اعتبر المؤتمر الوزاري الرابع لمنظمة التجارة العالمية، في الدوحة ناجحاً. ولكن من نمط النجاح الذي يتجنب الفشل. فقد سادت اجواء تحذيرية في المؤتمر تقول ان فشل مؤتمر الدوحة بعد الفشل الذريع الذي مني به المؤتمر الوزاري الثالث في سياتل، يعني توجيه الضربة القاضية لمنظمة التجارة العالمية واتفاقياتها. وقيل ايضاً ان فشله فشل للعولمة وادخالها في الفوضى. لهذا ساد حرص في المؤتمر على عدم الفشل حتى لو لم يتحقق تقدم حقيقي على طريق الاتفاق. وازداد هذا الحرص كلما اقترب المؤتمر من نهايته من دن اتفاق على البيان الختامي، مما استوجب ان يمدد يوماً طويلا سادساً استغرق في صوغ عبارة البيان بشكل يتيح تمريره بالتي هي احسن. فمثلاً وافقت فرنسا على البيان بعد ان عدّلت عبارة "الالغاء التدريجي" للدعم المقدم لتوابع التصدير الزراعي باستخدام عبارة "بلا حكم مسبق على نتائج المفاوضات" مع ادراج الموضوع على اجندة جولة المفاوضات الجديدة لتحرير التجارة. وعليه قس. وهكذا اخرج بيان اللحظة الاخيرة "اتفاق" اللحظة الاخيرة. من ثم لا يمكن اعتبار الاتفاق في هذه الحالة، اتفاقاً ولا البيان بياناً… لأن الفارق كبير بين اتفاق الهروب من الفشل من خلال تحويل الخلافات الى جولة مفاوضات قادمة، او اتفاق انقاذ ماء الوجه من جهة، والاتفاق الحقيقي الصادر عن قناعات وتصميم جدي على التنفيذ. ثم ان مستقبل تحرير التجارة العالمية، في قابل الايام والاشهر لا يمكن ان يقرأ، حتى جزئياً، من خلال البيان وانما من خلال ما سيحدث في جولة المفاوضات والمحكومة بما سيسودها من معادلة دولية في حينه. فالاشكالات التي اثارتها ماليزيا والهند ومصر والبرازيل والمجموعة الافريقية جنوبي الصحراء وعدد من دول اميركا اللاتينية، كتلك التي اصرت عليها الولاياتالمتحدة الاميركية والاتحاد الاوروبي واليابان، دخل اكثرها في اجندة جولة التفاوض القادمة. اي لتفجر الخلافات من جديد. ولهذا لا نستطيع القول ان منظمة التجارة العالمية حققت خطوة اولى الى امام، باستثناء انضمام الصين اليها، وحتى هذا ليس اكثر من تقدم ظاهري ستدفع المنظمة ثمنه لاحقاً. فتجنب الفشل لا يشكل خطوة الى امام بالمعنى الايجابي. بل يمكن القول انها عادت خطوة الى "الوراء" وبالمقاييس الاميركية الاوروبية ما دامت ستعود الى مفاوضات عسيرة حول قضايا حسبت منتهية، واعتُبرت مقررة ونافذة، او في طريقها الى النفاذ. وكان هذا ثمن المساومة مع دول العالم الثالث التي استُغفلت، او أُرهبت، فغُبنت عند توقيع اتفاقية منظمة التجارة العالمية والاتفاقية العالمية لحقوق الملكية الفكرية، او الانضمام اليهما. بكلمة ان ما تفجر داخل اروقة المؤتمر من خلافيات وتم تجاوزه بشق الانفس والوان من الضغوط والترهيب والترغيب، وبارع العبار يمثل الاسهل. فالاصعب آت، ان قدر له ان يأتي لأن عالمنا الراهن هو غير العالم الذي ستجري في ظله سلباً او ايجاباً مفاوضات من المتوقع لها ان تمتد سنين عدة. اما من زاوية اخرى فان اهم ما حدث في مؤتمر الدوحة كان بروز دول العالم الثالث والرابع الفقراء والخامس الاشد فقراً طرفاً اصبحت له كلمته في منظمة التجارة العالمية. ولم يعد من الممكن تجاهله، او عدم مراعاة مصالحه ولو نسبياً، عكس ما كان الحال عندما طبخت اتفاقات التجارة العالمية وحقوق الملكية الفكرية والصناعية في ما بين الدول الغنية فقط، وبقيادة اميركا وسطوتها التي تضخمت وضُخمت في تسعينات القرن الماضي. فالعولمة لم تعد "قدراً" لا تملك الدول الفقيرة، بل الدول الاقوى، في العالم الثالث، الا التكيّف الغبي معه، والاستسلام له، وقبول اجندته كما هي، بلا ممانعة من خارجها، او من داخلها. فالعولمة والاتفاقات التي ارادتها لها غطاء اصبحت تحت المراجعة والتعديل كما تحت الاعتراضات، ليس من خلال الشارع الغاضب عليهما والمطالب بتغييرهما من الاساسات فحسب، وانما ايضاً من قبل دول العالم الثالث التي اكتشفت انها اذا لم تتحرك فأمامها انظمة وقوانين للتجارة العالمية اقل ما يقال فيها انها ظالمة ومنحازة وفي غير مصلحة فقراء العالم ودوله النامية. فكفى ما لحقها من اضرار حتى الآن. ومن ثم فمع تعاظم دور دول العالم الثالث في مؤتمر الدوحة خرجت مقالات كثيرة في اوروبا والولاياتالمتحدة لتقول ان العولمة اصبحت "اكثر اتزاناً" او "اكثر عدالة" بسبب ما ادرج في اجندة جولة المفاوضات الجديدة. مثلاً بحث حق البلدان الفقيرة في خرق براءة الاختراع وحقوق الملكية الصناعية بالنسبة الى ادوية معينة في حالة الاوبئة، او تعرض الصحة العامة للخطر، او التفاوض على اعطاء مساعدات مقابل رفع الجمارك في بعض البلدان، او فتح اسواق الدول الغنية امام بضائع وزراعة الدول الفقيرة، او التشديد على الربط بين التجارة والتنمية مما قد "يُدخل هدفاً اخلاقياً على العولمة عساها تقلل من اعدائها الكثر. فهذه وان اعتبرت انجازات الا انها ما زالت في مقام المشروع ليس الا، فهي متوقفة على المفاوضات القادمة، والاهم ارتباطها بتطورات الوضع الدولي ما بعد الحرب ضد افغانستان وما قد يتلوها من حروب. هذا من دون ذكر البنود المقابلة التي تريد اميركا والدول الغنية فرضها. مثلاً، فتح اسواق بلدان العالم الثالث للبنوك الاجنبية وشركات التأمين والسماح للمنافسة العالمية بدخول عطاءات الحكومات الوطنية على قدم المساواة مع الشركات المحلية، فضلاً عن ربط قضايا البيئة بقوانين التجارة، وما شبه من مصائب في طرقها لتزيد في افقار تلك البلدان. وبالمناسبة هل سيتنبه، مع نهوض دول العالم الثالث للتخفيف من غلو العولمة، تكنوقراطيو هيئة الاممالمتحدة ومنظماتها، والأولى، تكنوقراطيو حكومات تلك الدول الى ان يكفوا عن الهرولة وراء العولمة والانسحاق امامها، كما فعل اغلبهم خلال العقد الماضي بلا نظرة فاحصة، وتحليل نقدي، وبتعامٍ مذهل عن رؤية النتائج السلبية التي لحقت ببلدانهم بسبب العولمة. فهذا التكنوقراط يجب ان يصحو الى نفسه، والى مصالح بلاده، ولا يحسبن ان حمل لقب خبير او مختص يجعله كذلك ان لم يفهم في السياسة والعلاقات الدولية ويكون له موقف في تحقيق تضامن عالمي في مواجهة مظالم العولمة. ودرس آخر: اذا كانت منظمة التجارة العالمية قد هربت بمؤتمرها الى الدوحة خوفاً من الشارع في البلدان الغربية، فقد استمر معارضوها في المواجهة من خلال نشاطات رمزية كثرية شملت اغلب العوصم والمدن في اوروبا واميركا بالرغم من ظروف الحرب على افغانستان. وكانت بيروت في قلب تلك النشاطات هذه المرة، كما عبّر عن ذلك مؤتمران عربيان عقدا قبل انعقاد مؤتمر الدوحة هما "الملتقى العربي الدولي لمناهضة العولمة" و"المنتدى العربي حول العولمة". هذا الى جانب ثلة من معارضي العولمة شاركت في اروقة المؤتمر نفسه في الدوحة، فضلاً عن باخرة "السلام الاخضر" التي رست في الميناء. ولعل اطرف شعار كان الذي كتب على الصناديق التي أُدخلت الى المؤتمر لجمع الاوراق الكثيرة التي تلقى في صندوق القمامة من اجل اعادة تدويرها حفاظاً على البيئة واقتصاداً باستنزاف الموارد الطبيعية، اذ كان منطوقه "اعيدوا تدوير منظمة التجارة العالمية"، اي: كما يجب اعادة تصنيع الورق المستهلك. اما الاهم فكان التأثير الذي مارسته شعارات معارضي العولمة من جهة نقد وحشيتها ومظالمها او المطالبة بأنسنتها وجعلها اكثر اخلاقية وعدالة ان لم يكن اقامة نظام اقتصادي عالمي جديد. الامر الذي ساهم في تجروء دول العالم الثالث، ووضع قادة العولمة ومنظريهم في مواقع الدفاع والتراجع ولو مناورة وخداعاً، من خلال مشاركتهم في الحديث عن ضرورة ادخال ابعاد اخلاقية وانسانية واجتماعية وتنموية على اتفاقات التجارة العالمية. فقد اصبح على اساطين العولمة ان يفاوضوا الفقراء ويناوروا وينحنوا عكس ما كان الحال عندما قدموا العولمة وهم يظنون انهم امتلكوا العالم وامسكوا بالحقيقة الوحيدة للتجارة العالمية والعلاقات الدولية. وبكلمة، لقد اكد ما جرى في مؤتمر الدوحة على اهمية التضامن الشعبي والشبابي العالمي لمناهضة العولمة، كما اهمية ما وجه اليها من نقد معرفي اقتصادي وسياسي واخلاقي وانساني، كما اهمية تضامن دول العالم الثالث وتجرؤها في المواجهة والدفاع عن مصالحها. وأخيراً، ثمة سؤالان على هامش تجربة العولمة ومواجهتها: الاول هل الاصوب العمل على تعديل بعض بنود الاتفاقات التجارية العالمية والضغط من اجل انسنتها وربط التجارة بالفقر والمرض والتنمية واعطائها ابعاداً اجتماعية واخلاقية، كما تفعل دول العالم الثالث ومجموعات من النخب والمحتجين على العولمة، ام ان ذلك مناقض لطبيعة الشركات العملاقة متعددة الحدود، والباحثة عن اقصى الارباح، بغض النظر عن النتائج المترتبة ومتعارض مع جوهر الهيمنة العالمية، ومن ثم ليس هناك من حل غير نظام اقتصادي عالمي بديل يتشكل من خلال اجماع دولي، ويكون اكثر عدالة وانصافاً اذ يجعل قضايا التنمية ومحاربة الفقر والامراض في مستوى التجارة بل اهم. فتصبح ارباح التجارة ضمن المعقول وبعيدة عن الغبن وليس مطلقة العدّ بلا عدالة او وازع من ضمير؟ اما الجواب فيمكن ان يعبر من خلال الاتجاهين: تدعيم مواقف دول العالم الثالث ومطالبها جنباً الى جنب مع التأكيد على ان الحل الصحيح والافضل اقامة نظام اقتصادي عالمي جديد. السؤال الثاني: هو هل تستطيع، او تقبل، اميركا ان تتفق مع الدول الاخرى ام انها تتفق اذا فرضت موقفها، والا فالفيتو، او الصراع؟ ولعلها كانت تتهيأ قبل 11 ايلول سبتمبر الماضي لتجمد منظمة التجارة العالمية او تنسحب منها كما فعلت مع عدة اتفاقات عالمية اربعة عشر اتفاقاً، مثلاً بروتوكول كيوتو بشأن الانحباس الحراري، او المطالبة بالغاء اتفاق "اي. بي. ام" لعام 1972، او رفض التوقيع على اتفاقية تحريم الالغام المضادة للافراد. ومن ثم فان حرصها على عدم فشل مؤتمر الدوحة مرتبط بتركيزها على حربها ضد افغانستان، ولا يعبر عن موقفها اذا ما استعيدت اجواء اوائل التسعينات من القرن الماضي، لأنها عندئذ ستعود الى سياسة الاملاء والفرض. اما اذا عادت المعادلة الدولية الى ما كانت عليه قبل ذلك التاريخ فالاغلب انها ستفضل الاتفاقات التجارية الثنائية على الالتزام بأية اتفاقات دولية قد تلحق بها خسائر. فالتأمل المعمق في موقف اميركا من اتفاقية كيوتو، وهي التي تمس حياة كل البشر ومستقبل الاجيال اللاحقة، يكشف عن منهج ادارة جورج بوش الابن في علاقته بالدول الاخرى والعالم، بل يكشف ما ينتظر جولة المفاوضات الجديدة لتحرير التجارة من قبل المفاوض الاميركي: ان كان قادراً على ان يملي ولا يساوم، او كان محتاجاً للمماطلة او المساومة في حدودها الدنيا، او تجاوز الاتفاقيات الدولية وأطرها في حالة ثالثة؟ فذلك هو النهج الذي طبّق دائماً مع مجلس الامن وهيئة الاممالمتحدة، فلماذا يختلف الوضع مع منظمة التجارة العالمية واتفاقياتها. فصاحب مشروع منظمة التجارة العلمية قد يكون اول من يزعزع اركانه ان اقترب من العدالة او الانسنة او الاستخدم، جزئياً، في غير مصلحته.