الاساسية والاشكالات التي تعرض لها ليست غريبة على القارىء العربي. فقد تحدث كثير من المفكرين العرب عن المقال، وانشغلوا بالرد عليه. لذلك لم يتورط المترجم طلعت الشايب في تقديم الكتاب وعنوانه: "صدام الحضارات: إعادة صنع النظام العالمي" دار سطور - القاهرة 1998، وانما اوكل هذه المهمة لاستاذ متخصص في الفلسفة هو الدكتور صلاح قنصوة الذي ساهم بعددد من المقالات في الرد على مقال صامويل هنتنغتون بل والرد على بعض فصول الكتاب بعد نشرها في الدوريات الاميركية.. وكان تقدمه نقاش مركز ودقيق يبغي تفنيد عدد من النقاط الجوهرية التي يقيم هنتنغتون اطروحته عليها.. مما يجعل قنصوة ينتهي بأن صدام الحضارات سلعة مطلوبة في سوق السياسة العالمية خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه. اكتفى المترجم اذن بأن يكون اميناً جداً للاصطلاحات التي دشنها هنتنغتون وشاعت في العربية قبل ترجمة الكتاب، كما حرص على ان يلتزم ببساطة العبارة المتوقعة من كتاب في علم المستقبليات وهو موجه بالأساس الى القارئ العادي. وتبدو اهمية الكتاب - بل وخطورته - من ان تسلط او اغواء نظرية صدام الحضارات التي يطرحها، يمكن ان يساهم في ما تحدث عنه ارنست ناجل عن "التنبؤ المحقق لذاته" وهو الذي يتألف من تنبؤات لا تصدق على الوقائع الفعلية، في الوقت الذي تصاغ هذه التنبؤات، غير انها تصير صادقة بسبب الافعال التي تتخذ كنتيجة مترتبة على "الاعتقاد" بصحة تلك التنبؤات. من خلال "صدام الحضارات" وفصوله الاثني عشر، يقرأ هنتنغتون الصراع في عالم ما بعد الحرب العالمية الباردة، ذلك العالم الذي طوي سجله بانهيار الاتحاد السوفياتي، واصبح هذا النموذج للعالم تبعاًً لوماشس كوهن مؤلف "بنية الثورات العلمية"، نموذجاً قديماً عاجزاً عن تفسير حقائق جديدة او مكتشفة حديثاً، ولا بد من احلال نموذج جديد يفسر تلك الحقائق بطريقة مقبولة اكثر كنموذج، لا بد ان تبدو أفضل من النظريات التي تنافسها. ولكنها ليست في حاجة الى ان تفسر كل الحقائق التي يمكن ان تواجهها، ولا هي تفعل ذلك في الواقع. العرق والحضارات وهذا هو ما حاوله هنتنغتون اثناء قراءته لخريطة العالم الناشئ. ففي هذا العالم تكون السياسة المحلية هي السياسة العرقية، والسياسة الكونية هي سياسة الحضارات، ومحلّ المنافسة بين القوى الكبرى يحل صدام الحضارات. اول الشواهد على هذه الخريطة، ان الغرب حالياً هو أقوى الحضارات وسيظل كذلك لسنوات قادمة، الا ان قوته تتدهور بالنسبة للحضارات الاخرى. وبينما يحاول ان يؤكد قيمه ويحمي مصالحه تواجه المجتمعات غير الغربية خياراً. البعض يحاول ان يحاكي الغرب وان يلحق به او "ينحاز" اليه. المجتمعات الكونفوشية والاسلامية الاخرى تحاول ان توسع قوتها الاقتصادية والعسكرية، وان تتوازن ضد الغرب، وهكذا يكون تفاعل قوة الغرب وثقافته امام قوة وثقافة الحضارات غير الغربية محوراً مركزياً للسياسة في العالم. ان عالم ما بعد الحرب الباردة هو عالم مكون من سبع او ثماني حضارات هي: الصينية، اليابانية، الهندية، الاسلامية، الغربية، الاميركية اللاتينية، الافريقية احتمال. من هذا الرصد يقفز هنتنغتون الى مجموعة من النتائج: وهي ان اهم دول العالم جاءت من حضارات مختلفة. الصراعات الاكثر ترجيحاً ان تمتد الى حروب اوسع، هي الصراعات القائمة بين جماعات ودول وحضارات مختلفة، واشكال التطور السياسي والاقتصادي السائدة تختلف من حضارة لأخرى، كما ان القضايا الرئيسية على اجندة العالم تتضمن الاختلافات بين الحضارات. ولا يخفى ايضا ان القوة تنتقل من الغرب الذي كانت له السيطرة طويلاً الى الحضارات غير الغربية، بمعنى ان السياسة الكونية اصبحت متعددة الاقطاب، ومتعددة الحضارات. ان تقسيم العالم القائم على الحرب البادرة قد انتهى، وانقسامات البشرية على اساس العرف والدين والحضارة تظل كما هي، وتفرخ صراعات جديدة، فخلال العقود الاخيرة من القرن العشرين زاد عدد كل من المسلمين والمسيحيين في افريقيا، وحصل تحول رئيسي في المسيحية في كوريا الجنوبية، وفي المجتمعات السريعة التحديث عندما لا تكون الاديان او العقائد الشعبية قادرة على التأقلم مع متطلبات التحديث توجد الامكانية لانتشار المسيحية الغربية والاسلام. وفي تلك المجتمعات اكثر ابطال الثقافة الغربية نجاحاً، ليسوا من طبقة الاقتصاديين المحدثين ولا من دعاة الديموقراطية المتحمسين، ولا كبار موظفي المؤسسات المتعددة الجنسيات... الاكثر نجاحاً هم المبشرون المسيحيون. والمرجح ان يظلوا كذلك. لا آدم سميث ولا توماس جيفرسون سيفيان بالاحتياجات النفسية والعاطفية والاخلاقية للمهاجرين الجدد الى المدنية. او للجيل الاول من خريجي المدارس الثانوية. ولا المسيح قد يفي بها وان كانت فرصته اكبر.. على المدى الطويل محمد سينتصر. وهنا يفرّق هنتنغتون بين التحديث والتغريب. ويرى ان المجتمعات غير الغربية يمكن ان تتحدث. وقد حصل ذلك بالفعل، من دون ان تتخلى عن ثقافتها المحلية الخاصة. كما تبنت القيم والمؤسسات والممارسات الغربية بالجملة. أما التغريب فإنه قد يكون من المستحيل حدوثه نظراً للعراقيل التي تضعها الحضارات غير الغربية امامه. وربما من الحماقة - كما يقول برودل ان نعتقد ان التحديث او "انتصار الحضارة بالمفهوم المفرد" قد يؤدي الى نهاية تعددية الثقافات التاريخية التي تجسدت في حضارات العالم الكبرى على مدى قرون. التحديث بدلاً من ذلك، يقوي من تلك الحضارات ويقلل من القوة النسبية للغرب. والعالم اذن يصبح اكثر حداثة واقل غربية في امور اساسية. فخريطة العالم تحدثنا بأن هناك هوة كبرى ما زالت تفصل بين الصينيين والهنود والعرب والافارقة عن الغربيين واليابانيين والروس. الا انها تضيق بسرعة، وفي الوقت نفسه هناك هوة اخرى مختلفة تنفتح. متوسط العمر عند الغربيين واليابانيين والروس يزيد باضطراد. والنسبة الكبرى من السكان الذين لم يعودوا يعملون تفرض عبئاً كبيراً على اولئك الذين مازالوا يعملون وينتجون. الحضارات الاخرى مثقلة باعداد كبيرة من الاطفال. ولكن الاطفال هم عمال الغد وجنوده.. كذلك انتشار التكنولوجيا، والنمو الاقتصادي للدول غير الغربية في النصف الثاني من القرن العشرين، يؤديان الآن الى عودة النموذج التاريخي، وهذه ستكون عملية بطيئة، ولكن في منتصف القرن الحادي والعشرين - ان لم تكن قبل ذلك - يحتمل ان يماثل توزع النتاج الاقتصادي والنتاج الصناعي بين الحضارات الرئيسية، ما كان عليه في سنة 1800. اي ان الضغط الغربي الذي استمرّ مئتي عام على الاقتصاد العالمي سوف ينتهي.. وبالطبع فإن هذا التوازن الذي ستحدثه الحضارات الاخرى ينبع من قبولها الحداثة والاخذ بشروطها، وفي الآن نفسه رفض الغرب للثقافة العلمانية النسبية المتفسخة المرتبطة بها، انه رفض لما يطلق عليه "التسمم بالغرب" الذي يصيب المجتمعات غير الغربية، وهي اعلان استقلال ثقافي عن الغرب، اعلان يقول: "نكون حديثين، ولكننا لن نكون انتم". غربنة العالم ان حضارات التحدي ل"غربنة" العالم باسم الكونية والعولمة تمارس العداء للغرب بالطريقة نفسها التي ظل الغرب يمارسه نحوها تحت مسمى "الاستشراق" الغربي للشرق.. عند الشرق آسيويين مثلاً: الرخاء الاقتصادي دليل على التفوق الاخلاقي تبعاً لقاعدة التوكيد الثقافي يتبع النجاح المادي، في حين ان النجاج المادي عند الغرب ساهم في التردي الاخلاقي. وعلى صعيد الحضارة الاسلامية نجد الجيل الجديد من قيادات الصحوة الاسلامية التي سوف تتسلم الزمام لن يكون اصولياً بالضرورة، ولكنه سيكون اكثر التزاما بالاسلام عن سلفه، التأصيل سيتعزز، الصحوة الاسلامية ستخلف شبكة من المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية داخل التجمعات التي تمتد اليها، ستكون الصحوة قد اثبتت ان "الاسلام هو الحل" لمشكلات الاخلاق والهوية والمعنى والاعتقاد ولكن ليس لمشكلات الظلم الاجتماعي والقمع السياسي والتخلف الاقتصادي والضعف العسكري. ونتيجة لذلك، فإن السنوات الاولى من القرن الحادي والعشرين من المرجح ان تشهد صحوة مستمرة في القوة والثقافة غير الغربية. وفي الصراع بين شعوب الحضارات غير الغربية والحضارات الغربية. وبين بعضها البعض. وبالطبع فإن الغرب يحاول وسوف يواصل محاولاته للحفاظ على وضعه المتفوق، والدفاع عن مصالحه بتعريفها على انها مصالح "المجتمع العالمي". فالغرب مثلاً يحاول ان يجمع اقتصاد المجتمعات غير الغربية في نظام اقتصادي عالمي يسيطر عليه. وعن طريق صندوق النقد الدولي والمؤسسات الاقتصادية الدولية الاخرى ينمي الغرب مصالحه الاقتصادية ويفرض على الدول الاخرى السياسات الاقتصادية التي يراها ملائمة. وبالمقابل لا يتردد غير الغربيين في الاشارة الى الفجوات بين المبادئ والتصرفات الغربية. وازدواجية المعايير في الممارسة العملية هي الثمن الذي لا يمكن تجنبه في مستويات المبادئ العالمية. وينتج عن ذلك ان تكون علاقات الغرب بالاسلام والصين متوترة على نحو ثابت، وعدائية جداً في معظم الاحوال، ويشبه هنتنغتون الحضارات بالقبائل الانسانية النهائية من حيث العلاقات المتبادلة فيما بينها، وصدام الحضارات هو الصراع القبلي على نطاق الكون. الثقة والصداقة ستكونان عملة نادرة. وستأخذ الصراعات بين الحضارات شكلين: على المستوى المحلي او الصغير، تحصل صراعات خطوط التقسيم بين دول الجوار المنتمية الى حضارات مختلفة، وبين جماعات تنتهي الى حضارات مختلفة داخل دولة ما، وبين جماعات تحاول اقامة دول جديدة على انقاض الدول القديمة كما حدث في الاتحاد السوفياتي السابق ويوغوسلافيا، صراعات خطوط التقسيم متفشية خصوصاً بين المسلمين وغير المسلمين. على المستوى الكوني الكبير، تحدث صراعات دول المركز بين الدول الرئيسية في الحضارات المختلفة، والقضايا في هذه الصراعات هي القضايا الكلاسيكية في الصراعات الدولية، ولكنها على المستوى الحضاري سوف تأخذ ابعاداً اخرى. ان حروب خطوط التقسيم الحضاري تمر بعمليات عدة والاتساع والاحتواء والتوقف ونادراً ما تصل الى حل. وتبدأ هذه العمليات عادة متوالية ولكنها غالباًً ما تتراكم، وقد تتكرر، وبمجرد ان تبدأ حرب خطوط التقسيم فإنها مثل غيرها من الصراعات الطائفية يصبح لها شكلها الخاص وتتطور بأسلوب الفعل ورد الفعل والهويات التي كانت في الماضي متعددة وعرضية تصبح مركزة ومتصلبة، فالصراعات الطائفية تسمى حروب هوية وهي تسمية ملائمة.. ومع ازياد العنف فإن القضايا المتنازع عليها الى ان يعاد تحديدها هي على وجه الحصر ب"نحن" و"هم" حيث يتعزز تماسك الجماعة والتزامها، حيث القادة السياسيون يوسعون ويعمقون توسلاتهم بالولاءات الإثنية والدينية. ويقوى الوعي بالحضارة في علاقتها بالهويات الاخرى. ان التاريخ ينتهي مرة على الاقل في تاريخ كل حضارة، واحياناً اكثر من مرة، وعندما تنشأ دولة الحضارة العالمية يغشى بصر شعبها ما يطلق عليه توينبي "سراب الخلود" ويصبح مقتنعاً بأن ما لديه هو الشكل النهائي للمجتمع الانساني. هكذا كان الامر بالنسبة للامبراطورية الرومانية والخلافة العباسية والامبراطورية المغولية والامبراطورية العثمانية. مواطنو مثل هذه الدول العالمية "في تحدٍّ للحقائق المجردة الواضحة، يميلون الى اعتبارها ارض الميعاد وهدفاً للسعي الانساني، وليس مجرد مأوى ليلي في البرية. هكذا كان الامر في اوج "السلم البريطاني" بالنسبة للطبقة المتوسطة الانكليزية في سنة 1897 حيث كانوا يرون ان التاريخ بالنسبة لهم قد انتهى، وكان لديهم من الاسباب ما يكفي ليجعلهم يهنون بعضهم بعضاً على الحالة الدائمة من السعادة العظيمة التي خلعتها عليهم نهاية التاريخ. اختلاف الغرب المجتمعات التي تفترض ان تاريخها قد انتهى، هي دائما مجتمعات يكون تاريخها على حافة الانهيار. فهل الغرب استثناء من هذا النمط؟. يجيب هنتنغتون بحذر عن هذا السؤال بالايجاب. فمن الواضح برأيه ان الغرب يختلف عن جميع الحضارات التي كانت قائمة، في ان تأثيره طاغٍ على كل الحضارات الاخرى التي وجدت منذ سنة 1500، كما انه هو الذي دشن عملية التحديث التي اصبحت عالمية، وكنتيجة لذلك كانت المجتمعات في الحضارات الاخرى كلها تحاول اللحاق به في الثروة والحداثة. في ظل هذه الخريطة التي حاول هنتنغتون ابراز ملامحها بامتداد الكتاب، بدت القلاقل واضحة بين حضارة سائدة وتملك اسباب السيادة في المستقبل المنظور وهي الحضارة الغربية. وحضارات اخرى تحاول اللحاق والقفز فوق حواجز الزمن وحقائق التاريخ. لذلك بدا بديهياً ان يبزغ سؤال عن مستقبل الحضارات في ظل هذا الموقف المخيف. ويحاول المؤلف ان يجيب عنه في فصله الاخير. فاذا اخذنا في الاعتبار ان النظام والقانون هما المتطلب الاول للحضارة وفي انحاء كثيرة من العالم افريقيا، اميركا اللاتينية، الاتحاد السوفياتي السابق، جنوب اسيا، الشرق الأوسط يبدو ان القانون والنظام يتلاشيان بينما يتعرضان ايضاً لهجوم خطير في الصين واليابان والغرب. وعلى مستوى عالمي، تبدو الحضارات وكأنها تستسلم للبربرية في جوانب كثيرة مُخلّفة صورة لظاهرة غير مسبوقة، وربما تنزل الانسانية الى عصور كونية مظلمة. وفي صدام الحضارات، سوف تتساند اوروبا واميركا معاً، او تتساند كل منهما على حدة. في الصدام الاكبر، الصدام الكوني "الحقيقي" بين الحضارة والبربرية، حضارات العالم الكبرى بكل انجازاتها في الدين والادب والفن والفلسفة والعلم والتكنولوجيا والاخلاق، سوف تتساند ايضاً معاً او تتساند فرادى في الحقبة الناشئة. صدام الحضارات هو الخطر الاكثر تهديداً للسلام العالمي. ومن ثم يرى صامويل هنتنغتون في نهاية كتابه ان الامل الوحيد والضمان الاكيد ضد حرب عالمية هو نظام عالمي يقوم على الحضارات ويستفيد من منجزاتها، على الرغم من انه هو المؤلف نفسه الذي اكد حتى آخر صفحة في كتابه ان هذا الامل الوحيد لن يمنع سوء الفهم والتوتر بين الحضارات وبالتالي الصدام والكارثة. والضمان الاكيد ضد حرب عالمية هو نظام عالمي يقوم على الحضارات.