اذاً، فالعولمة تفرض سيادتها وهيمنتها الكونية علي مختلف الأصعدة والمستويات الإنتاج، التسويق، التبادل من خلال سيطرة الشركات متعدية الجنسية حوالى 500 شركة وهي في معظمها شركات أميركية وأوروبية ويابانية المنشأ ومن خلال آليات التحكم والضبط المتمثلة في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، والعولمة التي هي امتداد وتطور في المسار التاريخي للرأسمالية منذ نهاية القرن الثامن عشر من الليبيرالية الوطنية التجارية الى الاحتكارات الصناعية الامبريالية تسعى من خلال "الليبيرالية الجديدة" وأيديولوجيتها إلى تجنيس العالم بأسره ويتجسد ذلك في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة ونمط الحياة والمعيشة والاستهلاك، مستفيدة في ذلك من احتكارها وسائل التكنولوجيا والاتصال والإعلام والمعلومات وهيمنتها على قطاع المال والمصارف والصناعة الرفيعة. غير أن هذه السيطرة تأخذ أبعاداً مختلفة ومتناقضة كما تثير جملة من التوترات على مختلف الأصعدة سواء في بلدان المركز أو الأطراف في ظل حال الاستقطاب السائدة. فالعولمة ليست نظاماً عالمياً يتطور بانسجام وتوازن ما بين مكوناته بل يولد باستمرار حال التركيز والتمركز والاستقطاب للثروة والسلطة والقوة والهيمنة المراكز من جهة وحالة الفقر والاستلاب والتداعي والتهميش الأطراف من جهة أخرى، ويمتد عميقاً على المستويين الأفقي والعمودي ليشمل العالم بأسره. وتبرز بلدان العالم الثالث باعتبارها الضحية المباشرة لنظام العولمة، كما كانت في السابق ضحية لنظام السيطرة الاستعمارية والهيمنة الامبريالية طوال عشرات السنين من النهب والاستعباد والاستحواذ على خيراتها وثرواتها ومقدراتها. وفي هذا السياق فإن قمة ال77 في هافانا التي شارك فيها قادة وممثلون ل122 دولة، والتي انعقدت في منتصف نيسان أبريل الماضي، أكدت ضرورة مشاركة بلدان الجنوب في صياغة نظام عالمي جديد يتيح تحقيق العدالة والمساواة، ويردم الهوة بين الأغنياء والفقراء في العالم، وطالبت القمة الدول الصناعية والمؤسسات المالية الدولية التي تتركز في دول الشمال باتخاذ "سلسلة من الاجراءات العاجلة الكفيلة بالقضاء على الجوع والأمية والفقر والمرض في العالم الثالث". في حين دعا الزعيم الكوبي فيدل كاسترو إلى هدم صندوق النقد الدولي وإلغاء الديون الخارجية للدول النامية، ووصف النظام الاقتصادي العالمي بأنه "شكل من أشكال التمييز العنصري يفرض على ملايين البشر العيش في فقر". وصفت الثمانينات التي اقترنت ببزوغ الليبيرالية الجديدة بالعقد الضائع بالنسبة الى الغالبية الساحقة من بلدان العالم الثالث خصوصاً مع فشل خطط التنمية وتراجع الأداء الاقتصادي وتصاعد المديونية على نحو خطير، مرفقاً بتفشي الفساد والاستيلاء على المال العام في ظل أنظمة حكم تسلطية وديكتاتورية تفتقد إلى المصداقية والشفافية. وأدى ذلك إلى تعمق الاختلالات الهيكلية المزمنة التي تعيشها الغالبية الساحقة من بلدان الجنوب وفي ترسيخ التبعية والارتهان لدول المركز والانصياع لشروط العولمة ومؤسساتها الدولية وتفاقم الأوضاع المتردية في الأصل على كل المستويات. فوفقاً لتقديرات البنك الدولي ارتفع عدد الأشخاص تحت خط الفقر وقلت مداخيلهم عن دولار واحد في اليوم، من 3،1 بليون نسمة عام 1993 إلى 6،1 بليون نسمة في نهاية عام 1998. ويوجد أكثر من 5،1 بليون إنسان في بلدان العالم الثالث يفتقرون إلى الرعاية الصحية والمياه النظيفة الصالحة للشرب ويعاني 60 في المئة من السكان من انتشار الأوبئة. ووفقاً لمنظمة العمل الدولية فإن البطالة تؤثر في بليون إنسان أو في نحو ثلث القوة العاملة في العالم، وجلّهم ينتمي إلى العالم الثالث، في حين قدرت الديون بنحو 2 تريليون دولار في نهاية عام 1997 وبلغت ديون افريقيا لأوروبا وحدها ما يزيد عن 350 بليون دولار. وتشير تقارير الأممالمتحدة إلى أن الفارق بين دخل الأغنياء الدول الصناعية المتطورة والفقراء بلدان العالم الثالث يزداد اتساعاً وكان هذا الفارق في الستينات يصل إلى 30 ضعفاً وتزايد في الثمانينات إلى 60 ضعفاً أما في التسعينات فقد بلغ 90 ضعفاً. وفي الوقت نفسه تشهد بلدان العالم الثالث تدهوراً مستمراً في أسعار منتجاتها الأولية وهو ما انعكس في تراجع نصيب افريقيا من التجارة العالمية من 9،5 في المئة إلى 3،2 في المئة عام 96، وكذلك انخفض نصيب أميركا اللاتينية من 3،5 في المئة عام 85 إلى 2،3 في المئة عام 96. أما آسيا التي زاد نصيبها من 8،20 في المئة إلى 6،25 في المئة من التجارة الدولية قبل حدوث الأزمة الآسيوية في مطلع 97 فهذا يعود أساساً إلى حصة اليابان والصين ضمن هذه النسبة. ففي ظل العولمة غدت الرأسمالية أكثر من أي وقت مضى كوزموبوليتية فوق الوطنية لا تحدها أية حدود أو عوائق وتفرض شروطها على البلدان كافة سواء في المركز أو في الأطراف، فالعالم بأسره أصبح مجالها الحيوي وهي لا تقيم وزناً للاعتبارات القومية والوطنية أو لمفاهيم السيادة والاستقلال إلا في حدود ما يعنيه ذلك من مصالح ذاتية على مستوى العلاقة بين دول وأقطاب المركز من جهة، أو بينها مجتمعة وبين دول الهامش والأطراف من جهة أخرى. ولا بد من التنويه أنه في هذا الإطار تجرى عمليتان متناقضتان للوهلة الأولى ولكنهما تعبران عن طبيعة واحدة، فهناك عملية تسارع لوتائر الاندماج والتكامل بين كبريات الشركات العملاقة في داخل دول المركز من دون الاهتمام بمنشأ الشركات الأصلية وجنسيتها. وفي موازاة ذلك فإن الحرب التجارية الاقتصادية التي تخوضها دول المركز في ما بينها سياسة توازن احتكار القوة ازدادت ضراوة، كما في الحرب التجارية بين الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الاوروبي حول سياسة حماية السلع الزراعية والحيوانية، وكذلك الحرب التجارية بين الولاياتالمتحدةواليابان حول سياسة الاغراق والفائض التجاري لمصلحة اليابان. وفي الوقت نفسه تتزايد الاجراءات الحمائية والحروب الاقتصادية التي تشنها دول المركز والشركات الكونية ضد الأسواق الناشئة وبقية دول العالم الثالث، سواء تحت عنوان ضريبة الطاقة وحماية البيئة من التلوث أو بحجة عدم مراعاة واحترام معايير العمل في البلدان النامية، كما تمارس الضغوط وسياسة الابتزاز والمقاطعة والحصار الاقتصادي إزاء العديد من الدول تحت ذريعة دعم الارهاب وغياب الديموقراطية وانتهاكات حقوق الانسان. وفي الوقت الذي تفرض فيه العولمة بآلياتها المختلفة على البلدان النامية انتهاج سياسة الباب المفتوح واحترام قوانين السوق والغاء السياسة الحمائية وفتح الأسواق على مصراعيها للاستثمار الأجنبي، مع توفير كل الضمانات اللازمة له إلى جانب خصخصة المنشآت والمشاريع الحكومية وبخاصة المربحة منها كالاتصالات والمواصلات طيران، سكك الحديد والطاقة والخدمات لمصلحة الرأسمال الخاص المحلي والأجنبي، تقليص الخدمات الاجتماعية وإلغاء الدعم المقدم لصالح الفئات الفقيرة ومحدودي الدخل واطلاق الأسعار بدون ضوابط من قبل الدول. ونرى بالمقابل تقريراً لمنظمة "أوكسفام" غير الحكومية يشير في معرض انتقاده نفاق الدول الغنية الى أن الدول الصناعية الكبرى تقدم دعماً لصادراتها الزراعية بقيمة 350 بليون دولار سنوياً. ومن المعروف أن البرنامج الأميركي "الغذاء مقابل السلام" والموجه لمساعدة البلدان النامية وكذلك القسم الأكبر من برنامج المساعدة السنوية للبلدان الأجنبية الصديقة والحليفة للولايات المتحدة موجه أساساً لدعم وتشجيع المزارعين الأميركيين والاحتكارات الأميركية المصنعة للسلاح. وأدوات الهيمنة والسيطرة التي تلجأ إليها دول المركز وبالتحديد الولاياتالمتحدة الأميركية متنوعة وعديدة سواء من خلال التركيز على استخدام سطوة المال والتكنولوجيا أو من خلال المضاربات المالية والمديونيات واحتكار الغذاء والسلاح، أما حين تعجز هذه الوسائل عن تحقيق الغايات المرجوة فإن التلويح باستخدام القوة العسكرية وفرض الحصار والتطويق والمقاطعة يظل أمراً قائماً على الدوام سواء عن طريق العمل المنفرد أو من خلال استخدام المظلة الدولية والكتل والتجمعات الاقليمية بما في ذلك حلف شمال الأطلسي حين يتسنى لها ذلك. وفي هذا الصدد كتب أحد كبار مخططي الاستراتيجية الأميركية جورج كينان في عام 1948 بأننا "ان أردنا الحفاظ على التفاوت بين ثرائنا وفقر الآخرين فعلينا أن نضع الشعارات المثالية جانباً وأن نلتزم مفاهيم القوة المباشرة"، وقد كتب المفكر وعالم الألسنيات الأميركي نعوم تشومسكي معلقاً على هذه السياسة أنه "نادراً ما يحدث انحراف عن الخط الرئيسي، اذ أن مُثلاً كالديموقراطية والسوق هي مُثل جيدة طالما أن ميل الملعب يضمن فوز الناس الذين يجب أن يفوزوا، أما ان حاولت جموع الرعاع رفع رؤوسها، فيجب أن يضربوا الى أن يخضعوا بشكل أو بآخر. في العالم الثالث غالباً ما يفي العنف المباشر بالغرض أما إذا أثرت قوى السوق على امتيازاتنا المحلية فسرعان ما نقذف بالتجارة الحرة الى النار". لنقارن ما يقوله كينان وتشومسكي ب"ديبلوماسية الطاقة التي فرضها وزير الطاقة الأميركي ريتشاردسون على البلدان المنتجة للبترول عشية انعقاد اجتماع "أوبك" الأخير في آذار مارس الماضي، لمناقشة سياسة الإنتاج والأسعار التي ترافقت مع دعوة مجلس النواب الأميركي إلى معاقبة دول "أوبك" ووقف مبيعات الأسلحة إليها وحجب المساعدات عنها لاجبارها على رفع الانتاج لتأمين بترول أرخص خدمة للمصالح الأميركية. يبدو أنه من باب "المصادفة" فقط أن تصعيد الحملة الخارجية حول انتهاكات حقوق الإنسان وغياب الحريات الديموقراطية في بعض دول المنطقة جاءت متزامنة مع اجتماعات بلدان "أوبك"، وفي النهاية استطاعت الولاياتالمتحدة تحقيق قسم من مطالبها على الأقل عن طريق استخدام أساليب الضغط والابتزاز والتهديد. هذه المواقف تعكس بدرجة كبيرة غطرسة القوة وسياسة الإملاء لأغراض نفعية في المقام الأول. انتفاضة سياتل وتظاهرات واشنطن وتوصيات قمة هافانا تمثل معلماً بارزاً على تزايد ورفض وممانعة قوى وتيارات وجماعات مختلفة تشمل كافة ألوان الطيف السياسي والاجتماعي والايديولوجي والثقافي في العالم، إلى جانب معظم دول العالم الثالث التي ترى في العولمة وسياسات منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي بأنها ستقود العالم إلى كارثة محدقة، ما لم تجر إعادة النظر في تلك المواقف والسياسات وتصويبها على أساس من العدالة والتكافؤ وتقديم العون المتعدد الأشكال من أجل القضاء على الفقر والمرض والمديونية والتخلف بكل مظاهره، والتطلع من أجل استشراف مستقبل آخر بديل أكثر انسانية. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل الدول النامية وشعوب العالم تملك الاستعداد والقدرة للتعامل مع تحديات العولمة من خلال تحصين وتنمية القدرات والإمكانات الذاتية والجماعية وقبل كل شيء من خلال استشراف للمستقبل يعتمد على تفجير الطاقات الإنسانية الخلاقة والمتحررة من الخوف والاستلاب والعوز والشقاء والاستبداد واللامساواة، والتأكيد على دور الإنسان الحر والعقلاني والمنتج والمتفتح والمشارك بفعالية في الحضارة الكونية والجهد الإنساني المشترك باعتباره محور وهدف وجوهر التنمية المستديمة ذات الأبعاد الإنسانية كشرط لازم للتحرر والانعتاق من قيود حيز الضرورة نحو تحقيق مفهوم الحرية بالمعنى الوجودي والحياتي؟ * كاتب سعودي.