لنتأمل، بداية، في عدد من الوقائع التي تمس موضوع العولمة وحالها ومستقبلها: 1- مع اصرار ادارة جورج بوش على تنفيذ مشروع الدرع الصاروخية المضادة للصواريخ، ومع التهديد الروسي بتطوير الصواريخ المتعددة الرؤوس النووية، وتوقيع المعاهدة الصينية - الروسية للتعاون وحسن الجوار، يكون العالم إزاء مرحلة سباق تسلح خطر، وبداية تكتلات قد تتحول الى أكثر من تعاون وحسن جوار، الأمر الذي يجب ان يسجل كمتغير جديد في الوضع الدولي يهز مقولة عالم القطب الواحد والتي كانت الأساس في اطلاق ما سمي بالعولمة. فإذا صح ان العلاقات في ما بين الدول الكبرى متجهة الى شكل ما من تعدد القطبية فهذا يعني تغييراً أساسياً في حال العولمة ومستقبلها. 2- كيف يمكن لدول العالم ان تنفذ أجندة منظمة التجارة العالمية اذا كانت الدولة الصناعية الغنية تدعم، أو تحمي، زراعتها وثروتها الحيوانية ببليون دولار يومياً؟ وكيف يمكن ان يطلب من الدول المتوسطة التطور والأقل تطوراً والأشد فقراً ان ترفع الدعم والحمايات عن صناعتها وزراعتها وتجارتها، حتى عن قوت شعبها، بينما لا تستطيع اميركا واليابان الاتفاق على رفع الدعم الذي تقدمه اليابان لزراعتها لا سيما الأرز. أو تتفق اميركا وأوروبا على اشكالية دعم كل منهما لزراعتها ومنتجاتها الحيوانية؟ فمن جهة أثبتت الوقائع ان حل هذه الإشكالات في ما بين الدول الكبرى دخل طريقاً مسدوداً، ومن جهة اعترف الأمين العام لهيئة الاممالمتحدة ورئيس البنك الدولي في ندائيهما المنفصلين الى قمة جنوى الأخيرة، بأن دعم الدول الغنية لزراعتها ببليون دولار يومياً يلحق الأضرار بالدول الأخرى، والفقيرة منها خصوصاً. 3- اعتُبر تقديم القانون الاميركي اعفاءات ضريبية للمصدرين الاميركيين ليتمكنوا من المنافسة، مخالفاً لقوانين منظمة التجارة العالمية كما قررت ذلك هيئة فض المنازعات في منظمة التجارة العالمية، وذلك بناء على شكوى تقدمت بها المفوضية الأوروبية. وكان الدعم الذي وفره القانون المذكور للمصدرين الاميركيين قد بلغ أربعة بلايين دولار خلال أقل من عام. وإذا كان مصير الاستئناف مثل مصير الحكم الآنف الذكر سيكون من حق أوروبا فرض عقوبات بمبلغ أربعة بلايين دولار على اميركا تعويضاً للخسائر التي لحقت بها بسبب القانون المذكور. ويكفي لمن يستخف بمثل هذه التناقضات التي يتوقف عليها جزء أساسي من مصير العولمة، ان يتفكر جيداً بتصريح ممثل الولاياتالمتحدة في منظمة التجارة العالمية والذي وصف فيه قرار هيئة فض المنازعات بأنه بمثابة "قنبلة نووية" نقلاً عن ريتش توماس، الهيرالد تريبيون في 3/7/2001. 4- يعدد ريتش توماس في مقاله المشار اليه اعلاه مجموعة من الحقائق الأخرى مثل وضع أوروبا الفيتو على دمج شركة "هنيويل" ب"جنرال الكتريك" بعد ان حصل الدمج على موافقة الادارة الاميركية، الأمر الذي عطله، ونزل نزول الصاعقة على بوش نفسه. ويصف رفض أوروبا انتاج الأغذية المعدلة جينياً واستيرادها معوقاً للاتفاق على الأغذية، مما يشكل ضربة اخرى في الخاصرة للمصالح الاميركية، ويجعل من أوروبا مركز أمان غذائي. وباختصار يرى توماس ان أوروبا اذا لم تستطع ان تفرض على الولاياتالمتحدة إلغاء عقوبة الاعدام، أو وقف مشروع بوش حول الدرع الصاروخية، إلا انها اخذت تحقق انجازات هائلة في تحديد أجندة نظام الاقتصاد العالمي، مؤكدة الشعار الذي راح يُرمى في وجه اميركا وهو "السوق العالمية ليست سوقاً اميركية". واعتبر ان "السوق الاميركية الآن لم تعد سوقاً اميركية"، اذ اصبحت مخترقة من كل جانب. فخلال السنوات الثلاث الماضية تشكلت في الولاياتالمتحدة 2779 شركة اجنبية برأس مال قدره 766 بليون دولار وكان نصيب اوروبا منها يتجاوز ثلاثة أرباعها. ففي ظل العقد الماضي صدر قانون أوروبي عام 1990 على نسق القانون الاميركي الصادر عام 1890 ضد الاحتكار. لكنه لم يستخدم إلا في الآونة الأخيرة حين ارتُكز عليه في معارضة اندماج شركة "هنيويل" ب"جنرال الكتريك"، وأصبحت المقولة الاميركية الشهيرة "الضخم سيء" تعاد اليها مع الاحترام من الاتحاد الاوروبي لعرقلة تضخم شركاتها العملاقة. ويصف تشارلز رول رئيس مقاومة الاحتكار في عهد رونالد ريغان الوضع بالقول: "يقود الاتحاد الأوروبي الآن مرحلة الإتجار العالمي ضد الاحتكار. وبهذا لا يبقى أمام الولاياتالمتحدة اذا أرادت ان تستعيد زمام المبادرة إلا ان تتدخل أكثر من أوروبا ضد الاندماجات الكبرى، أي الكارثة" لما يسمى بالعولمة. من هنا يجب ان يُقرأ ما وراء تصريح وزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد الذي خرج على كل لياقة حين اعتبر أوروبا "مجرد مساحة عقارية"، أو تصريح بوش وهو ذاهب الى جنوى "نحن عازمون على الاستماع، لكنني سأستمر في الدفاع عمّا أراه في مصلحة بلدنا والعالم". والسؤال كيف سيكون حال العولمة اذا لم تتفق اميركا وأوروبا على أجندتها وكيفية التعامل مع منظمة التجارة العالمية. فما لم تمتلك اميركا القدرة على الإملاء، واذا وجدت ان السحر انقلب على الساحر، فستكون أول من يحطم الصنم، لأنها وهي الدولة الكبرى الأغنى والأقوى في العالم، ما زالت تستطيع تعطيل ما لا تريد وإن لم تستطع فرض ما تريد. ولهذا فإن كل من يتناول موضوع العولمة وحالها ومستقبلها عليه ان يلحظ أنها آخذة بالتحول الى نظام صراع بين القطبين الاقتصاديين، أولاً وقبل كل شيء، أميركا وأوروبا. وهذا ليس في مجال التنافس الحر بين الشركات المتعددة الجنسية المتعدية الحدود فحسب، وليس على الاستثمار والامتيازات الخارجية فحسب، وانما ايضاً، وهذا الأخطر والأهم، على قوانين العولمة وتطبيقاتها عبر منظمة التجارة العالمية، حيث تتواجه الدول وتلعب الدور الأساسي. فالنظام الاقتصادي العالمي الراهن وعلى مدى خمس سنوات أو عشر مقبلة ليس ذاك الذي حاولت ادارة كلينتون في عهديها فرضه وقيادته والتحكم بتطبيقاته وتفصيلاته، وليس ذاك الذي حلم به بوش الأب ويحلم به بوش الإبن، الأمر الذي يكشف عن فجوة بين النظرية والواقع. على ان أمام العولمة مأزقاً آخر يتمثل في الصحوة التي اخذت تعم دول العالم خارج العالم الصناعي المتطور، اذ بدأت الأصوات ترتفع من كل مكان في آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية والوسطى تطالب بمراعاة مصالحها، وبنظام عالمي اكثر عدالة وانصافاً. وإذا شاء البعض الإصرار على نظام العولمة فالمطلوب احداث تعديلات جذرية فيها لتكون أكثر توازناً ومراعاة لمصالح كل دول العالم، وليس دولة واحدة أو الدول الغنية فقط. وهو ما عبر عن نفسه من خلال مجموعة ال15، واللقاءات القارية والاقليمية المتعددة في افريقيا وآسيا واميركا الوسطى والجنوبية. وبعضها راح يُعقد تحضيراً للمواجهة في مؤتمر منظمة التجارة العالمية المقبلة في الدوحة. فالعولمة بعد انحسار هجمتها الأولى، أو موجتها التي بدت عاتية، وبعد التراجع الذي راح يدب في أوصال الاقتصاد العالمي، وبعد تطاير الأوهام التي وعدت الشعوب الفقيرة بتحسن أوضاعها أو بالتنمية المستدامة، أصبحت فاقدة حجّتها، وربما دخلت قفص الاتهام، أمام اكتشاف ما تستبطنه من توحش في حصد الأرباح الخيالية ونهب ثروات الدول الأضعف لمصلحة القلة التي راحت تزداد غنى، بينما راحت غالبية شعوب العالم تزداد فقراً، واصبحت الأمراض الفتاكة مثل الإيدز والسل وحتى الملاريا تفتك بعشرات الملايين لا سيما في افريقيا التي تواجه حالة إبادة. ومن هنا طفق قادة العولمة ومنظّروها يتحدثون عن ضرورة أنسنتها ومراعاتها لحاجات البشر وإسباغ الاخلاقية عليها، وهذه كلها من نقائضها بالضرورة والحتم. المهم الآن ان نلحظ ان العولمة التي طالبت الشعوب، في العقد الماضي، بالتكيف وإياها اصبحت الآن مطالبة هي بالتكيف وبإجراء التعديلات الاساسية على نظامها. الأمر الذي يرشح الخمسية، أو العشرية المقبلة، لتشهد دوراً أكبر وصوتاً أعلى في مواجهة العولمة من قبل غالبية دول العالم وشعوبها. واذا كانت العولمة دخلت مأزقها الخانق مع اندلاع سباق التسلح الذي أطلقه مشروع الدرع الصاروخية والردود الروسية والصينية عليه، واذا كانت تهتز من علٍ بسبب الصراع الأوروبي - الاميركي حول الحمايات والقوانين المتعلقة بالحوافز، والاحتكار، وتطبيق اتفاقات التجارة العالمية وما شابه، واذا كانت المطالبة بالتكيف واجراء التعديلات في مصلحة الدول النامية وفقراء العالم، فإنها في أزمة ايضاً مع اعداد متكاثرة من الشبيبة في أوروبا واميركا وكندا فضلاً عن أزمتها مع معارضيها في سائر القارات. فعندما يتجاوز المحتجون على قمة جنوى مئتي ألف متظاهر يطالبون بإلغاء ديون العالم الثالث، وبتجارة عادلة لا "تجارة حرة"، ويدينون العولمة في تعاطيها ومشاكل الفقر والمرض والبيئة والبطالة، تكون العولمة دخلت قفص الاتهام من دون تقديم الحجة المقنعة المقابلة. وهذا يفسر تسليط الأضواء على العنف الذي مارسته قلة من المحتجين، بينما مرت صور الفضائيات مروراً خاطفاً بحركة مئات الألوف وما رفع من شعارات. أي الإمساك بإشكالية العنف، وان كان العنف المضاد أشد، وربما مجلبة له، بدلاً من تناول جوهر المشاكل ورؤية الظاهرة الأكبر والأهم والأفعل في مواجهة العولمة: ظاهرة تحول قوى الاحتجاج الى مئات الألوف، وبسرعة فاقت كل تصور، وبما أذهب هباء كل الاحكام التي أرادت ان تصور معارضي العولمة في الغرب مجرد زمر من الفوضويين واليساريين البائدين والبيئويين المهمشين. ففي جنوى تحول الاحتجاج على العولمة حركة جماهيرية شاركت فيها آلاف النساء من شرفات بيوتهن وهن يلوحن لموكب بوش بما يليق ولا يليق، تعبيراً عن احتجاج شعبي يتجاوز حتى المشاركين في التظاهرات المعارضة للعولمة.