أ- فوضى المصطلحات وتحريف مفهوم البركة: المفهوم التراثي الشائع للبركة والكرامة، يحتاج إلى توضيح بوضعه في إطاره الشرعي الصحيح، وإلى ضبط الاستشهاد بنصوص الكتاب والسنة، لكي لا يستخدم الناس نصوص الشريعة لضرب روحها، ومتشابهاتها لضرب محكماتها، ولكي لا يتخذوا الإيمان بالغيب، مقرعة لضرب الإيمان بالشهادة. كان المسلمون الأولون يفهمون الإيمان بالقدر فهماً آخر، يناسق بين الإيمان بعالم الغيب والإيمان بعالم الشهادة، يؤمنون بمشيئة الله، ومشيئة الإنسان، لكن إيمانهم بأن إرادة الإنسان، لا تعمل شيئاً لم يرده الله، لم يغلق أذهانهم عن فقه معادلة الجبر والاختيار، فأدركوا أن الله شاء للإنسان أن يكون حراً في أمور كثيرة، وأنه شاء أن يكون مجبوراً في أمور كثيرة، كوقت ميلاده وزمانه ومكان نشأته، وأسرته، وأن الله سيحاسبه يوم القيامة، بقدر ما أعطاه من حرية. ولذلك فإن على الإنسان أن يقوم بدوره، في حدود ما أعطي من مساحة. الإيمان بالغيب والإيمان بالقدر خيره وشره، هذه جملة واحدة ترد في أساسات علم العقيدة، لكن لها مفهوماً تحريرياً، في قلوب جيل النهوض والاستقامة الأول، ولها مفاهيم باهتة خاملة مظلمة، في عهود الشلل والاعوجاج. ومن أجل ذلك فهم الجيل الأول أن حدوث أي أمر مرهون بأسبابه، فنهوض المجتمعات وسقوطها، وثراء الدول وفقرها، وعمران البلاد وخرابها، وصلاح الأمم وفسادها، إنما هو بإرادة الله، ولكن إرادة الله وضعت أسباباً اجتماعية وتسخيراً طبيعياً، تتجلى من خلالها إرادة الإنسان وعمله. سواء أكان هذا الإنسان مؤمناً أم كافراً، ملتزماً أم عاصياًَ. فهناك قانون سببية أو احتمالية اجتماعية، يشبه القانون الطبيعي للبرودة والحرارة، والضياء والظلام، ولكن السببية الاجتماعية، ليست حتمية كقوانين الفيزياء، وهذه القوانين محايدة، لا تحابي مسلماً ولا تمانع كافراً، بل تنقاد لمن عرف كيف يقتادها، وتذلل ظهرها لمن يمتطيها. ومن أجل ذلك فإن النجاح الإنساني، لا يتم إلا بجهد الإنسان، فالله هو الذي رتب النتيجة على السبب: "إن تنصروا الله ينصركم" وهذه هي معنى القضاء والقدر، ولذلك كان النجاح والفشل منسوبان في الحقيقة للإنسان نفسه، لأن "الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". ولذلك رتب الله الفشل على التنازع، فقال "ولا تنازعوا فتفشلوا" الأنفال: 46. ب - فكيف تحولت القيم المنشطة إلى مثبطة؟ عندما انحرف الناس بمفهوم التوكل والكرامة والبركة، صارت القيم الدينية المنشطة قيماً دينية مثبطة تخدرهم عن العمل والكسب، فاستشهدوا بالنصوص الدينية، على مفاهيم هابطة، فأولوا صريح القرآن والسنة، ولووا نصوص الشريعة عن مقاصدها. كشأنهم في مفاهيم أخرى كالصبر والزهد، وتعليم القرآن الكريم والفقه، ضيعوا المفاهيم الحيوية الفاعلة، التي قصدها الشارع، عندما حث على تلك القيم، فصارت النصوص المحكمة، أدلة على قيم باردة ساكنة، أو مجزوءة مهشمة. من اختلال المصطلحات والمفاهيم" أن يحول الناس المعنى العادي اللغوي، إلى معنى خاص شرعي، كما عبثوا بمفهوم الجهاد، فتصوروا أن الجهاد مرتبط ببذل الجهد في أمر مشروع عادي، ومنها أيضاً أن يحولوا الخاص الشاذ المستثنى من قواعد السنن الكونية والاجتماعية، إلى قاعدة واسعة. ومن نماذج هذا وذاك تحويل مفهوم البركة والكرامة المرتبطة بالحركة والاستقامة، فالبركة في القرآن والسنة جاءت بثلاثة معان: الأول البركة أو الكرامة الكونية، أو البركة المرتبطة باستخلاف الإنسان، أي تكريم الله الناس،كما في قوله تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم" وهي بركة تسخير الله الطبيعة لهم، كما قال تعالى عن الأرض: "وباركنا فيها للعالمين". الثاني: البركة المرتبطة بحركة الإيمان، كما في قوله تعالى على لسان عيسى عليه السلام "واجعلني مباركا" فلن يكون الإنسان مباركاً إلا بإرادته وعمله. الثالث:البركة أو الكرامة التي تخرق الحتمية الطبيعية والسببية الاجتماعية، كما في معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، وهي لطف من الله يهبه الله من يشاء من عباده. وكما تداخلت مفاهيم الجهاد في الثقافة المجتمعية، تداخلت مفاهيم البركة الثلاثة، فتحول مصطلح البركة إلى مفهوم هلامي إسفنجي سائب، ففقد وظيفته الشرعية، بصفته مصطلحاً شرعياً، يربط بين الإيمان بالغيب والإيمان بالشهادة، فأدخلنا مفهوم تكريم الإنسان أو البركة الكونية بمعنى كثرة الأولاد وسعة الرزق وخصب الأرض بالمفهوم الشرعي الاصطلاحي للبركة،الذي يربط بين الكرامة والاستقامة، والبركة والحركة الإيمانية، على أن البركة الكونية، لا ترتبط بالشرعية، إلا بمجرد الاشتراك اللفظي. لأن البركة الكونية عامة للمسلمين وغير المسلمين، وللصالحين وغير الصالحين، لأن معناها تمكين الله الناس من أن يمارسوا عمارة الأرض لأن الله استخلفهم فيها، وهذا معنى لغوي عادي يعني خصوبة الأرض، أو كثرة المال، أو كثرة الأولاد، فلا تدل على كرامة من الله مرتبطة بالإيمان، بل هي كرامة عامة للإنسان، كافراً أو مؤمناً، صالحاً أو فاجراً، كما قال الله تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر" فهي بركة وكرامة، لا ترتبط بإيمان ولا استقامة، بل هي تشريف يعد للتكليف. ج - تكريم الإنسان الدنيوي هل هو خاص بالمؤمن؟ بركة التمكين لا تدل على رضا من الله ولا سخط، إنما هي بركة تمكين وتيسير وتسخير، فهي معطيات لكي يمارس الإنسان تجسيد إرادته، في اختيار الخير أو الشر. بهذا المعنى اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم، عمل الإنسان مباركاً عندما يستيقظ مبكراً. ويغدو إلى عمله مشمراً، كما ورد في الحديث الشريف: "إن الله يبارك لأمتي في بكورها" فالبركة إذاً مرتبطة بالاستيقاظ المبكر، واعتبار صلاة الفجر، يقظة من السبات والبيات، إلى موسم العمل والمعاش، والسعي للنجاح، ولكن ليس في هذا بركة إيمان ولا استقامة، بل بركة ناتجة عن استثمار أوقات النشاط. لكن كثراً من الناس يدخلون هذا مفهوم التكريم والبركة الإنساني" بالمفهوم الإيماني، فيعتبرون البركة في الأولاد، أو في الرزق، من علامات رضا الله عن الشخص، وقد يستدلون بها على صلاحه، أو على حسن خلقه، وكأن قليل الأولاد أو العقيم أو الفقير، هو من غضب الله عليه. ولكن كثرة الأولاد أو المال، لا تعتبر تكريماً يدل على استقامة ولا إيمان، بل هي إعداد للاختبار والامتحان، إن الله يقول: "إنما أموالكم وأولادكم فتنة". أما البركة الدالة على الاستقامة والإيمان، فهي تعني أن العمل تكلل بالنجاح،على وفق الميزان الشرعي، فبركة الأولاد الشرعية هي صلاحهم قلوا أم كثروا، وبركة المال الشرعية، هي أن يكون طريق كسبه وصرفه مشروعين.أما عطاء التسخير والتمكين فليس بركة مرتبطة بالإيمان، إنما البركة المرتبطة بالإيمان في استثماره سفينة للعمل الصالح ، ولذلك ورد في الدعاء "وبارك لنا في ما أعطيتنا". ومن أجل ذلك فإن الإنسان قد يتورط ويستدرج نفسه، حينما يرى نعم الله مغدقة عليه، فيظن أن بركات المال والأولاد والمنصب والشهرة" إنما هي علامات رضا من الله قد حلت عليه، وقد يصور له الهوى أنها من "عاجل بشرى المؤمن" التي ورد التبشير بها في الحديث الشريف، وينسى أن هذه المعطيات إنما هي اختبار، بل قد تكون استدراجاً عندما يمعن في غيه. وفي سياق ذلك ينسى عديد من الناس أن بركة التمكين لا علاقة لها بالإيمان، ولا بالصلاح الشخصي، بل بما حكم به حياة الناس على البسيطة، من حتمية طبيعية، واحتمالية اجتماعية، تجعل الحصول على بركة التمكين، منوطاً بالحركة، فعمارة الأرض لا تتم إلا وفق السنن التي ارتضاها الله، وقدرها على عباده، فهناك تراتبية بين المقدمة والنتيجة. فالنجاح الزراعي، في دول كأميركا، إنما هو ثمرة جهود، وتطوير تقنيات، نعم قد تهلك المحصول عاصفة ثلجية، أو رياح عنيفة، ولكن هذه نادرة، ويمكن من طريق المعرفة الإنسانية، حسبانها، ودفعها جزئياً،أو التكيف معها، فليس هناك بركة أو محق ، بسبب أن الإنسان مؤمن يدعو، أو كافر لا يدعو، لأن محطة محاسبة المؤمنين بالله والملحدين به هي الآخرة، أما الدنيا فهي محطة محاسبة الذين يحسنون عمارة الأرض والذين لا يحسنون، كما قال تعالى: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض لله يرثها عبادي الصالحون" الأنبياء: 105، فالصالحون هنا ليسو أهل الزهد والإيمان، بل أهل العمل والعدل والمعرفة الناهضة والعمران، أي الصالحون لعمارة الأرض. وتحريف مفهوم الذين عملوا الصالحات، تحريف آخر حاول الكاتب مقاربته في مقال آخر، والمسلمون اليوم من أقل أهل الأرض إنتاجاً، ومن أكثرهم فقراً ومرضاً، وهذا يدل على ارتباط البركة الكونية بحركة الإنسان - مهما كان دينه -، وجوداً وعدماً. وكثير من الوعاظ ينسون التفريق بين هذا وذاك، فيربطون بين سعة الرزق والطاعة أو بر الوالدين، وبين الفقر والمعصية، وبين العبادة وطول العمر، فيوقعون الناس في مفارقات من الترهات. د- لم لا يبارك الله في زراعتنا وصناعتنا؟ ومن مظاهر اضطراب مفهوم بركة التمكين ، أن بعض الناس ينسبون الخلل في العلاقة بين المقدمة والنتيجة إلى الله، وهم المتسببون، فإذا لم ينجح الزارع في رزعه،أو الصانع في صناعته، قالوا: لم يوفقه الله، ولم يجعل في سعيه بركة، وهي كلمات حق أرادوا بها الباطل، فالله قد ربط التوفيق - بمعناه العام - أيضاً بجهد الإنسان أيضاً، قال تعالى عن الزوجين المتخاصمين: "وإن خفتم شقاق بينهما، فابعثوا حكماً من أهله وحكما من أهله وحكما من أهلها، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما"، فجعل توفيقه مترتباً على إرادة الزوجين الإصلاح - أو الحكمين في احتمال ضعيف -. وبدلاً من أن يدرك الزارع أسباب نقص المحصول الطبيعية التي لا يستطيع لها دفعا، ويهيئ أسباب النجاح التي يمكن للبشر تهيئتها، يستسلم لما استقر في أعماق وجدانه، من أن سوء الحظ لازمه، فيتحول الإخفاق من مرض عارض، إلى عاهة مزمنة. بل قد يعزو الناس سبب الإخفاق المادي إلى فساد النية والإيمان، - بناء على ما استقر في أعماقهم من انفكاك البركة عن الحركة - فيتوهمون أنه لو صلحت نية التاجر ودينه، لنمت تجارته وصناعته، لأن "النية مطية"، بحسب الذهنية الصوفية الحدسية، وكأن هؤلاء الذين شمخ اقتصادهم، ورسخت مدنيتهم، هم أصحاب النيات الحسان. ليس معنى ذلك حصر التوفيق المطلق بإرادة الإنسان وحده، بل التأكيد على أن الإنسان ينبغي أن يعول على التوفيق المكسوب، لكي يكون حرياً بالظفر بالموهوب، وينبهنا إلى أن الله لن يوفق من لم يسع إلى التوفيق، كما قال تعالى أيضاً: "ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيه - وهو مؤمن - فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون"، والحياة المجتمعية الطيبة،لا تكون إلا برسوخ القيم المدنية والتقنية في المجتمعات، والآية تنبه -الدراويش - الذين يتصورون أن الله سيكافئهم على إيمانهم به -في الدنيا -، بالتمكين في الأرض واخضرار الزرع وإدرار الضرع، ولو داسوا السنن الطبيعية والاجتماعية. وهذا المفهوم واضح صريح في فقه الكتاب والسنة، ولكن الصورة العامة له في ثقافتنا التراثية المكتوبة، وثقافتنا المجتمعية العامة مهزوزة، بسبب الغفلة عن إدراك سياق النصوص الكريمة، التي جرت إلى التأويل والتبديل، والمأولون قد يجدون نصوصاً يلوون أعناقها بالهوى، ولكنهم لن يستطيعوا لي أعناق السنن الاجتماعية فضلاً عن الكونية لأنها صلبة، ومن حاول لي أعناقها، داسته بأرجلها. * كاتب سعودي.