يرى عالم الاجتماع الشهير ماكس فيبر أن النموذج الأعلى لرجل السياسة هو القائد "الكاريزمي"، وأن الوظيفة الرئيسية والدور الأساسي المناطين بعهدته والمطلوبين منه هما: أن يجد حلاً للتعارض بين أخلاق الاقتناع وأخلاق المسؤولية. وهما أمران مختلفان، بل متعارضان. فالمرجعية الاخلاقية الأولى هي ما يجمع بين السياسي والمواطنين من قناعات مشتركة تمثل القاعدة التي على أساسها تصبح القيادة شرعية وشعبية كاريزمية. والمرجعية الاخلاقية الثانية هي ما يتحمله رجل السياسة من مسؤولية عندما تتضح النتائج المحسوسة لتلك القناعات، والتي لا تأتي دائماً ملبية لما كان الناس ينتظرون. وبما أنه هو الذي يتحمل أساساً هذه المسؤولية، فإنه مدفوع دائماً إلى أن يجد تأليفاً بين الوفاء للمبادئ والقيم المعلنة والمتفق فيها، وبين القدرة على ضمان نتائج مقبولة للقرارات المتخذة انطلاقاً من تلك المبادئ والقيم. من هنا كانت مهمة السياسي عسيرة وخطيرة، لأنه مطالب في آن واحد بأن يتمسك بالقناعات المشتركة والمعلنة وأن يضمن أن لا تكون النتائج المترتبة عن تلك القناعات مخالفة لمصالح المجموعة التي التفت حوله. والحالة اليوغوسلافية تجسد في أجلى صورة مزالق هذا التعارض وما يمكن أن يؤدي إليه من تمزق سياسي واجتماعي وثقافي ونفسي. من جهة، نجد "الزعيم" ميلوشيفيتش وصل إلى سدة الحكم سنة 1990 بطريقة لا يمكن القول إنها غير ديموقراطية، وإن كان كل مسار ديموقراطي في بلد حديث العهد بها هو مسار هش ومتقلب. ولا يمكن الإنكار أن الصرب، مثل العرب واليهود والأكراد والأرمن وغيرهم، يشعرون لأسباب تاريخية بعقدة الظلم، وأنهم بسبب ذلك أسهل انقياداً للقائد الكاريزمي الذي يحرّك فيهم ذلك الشعور ويلوّح بينهم بأمل الثأر من اهانات التاريخ. من هذا المنظور لا يتحمل ميلوشيفيتش وحده مسؤولية الفظائع المرتكبة في يوغوسلافيا، لكنه يتحمل وحده هذه المسؤولية من منظور أنه لم يعمل على التوفيق بين القناعات التي اشترك فيها مع شعبه ونتائج القرارات التي اتخذها باسم تلك القناعات. لقد فهم دوره على أنه مجرد نفخ متواصل في الشعور القومي الصربي وفتح جبهات كان واضحاً منذ البداية أن الشعب الصربي لن يخرج منتصراً فيها كلها. لذلك أتت النتائج مخيبة للآمال، واختار "الزعيم" المضي قدماً في المسار نفسه، باسم القناعات بدل الشعور بالمسؤولية، إلى أن اتخذ شعبه القرار بدلا منه وأسقطه في الانتخابات الأخيرة، ليس لتغيّر القناعات، بل لادراك ان النتائج جاءت بعكس المقصود. فأية عظمة تدعيها أمة أصبحت محاصرة منبوذة منهارة في كل المجالات؟ من هنا نفهم التردد أمام قضية تسليم "الزعيم" إلى محكمة العدل الدولية وتحوله إلى وضع "مجرم الحرب" المطلوب دولياً. وهو تردد يعيشه الصرب اليوغوسلاف في شكل أزمة سياسية، ويعيشه غيرهم في شكل سؤال محير: هل ميلوشيفيتش هو البطل الذي يقدم إلى المحرقة تكفيراً عن شعور جماعي بالرغبة في التخلص من عقدة الظلم التاريخي؟ أم هو الجلاد الذي يقدم إلى العدالة عقاباً على تأجيجه ذلك الشعور إلى حد التورط في أبشع الجرائم التي لا يمكن أن تقبلها الإنسانية؟ الواقع ان ميلوشيفيتش ينتمي إلى فصيل هؤلاء الزعماء الذين يستغلون شعوراً قومياً قد يكون شرعياً في منطلقاته لكنهم يخطئون خطأ فادحاً في فهم مهمة السياسي/ الزعيم في العصر الحديث. انهم ينغلقون تماماً في فضاء القناعات حتى ينسوا جانب المسؤولية، أي التساؤل: هل القرارات المتخذة باسم تلك القناعات تقرّب المجموعة منها أم تزيدها بعداً عنها. إن جريمة ميلوشيفيتش الأولى أنه لم يفهم حقيقة الزعامة وكنه السياسة، لذلك انزلق سريعاً إلى وضع مجرم الحرب. فلا نشاز حينئذ أن يُحاكم خارج بلده، لأن حربه لم تكن داخلية فقط. منذ أقدم الحروب التي شهدتها البشرية، كان المنهزم يشهد أحد وضعين: إما أن تدفع المجموعة ثمن خطأ الزعيم أو أن يدفع الزعيم ثمن خطأه وخطأ المجموعة. وعندما شاهدت الصورة التي تناقلتها تلفزيونات العالم كله، صورة ميلوشيفيتش يُقاد مكرهاً بين حارسين مثل كل المجرمين، لم يبد لي أن شيئاً جديداً حدث في العالم. انها صورة الانهزام المعتادة في كل الحروب. وكما انني لا يمكن أن أصدق أن الدافع إلى محاكمة ميلوشيفيتش في لاهاي هو دافع إنساني أخلاقي بحت، فإنني لم أشعر أيضاً بأي امتعاض أمام المصير الذي لقيه هذا الزعيم البائس، بل لم أشعر بأي تردد في وصفه بالجلاد الجدير بما آل إليه. ولم يزعجني أن يكون "الغرب" هو الخصم والحكم في آن واحد، لأن هذه طبيعة الحروب: المنتصر هو الذي يفرض العدل من منطلق قناعاته. لقد تحالفت أوروبا ضد نابوليون بونابرت وهزمته في معركة واترلو وفرضت نفيه إلى جزيرة القديسة هيلانة حيث توفي أو دس إليه السم فمات. وتحالفت أوروبا والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي ضد النازية وفرضت محاكمة النازيين محاكمة دولية، وعلى رغم اني لا أعرف جيداً إلى أي من الصنفين تنتمي زعامة ميلوشيفيتش: إلى صنف الزعامة البونابرتية التي تلتقي فيها عبقرية فردية بجنون عظمة جماعي، أم إلى صنف الزعامة الهتلرية التي تلتقي فيها شخصية مجنونة بشعور جماعي بالضيم، فإني متأكد ان ميلوشيفيتش لم يكن عظيماً مثل بونابرت الذي ترك لشعبه أشاء أخرى كثيرة غير الدمار، ولا حتى مثل هتلر الذي انتحر حتى لا يقع بين أيدي الأعداء، بينما لم يجرؤ ميلوشيفيتش على ذلك، وقد هدد به، هو الذي نحر مئات الضحايا من دون ضمير. إنه مجرد ديكتاتور صغير أحسن صنعاً المسؤولون اليوغوسلاف عندما باعوه بذلك الثمن المرتفع، إذ العادة أن تدفع الشعوب الثمن لأخطاء زعمائها. فلمَ كل هذا القلق عندما انقلبت الصورة وقبض شعب بدل أن يدفع؟! لقد فهم الشعب الصربي الدرس السياسي الحديث: اخلاق الاقتناع ينبغي أن لا تعلو على اخلاق المسؤولية، وإلا جاءت النتيجة مناقضة للمطلوب. وعلى رغم شعور التململ الحالي، فإن اليوغوسلاف فتحوا الطريق الحقيقي للمستقبل.