"لن يعتدي عليكم أحد بعد اليوم". كلمات نقلت سلوبودان ميلوشيفيتش، بين عشية وضحاها، من شخصية غير معروفة ذات أصول انتحارية إذ قتل أبوه نفسه، ثم أمه، ثم أخوه كذلك، الى موقع الأبطال، وأصبح في نظر الصرب القائد الوحيد الذي دافع عن مصالحهم منذ الحرب العالمية الثانية، وهو ما ينطلق من كوسوفو ليعيد الى الصرب أمجادهم التي تغنت بها الأساطير والأشعار ردحاً من الزمن... ولم يكن أحد يظن أن ميلوشيفيتش سيرتفع الى هذا المستوى ويذيع صيته الى هذه الدرجة، فبداية حياته لم تكن تنذر بهذه المرتبة ولا بهذا السؤدد. ولد سنة 1941 في مدينة "بوزاريفتش"، وأصله من الجبل الأسود. كان أبوه مدرساً لعلم اللاهوت للكنيسة الشرقية، وأمه تعمل في التدريس أيضاً، وهي التي رعته بعدما تركها والده. كان شاباً نشطاً في النواحي السياسية والثقافية، ويشارك منذ دراسته الثانوية في كتابة المقالات والأشعار. وسنة 1962 قتل والده نفسه، وكان ميلوشيفيتش طالباً في الجامعة. وبعد احدى عشرة سنة على الحادث انتحرت أمه بالطريقة نفسها، وتبعهما أخوه الجنرال أيضاً. ولكن بعد رحلة دموية فظيعة وقصص لا يمكن تخيلها من الدمار والقتل والتشريد، خاضها ميلوشيفيتش وبطانته في ساحة البلقان شرقاً وغرباً، أصبحت أيامه منذ اندلاع الحرب الأخيرة في كوسوفو معدودة، بعدما تفرق عنه جمعه إنقاذاً لأنفسهم بعد رحلة مضت في نشوة كبيرة من الكبرياء القومي وذكريات الأمجاد الماضي. وإن كان ثمن تحقيق ذلك قتلاً وتشريداً وتطهيراً عرقياً. ساعد على لمعان نجم ميلوشيفيتش منح كوسوفو حكماً ذاتياً في دستور يوغوسلافيا للعام 1974 في عهد الرئيس جوزيف بروز تيتو، وكذلك إقليم فويفودينا، وأصبح لكل منهما ممثل لدى الحكومة الفدرالية، وحق "الفيتو" على أي تغيير دستوري يحصل في صربيا نفسها، فضلاً عن الهجرة المتتالية التي شهدها صرب كوسوفو منذ الستينات، ما ولّد لدى الشعب الصربي تذمراً وشعوراً بعدم إنصاف الدستور اليوغوسلافي لهم. وسنة 1987 ظهر ميلوشيفيتش على المسرح فجأة، ولم يمض على رئاسته للحزب الصربي أقل من سنة، فبدأ يقود التجمعات، والمسيرات ويلقي الخطب متناولاً قضايا حساسة مثل التاريخ والأرض والقومية الصربية، إشعالاً للجماهير التي بدأت تجتمع حوله، من المعادين للنهج الشيوعي بالظلم وضياع الحقوق الصربية، متوعداً الألبان في كوسوفو بالتعامل معهم كأقلية من درجة ثانية، فتحول في نظر الصرب بطلاً قومياً وأصبحت تتغنى به الأشعار. نجم يسطع عرف في بداية سطوع نجمه بأنه ذو أعصاب قوية وتركيز جيد، وأنه داهية سياسي لكنه ضعيف في التخطيط وقليل التخيل، لذا كانت الأحداث، تدهمه دائماً. أما ثقافته فمحدودة، وعلى رغم ذلك مكن حزبه من السيطرة على كل المرافق والأجهزة الحساسة، ولم يكن يظهر عداءه لمعارضيه وخصومه مباشرة، وكان صامتاً وقليلاً ما يظهر في المناسبات، إلا أنه قام بعمليات الإقالة وتغيير المناصب للمسؤولين المحيطين به منعاً لتنامي سلطاتهم. في بداية سنة 1993 لم يبق في السلطة إلا القليل من الوجوه الشيوعية السابقة بعدما أزاحها ميلوشيفيتش عن ساحة المسرح السياسي، مانحاً أصحابها مراكز أكثرها في المجالات الاقتصادية، ليضمن ولاءهم له. وكان لإقليم كوسوفو دور رئيسي في إبراز شخصيته على المستوى الصربي، لما يحظى به من مكانة عظيمة في الصرب، إذ يعتبرونه مهد مملكتهم، علماً أنه كان ولا يزال موطن أكثر من 90 في المئة من الألبان، فجعل وضعه يتحول إيرلندا شمالية أخرى في البلقان. ففي إحدى ليالي نيسان ابريل 1987 كان ميلوشيفيتش مجتمعاً مع أعضاء فرع الحزب الشيوعي في كوسوفو لدرس الأوضاع هناك، وإذا به يقفز تاركاً الجلسة بعد سماعه أصداء تظاهرة صربية كانت شرطة كوسوفو التي تضم ألباناً في صفوفها، تفرقها. فأعلن انه لا يمكنه البقاء في المبنى فيما الصرب يضربون خارجه! وتوجه الى المتظاهرين الصرب قائلاً "لن يضربكم أحد بعد اليوم". فخرجت تلك الكلمات لتكون خطته المستقبلية في إعادة السيطرة الصربية الكاملة على الأقاليم والجمهوريات الأخرى، بأي ثمن كان. وكانت بشرى للصرب بعودة فكرة "صربيا الكبرى" التي لم تمت ولم يقض عليها نظام تيتو. وكان يترأس الحزب الاشتراكي الصربي رابطة شيوعيي صربيا سابقاً، وهو الحزب الوحيد في أوروبا الشرقية الذي استطاع البقاء في السلطة منذ سقوط حائط برلين في 10 تشرين الثاني نوفمبر 1989. وكان السبب في هذا النجاح قيامه على الأسس الايديولوجية القومية ودعوى حماية المصالح الصربية بعد انهيار يوغوسلافيا، دأب القوميون، وعلى رأسهم ميلوشيفيتش، على المطالبة بتغيير الدستور وإلغاء الحكم الذاتي لإقليمي فويفودينا وكوسوفو. وتبعت هذه التغييرات المسيرة الكبرى، احتفاء بالذكرى ال600 لمعركة كوسوفو الشهيرة، التي انطلقت من معظم المناطق الصربية لتتجمع في كوسوفو بولي في 28 حزيران يونيو 1989، ورفع الصرب خلالها آلاف الصور لميلوشيفيتش. لكن انهيار يوغوسلافيا كان أولى الهزائم التي واجهت ميلوشيفيتش، وهو في بداية مسيرته، وأشدها. وقد جاء رد فعل على التوجه القومي في صربيا الذي أدى الى ظهور توجهات قومية مماثلة في بقية الجمهوريات اليوغوسلافية، ثم تحولت الى المطالبة بالانفصال التام عن الاتحاد. وكان استقلال سلوفينيا أولى خطوات هذا الانهيار، ثم كرواتيا التي تولى رئاستها فرانيو توجمان، وهو يحمل أيضاً أفكاراً قومية متشددة في التوسع نحو البوسنة والهرسك لإقامة كرواتيا الكبرى، فالتقى مع ميلوشيفيتش للتفاوض على تقاسم هذا الإقليم. لكن المفاوضات فشلت، ثم اندلعت الحرب في البوسنة والهرسك بين الجانبين الكرواتي الصربي من جهة والمسلمين العزل من جهة أخرى. واستطاع الجيش الكرواتي سنة 1995 ضم منطقة كرايينا التي قطنها الصرب منذ 400 سنة، بتنظيم وتدريب اميركيين. واعترفت المجموعة الأوروبية بالبوسنة والهرسك في نيسان ابريل 1992 على رغم مقاطعة الصرب عملية الاستفتاء، على أنهم يمثلون ما يقارب ثلث السكان، ما أدى بهم الى التعبير عن رأيهم في نتيجة الاستفتاء على الاستقلال بحرب اجرامية وتطهير عرقي، وشارك فيهما ميلوشيفيتش عبر الجيش الفدرالي اليوغوسلافي وآلته الحربية مباشرة وعبر دعم ميليشيات صرب البوسنة. وعندما فاز علي عزت بيغوفيتش في الانتخابات الرئاسية في البوسنة والهرسك سنة 1992، وأعلن استقلالها بعد ذلك مباشرة، ثم اعترفت المجموعة الأوروبية بها، كان ميلوشيفيتش يعاني تحدياً كبيراً في الأوساط الصربية المتناثرة عبر الجمهوريات اليوغوسلافية التي بدأت تنفصل واحدة تلو الأخرى. وبعد 9 آذار مارس 1991 انسحب الجناح السياسي لجنرالات الجيش من الحياة العمومية ليخلي الميدان أمام ميلوشيفيتش، فأصبح السلطة التي لا تُسأل، والجهة التي لا تُلام. لكن الجيش لم يكن آخر العقبات التي تقف في وجه الرئيس، لأن شخصية أخرى هي فويسلاف شيشل وحزبه الفاشستي الراديكالي المعادي للشيوعية، كانا رقماً مهماً على الساحة السياسية الصربية، ما اضطر ميلوشيفيتش الى التحالف معه، ما دامت الأفكار القومية هي التي تجمعهما وتوحد صفوفهما. وبعد توقيعه اتفاق دايتون نيابة عن صرب البوسنة، وبعد تحوله رجل سلام في نظر الغرب، أصبح من الضرورة لميلوشفيتش الاحتفاظ بهذه المكاسب بابعاد رادوفان كراديتش وملاديتش، من حلبة المسرح السياسي لصرب البوسنة، خصوصاً أنهما أضحيا مطالبين من طرف محكمة جرائم الحرب. لكنه، وإن كان لم يرد بقاءهما في الحياة السياسية، رفض ان يقعا في أيدي القوات الدولية، كي لا يشهدا على مشاركته في عمليات التطهير العرقي في البوسنة. وقد حول اتفاق دايتون ميلوشيفيتش من مجرم الى رجل سلام، ورفع عن بلده الحصار مكافأة له. فكان ذلك دعماً لنظامه مكنه من قمع مناوئيه وحرمانهم أي تنازل في السلطة. القشة... والبعير كان للتغاضي عن قضية كوسوفو في المجتمع الدولي في مفاوضات دايتون، أثر بالغ لدى ألبان الإقليم الذين وجدوا أنفسهم بين مطرقة ميلوشيفيتش وسندان العالم الغربي الذي يكيل بمكيالين. ووجدوا أن اتفاق دايتون اعترف بجمهورية صرب البوسنة التي لم يكن لها وجود في الواقع قبلاً، بينما اعتبرت كوسوفو مسألة صربية داخلية، وهي التي شهد لها التاريخ ببعدها عن صربيا من كل النواحي التاريخية والدينية والاجتماعية والقومية واللغوية. عندما انهارت الحكومة المدنية في ألبانيا، وشهدت البلاد حرباً أهلية شاملة بين الشمال والجنوب، خرجت أكثر من مليون قطعة سلاح خفيفة وثقيلة من ثكن الجيش باستيلاء الشعب عليها، وهنا وجد جيش تحرير كوسوفو ضالته في هذه الترسانة التي كان الرئيس الألباني الأسبق أنور خوجة جمع أكثرها من جارته يوغوسلافيا. وحاولت الولاياتالمتحدة تهدئة الوضع تجنباً لانفجار الوضع في البلقان برمته، وانهيار اتفاق دايتون، لكن جيش تحرير كوسوفو حسم أمره في الاستمرار في كفاحه حتى النصر. وشهدت سنة 1999 كراً وفراً بين ميلوشيفيتش والمجتمع الدولي، في محاولات مضنية لإقناعه بتوقيع اتفاق رامبويه، فرد كل الوسائط الدولية خائبة، ورفض المساومة على الاقليم وأبى أن يُهزم الصرب في ساحة كوسوفو مرة أخرى، وأعطى الأوامر للجيش اليوغوسلافي بالتحرك لحسم الأمر هناك. ... وانقلب السحر بعد عمليات قتل وحرق وتدمير وتشريد لما يقارب مليون شخص، تولاها الجيش اليوغوسلافي وميليشياته في كوسوفو، على غرار ما فعله في البوسنة والهرسك، قرر الحلف الأطلسي القيام بضربات جوية حاسمة ضد صربيا استمرت 73 يوماً أدت الى تدمير البنية التحتية الصربية، وأعادت اقتصادها الى الوراء حتى أرغم ميلوشيفيتش على الانصياع لقرارات الحلف، ثم الانسحاب من كوسوفو. ليس هناك أمرّ من الهزيمة في الحرب. لكن ميلوشيفيتش، كمثل أي طاغية، لم ير في الضربات التي أجهزت على البنية التحتية لبلاده هزيمة، بل اعتبرها نصراً في سلسلة كفاحه من أجل الحفاظ على امبراطوريته. ولم يعد له هذه المرة أي مرجع ديني، كما كان أثناء حروب البوسنة وكرواتيا عندما كان البطريرك الصربي يدعم مغامراته معتبراً إياها حرباً صليبية مقدسة، وأصبح بقاء ميلوشيفيتش ونظامه رهناً باستمرار الحماية المشددة التي يوفرها له الجيش والشرطة وجهاز الأمن السري. فإذا رفعت الحماية عنه، لا يبقى أمامه إلا أحد الخيارات الصعبة الآتية: إما اللجوء الى "دولة صديقة" مثل روسيا أو الصين أو كوريا الشمالية، وهو خيار صعب يجعله عرضة لمراقبة دقيقة من الاستخبارات الاميركية، وإما الانتحار على طريقة أفراد عائلته، وهو خيار محتمل، أو التصفية على يد أحد الاجهزة الثلاثة، أو غيرها، وهو خيار ممكن. وعلى رغم ما جرته سياسة ميلوشيفيتش ومغامراته على شعبه من دمار اقتصادي شبه كامل، حتى أضحت عائلات عدة تقتات من القمامة في بعض المدن، فإن عائلته تعيش بعيداً من هذا الجو، في عالم آخر من الرخاء، فابنه يمتلك ما يوصف بأكبر نادٍ في أوروبا يلتقي فيه كبار رجالات التهريب وعصابات المافيا والمخدرات وتتم فيه أكبر الصفقات لا شك في أن نهاية كابوس ميلوشيفيتش أصبحت وشيكة، وقد تكون لذلك عودة بعض الاستقرار الى صربيا داخل المجتمع الدولي الذي نبذها بسببه، إلا أن المراقبين للوضع الصربي يرون أن نهايته لا تعني نهاية آثاره المخيفة بل ستبقى ميلوشيفيتشات أخرى مختفية في الزوايا المظلمة للحياة الصربية، تحاول إنتاج مسلسلات ارهابية اعتادها الصرب وأصبحت جزءاً من حياتهم وتاريخهم وعاداتهم. * نائب المدير الاقليمي للاتحاد العالمي للصحافة والاعلام واستطلاعات الرأي.