في هذه السنة تحل الذكرى الثمانون لولادة الكاتب والروائي والسياسي الصربي المعروف دوبرتيسا تشوسيتش، الذي يعتبر احد مؤدلجي القومية الصربية في يوغوسلافيا السابقة صربيا الكبرى، حتى ان البعض يطلق عليه "أبو القومية الصربية". وفي الحقيقة ان هذه الذكرى تحل في وضع غير مريح بعد تعرض الإيديولوجية القومية الصربية لضربات قاصمة تدمير صربيا بالقصف الأطلسي وانسحابها في شكل نهائي من كوسوفو وتسليم ميلوشيفيتش الى محكمة دولية... الخ، كما تأتي الآن في وضع تتأرجح فيه صربيا بين الحنين الى الماضي القومي في عهد ميلوشيفيتش وبين التطلع الى المستقبل الذي يعد به رئيس الحكومة الليبرالي زوران جينجيتش. وشاءت إذاعة "ب 92" المستقلة في بلغراد، التي تعتبر من اكثر محطات الإذاعة في صربيا انتشاراً وتأثيراً، ان تحتفي بالمناسبة بشكل مختلف، وذلك بإصدار كتاب يتضمن مقابلات اجريت في السابق مع تشوسيتش. وهدف نشر الكتاب تحدده مقدمة المحرر التي يقول فيها ان الكتاب "واحد في سلسلة كتب تهدف الى فهم افضل لما قاد الى انهيار يوغوسلافيا". ومن الواضح هنا ان المحرر ينقل رأي قطاع من الصرب يعتقدون الآن ان تشوسيتش هو "المؤلف" الحقيقي لكارثة انهيار يوغوسلافيا السابقة. وفي هذا الإطار يقارن البعض تشوسيتش بفرنكنشتاين لأنه هو الذي "خلق" ميلوشيفيتش لكنه عجز عن السيطرة عليه حتى سقط ضحية له. وتجدر الإشارة الى أن تشوسيتش انضم في وقت مبكر الى الحزب الشيوعي اليوغوسلافي الذي ساهم بعد توليه السلطة في 1945 في الترويج لتشوسيتش كاتباً في المستوى اليوغوسلافي العام. ويمكن القول ان الخمسينات وبداية الستينات شهدت صعوده المتواصل في عالم الأدب والسياسة، إذ اصبح من المقربين الى تيتو حتى انه غدا كاتباً لخطاباته ومصاحباً له في جولاته خارج يوغوسلافيا. ويبدو مما ينشر الآن في بلغراد جريدة "داناس" البلغرادية 11/10/2001 ان تشوسيتش كان يحظى بثقة تيتو في اصعب الأوقات، وبالتحديد خلال الخلاف داخل الحزب/ الصراع على السلطة الذي اندلع في نهاية 1965 وبداية 1966 بين ما سمي حينئذ "الاتجاه اليميني" أ.رانكوفيتش و"الاتجاه اليساري" ا. كارديل. وتمخض الخلاف/ الصراع على السلطة في صيف 1966 عن اقصاء "الاتجاه اليميني" كان يضم غالبية صربية الذي كان يهيمن على اجهزة الأمن ويمارس سياسة متشددة إزاء الألبان في شكل خاص والمسلمين في شكل عام في يوغوسلافيا. ومع هذا الانعطاف شهدت يوغوسلافيا تعديلات دستورية اعطت المزيد من الصلاحيات لإقليم كوسوفو والجمهوريات اليوغوسلافية وانتهت الى وضع دستور 1974 الذي اسس يوغوسلافيا جديدة. إلا ان تشوسيتش كان اول من عارض علانية هذه التعديلات الدستورية التي رآها تتعارض مع مصلحة الصرب ووصل الأمر الى فصله من الحزب الشيوعي في 1968. وبعد فصله اعتكف في البيت للتأليف، وأصدر في مطلع السبعينات روايته الجديدة "زمن الموت" التي تتحدث عن معاناة الصرب في الحرب العالمية الأولى. وقد اصبح هذا المصير معاناة الصرب موضوعه المفضل لرواياته اللاحقة ك"المؤمن" و"الخائن"، التي غدت ذات نزعة قومية اكثر ومعادية للشيوعية اكثر. وجاءت هذه الروايات في الوقت الذي اخذ الوضع الاقتصادي الاجتماعي والسياسي يتفاقم في يوغوسلافيا بعد وفاة تيتو 1980، حيث اخذت تنتشر في صربيا المشاعر والأفكار القائلة إن الصرب هم الضحية الأولى ليوغوسلافيا التيتوية. وخلال هذه السنوات/ الثمانينات، التي شهدت بداية تبلور المعارضة الصربية العلنية ليوغوسلافيا التيتوية بحسب دستور 1974، كان تشوسيتش ينقل نشاطه الى الأكاديمية الصربية للعلوم والفنون التي تحولت الى معقل لهذه المعارضة الصربية، وأخذت تجذب إليها المزيد من المثقفين الصرب بمن فيهم الرئيس الحالي فويسلاف كوشتونيتسا. وفي هذا الإطار كان تشوسيتش ينشر افكاره القائلة ان الصرب يخسرون في السلم ما يكسبونه في الحرب، وأن الصرب يضحون بأنفسهم في سبيل الآخرين في يوغوسلافيا بينما ينتظر الآخرون اول فرصة لطعن الصرب في ظهرهم. وهكذا بدا لتشوسيتش وزملائه في الأكاديمية ان الوقت حان لمنع "الآخرين" في يوغوسلافيا من إلحاق المزيد من الضرر بالصرب. ولم يبق في هذه الحال إلا البحث عن مسؤول سياسي يقود هذا العمل، ولم يكن هذا المسؤول المنتظر إلا الشاب سلوبودان ميلوشيفيتش الذي تحول في ليلة وضحاها الى "منقذ الشعب الصربي". وبعد تولي ميلوشيفيتش السلطة في 1987 رئيس الحزب الشيوعي في صربيا اصبحت الإيديولوجية القومية الصربية هي الحاكمة في بلغراد، ما اثار الشعور بالخطر لدى الجمهوريات الأخرى التي اخذت تستعد للانفصال/ الاستقلال عن يوغوسلافيا. ومع انفراط يوغوسلافيا التيتوية خلال حروب 1991- 1992 تشكلت يوغوسلافيا الجديدة / الحالية من صربيا والجبل الأسود في 1992 وانتخب رئيساً لها "أبو القومية الصربية" تشوسيتش تكريماً لدوره في تحقق المشروع القومي الصربي صربيا الكبرى. وما حصل لاحقاً ان ميلوشيفيتش لم يشأ ان يحكم برعاية من يعتقد انه هو الذي اوصله الى السلطة، لذلك اطاح تشوسيتش في البرلمان اليوغوسلافي في 1993 بواسطة انقلاب مدبر/ سحب للثقة بالتعاون مع الزعيم القومي المتعصب فويسلاف شيشل، وبذلك وجه إهانة لا تنسى الى تشوسيتش الذي بقي يحقد عليه باستمرار. ولذلك هناك من يعتقد في بلغراد ان تشوسيتش لعب دوراً في إلحاق الهزيمة بميلوشيفيتش في تشرين الأول اكتوبر 2000 وفي تسليمه الى محكمة العدل في نيسان ابريل 2001، وذلك لرد الإهانة التي ألحقها به ميلوشيفيتش في 1993. وفي هذا الإطار يعود السؤال من جديد الى الهدف من إصدار هذا الكتاب عن تشوسيتش: هل هو تكريم له في هذه الفترة التي تشهد انتعاش المشاعر/ الأفكار القومية لدى بعض الصرب، أم تجريم له عن دوره في "خلق" ميلوشيفيتش وانهيار يوغوسلافيا السابقة الذي أدى الى أكبر مأساة للشعب الصربي نفسه؟ ففي هذا الكتاب يعترف تشوسيتش بارتكاب بعض الأخطاء، لكنها بالنسبة إليه لا شيء في إطار ما يعتبره عمله المتواصل لأجل "تقدم الأمة". ولكن، في هذا الكتاب، يلاحظ ان تشوسيتش لا يزال على مواقفه السابقة التي تبدو الآن مدعاة للإحراج، وربما يكون الهدف من الكتاب "تذكير" الصرب بمثل هذه المواقف في المناخ الجديد الذي تعيشه صربيا الآن. وهكذا فإن تشوسيتش لا يزال يصر على الإشادة بما فعله "أبطال" الصرب في البوسنة خلال 1992- 1995 من امثال رادوفان كاراجيتش، الذي يخصه بالمديح ويرفض بشدة ان يعتبره "مجرم حرب". ما الفارق اذاً بين تشوسيتش وميلوشيفيتش وكاراجيتش؟ * كاتب كوسوفي - سوري.