سماء غائمة جزئيا تتخللها سحب رعدية بعدد من المناطق    المملكة تجدد إدانتها استهداف إسرائيل ل«الأونروا»    "سلمان للإغاثة" يوزع 1.600 سلة غذائية في إقليم شاري باقرمي بجمهورية تشاد    أمير الرياض يفتتح اليوم منتدى الرياض الاقتصادي    «حزم».. نظام سعودي جديد للتعامل مع التهديدات الجوية والسطحية    «السلطنة» في يومها الوطني.. مسيرة بناء تؤطرها «رؤية 2040»    منطقة العجائب    القصبي يفتتح مؤتمر الجودة في عصر التقنيات المتقدمة    1.7 مليون عقد لسيارات مسجلة بوزارة النقل    9% نموا بصفقات الاستحواذ والاندماج بالشرق الأوسط    وزير الدفاع يستعرض العلاقات الثنائية مع سفير الصين    المملكة ونصرة فلسطين ولبنان    عدوان الاحتلال يواصل حصد الأرواح الفلسطينية    حسابات ال «ثريد»    صبي في ال 14 متهم بإحراق غابات نيوجيرسي    الاحتلال يعيد فصول النازية في غزة    الأخضر يكثف تحضيراته للقاء إندونيسيا في تصفيات المونديال    وزير الإعلام اختتم زيارته لبكين.. السعودية والصين.. شراكة راسخة وتعاون مثمر    الأخضر يرفع استعداده لمواجهة إندونيسيا في التصفيات المؤهلة لكأس العالم 2026    محافظ جدة يستقبل قنصل كازاخستان    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    مع انطلاقة الفصل الثاني.. «التعليم» تشدّد على انضباط المدارس    إحباط 3 محاولات لتهريب 645 ألف حبة محظورة وكميات من «الشبو»    الإجازة ونهايتها بالنسبة للطلاب    قتل 4 من أسرته وهرب.. الأسباب مجهولة !    كل الحب    البوابة السحرية لتكنولوجيا المستقبل    استقبال 127 مشاركة من 41 دولة.. إغلاق التسجيل في ملتقى" الفيديو آرت" الدولي    كونان أوبراين.. يقدم حفل الأوسكار لأول مرة في 2025    يا ليتني لم أقل لها أفٍ أبداً    موافقة خادم الحرمين على استضافة 1000 معتمر من 66 دولة    قلق في بريطانيا: إرهاق.. صداع.. وإسهال.. أعراض فايروس جديد    القاتل الصامت يعيش في مطابخكم.. احذروه    5 أعراض لفطريات الأظافر    هيئة الشورى توافق على تقارير الأداء السنوية لعدد من الجهات الحكومية    الخليج يتغلب على أهلي سداب العماني ويتصدّر مجموعته في "آسيوية اليد"    تبدأ من 35 ريال .. النصر يطرح تذاكر مباراته أمام السد "آسيوياً"    أوربارينا يجهز «سكري القصيم» «محلياً وقارياً»    مكالمة السيتي    «سعود الطبية» تستقبل 750 طفلاً خديجاً    الله عليه أخضر عنيد    أعاصير تضرب المركب الألماني    «القمة غير العادية».. المسار الوضيء    لغز البيتكوين!    المكتشفات الحديثة ما بين التصريح الإعلامي والبحث العلمي    الدرعية.. عاصمة الماضي ومدينة المستقبل !    المملكة تقود المواجهة العالمية لمقاومة مضادات الميكروبات    مجمع الملك سلمان يطلق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    شراكة إعلامية سعودية صينية واتفاقيات للتعاون الثنائي    انتظام 30 ألف طالب وطالبة في أكثر من 96 مدرسة تابعة لمكتب التعليم ببيش    خامس أيام كأس نادي الصقور السعودي بحفر الباطن يشهد تنافس وإثارة    وزير الدفاع يلتقي سفير جمهورية الصين الشعبية لدى المملكة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل المندوب الدائم لجمهورية تركيا    محافظ الطائف يلتقي مديرة الحماية الأسرية    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    أهم باب للسعادة والتوفيق    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكرامة الانسانية في المنظور الثقافي الاسلامي 1 من 2
نشر في الحياة يوم 23 - 10 - 1999

في تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي ان المراد بالتكريم "تخصيص الشيء بالعناية وتشريفه بما يختص به ولا يوجد في غيره وبذلك يفترق التكريم عن التفضيل، فأن التكريم معنى نفسي وهو جعله شريفاً ذا كرامة في نفسه، والتفضيل معنى اضافي وهو تخصيصه بزيادة العطاء بالنسبة الى غيره من اشتراكهما في أصل العطية. والانسان يختص من بين الموجودات الكونية بالعقل ويزيد على غيره في جميع الصفات والاحوال التي توجد بينها والاعمال التي بها" تفسير الميزان الجزء 13 ص152. وحسب هذا التفسير فان التكريم هو بالعقل الذي به يعرف الانسان الحق من الباطل، والخير من الشر، والنافع من الضار. وقد رأى بعض المفسرين وهم أكثرية ان التكريم كان في النطق أو تعديل القامة وامتدادها أو الاصابع أو الخط أو حسن الصورة أو التسلط على سائر الخلق وتسخيرهم له، أو ان الله خلق أباهم آدم بيده أو انه جعل محمداً منهم أو جميع ذلك أو بعضه.
ونقل الطباطبائي عن تفسير "مجمع البيان" ان التكريم ينبىء عن الانعام ولا ينبىء عن التفضيل فجاء بلفظ التفضيل ليدل عليه إشارة الى تتمة الآية 70 من سورة الاسراء في قوله تعالى "وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً"... وفي تفاسير اخرى ان التكريم يتناول نعم الدنيا والتفضيل يتناول نِعَم الآخرة.
وقال الرازي في تفسيره في الفرق بينهما "انه تعالى فضل الانسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية مثل العقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المديدة. ثم انه عز وجل عرضه بواسطة العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والاخلاق الفاضلة. فالاول هو التكريم والثاني هو التفضيل". ويرد العلامة الطباطبائي هذا التفسير وغيره فيرى عن حق ان التكريم هو في ما يختص بنوع الانسان من الموهبة لا يتعداه الى غيره وهو العقل وتتفرع عليه مواهب اخرى كالتسلط على غيره من الحيوان والطبيعة واستخدامه في سبيل مقاصده، والنطق، والخط، وما سوى ذلك... وأما التفضيل فبما يزيد على غيره من الامور المشتركة بينه وبين غيره. ويعطي مثلاً على ذلك ما يتفنن به الانسان في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه ومنكحه وما يأتي به من النظم والتدبير في مجتمعه وما يتوصل اليه من مقاصده. راجع الميزان ج13 - ص152-157
وبهذا المعنى فان الانسان حسب الدكتور علي شريعتي والشيخ محمد مهدي شمس الدين والشيخ مرتضى مطهري هو موجود ذو بعدين: فهو خلق من طين من صلصال، وهو نفخ فيه الله من روحه. فوجود الانسان وجود متحول متكامل. هو جزء من الارض غير مفارقها ولا مباين معها، وهو أرقى الموجودات وأكرمها حتى بلغ مرتبة الخلافة في الارض عن الله. "وإذ قال ربك للملائكة إنيِّ جاعل في الارض خليفة" سورة البقرة، 30. هو من طين "من صلصال كالفخار" الرحمن، 14، "من حمأ مسنون" الحجر، 26، "هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة" غافر، 67، وهو من روح الله: "وبدأ خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه" سورة السجدة، 7-8-9.
الطين هو المرتبة الدنيا، والروح هو الكمال المتعالي. والمسافة بين الاثنين هي المجال الواسع للارادة وللقدرة وللعلم وللمعرفة، أي لانسانية الانسان وللخصوصية التي كرمه الله بها وفضله عن سائر الموجودات. فالانسان يتحرك بين هذين الحدين بعقله وإرادته. إن أفضلية الانسان، أي كرامته، هي ميزته العلمية العقلية بامتلاكه المعرفة والحرية "وعلم آدم الاسماء كلها" البقرة، 31 أي انه امتلك المعرفة فالاسماء هي رموز الحقائق حتى سجدت له الملائكة بأمر من الله. ان النزوع الى البحث عن المعرفة أو إدراك حقائق العالم الخارجي وفي حديث "اللهم أرني الاشياء كما هي" ينبع من الفطرة التي فطر الله الانسان عليها "فطرة الله التي فطر الناس عليها" الروم 30. ولان الانسان حقيقة مركبة من الجسم والروح، ولان في الروح حقيقة إلهية "ونفخت فيه من روحي" الحجر، 29، فان كماله اللائق والممكن هو في معرفته الاكثر وحريته الاكبر. ذلك ان الانسان الكامل هو الانسان القادر على التنعم في الدنيا والآخرة. وهذا يتطلب العقل والحكمة والارادة والقدرة والعدالة.
وحسب الشيخ مطهري فان مسألة "ما هي الغاية من خلق الانسان ترجع الى التساؤل عن ماهية الانسان، وما هي الامكانات الكامنة في الوجود الانساني وما هي الكمالات الممكنة له".
لقد خلق الانسان للسعادة، وهو يقف في مرتبة من الوجود وموضع يجب فيه ان يتحرّك إما الى أعلى باتجاه الكمال "يا أيها الانسان إنك كادح الى ربك كدحاً فملاقيه" الانشقاق، 6 وإما الى أسفل باتجاه الطين والارض. ان الانسان هو المتحول خلقاً آخر والمتكامل بهذا الكمال الجديد "ثم أنشأناه خلقاً آخر" المؤمنون، 14 اي انه انفصل عن الطين - الارض ثم شرع في التطور بأطواره حتى بلغ مرحلة الخلق الجديد، ثم يأخذ ملك الموت هذا الانسان من البدن ثم يرجع الى الله سبحانه. فهذا هو صراط وجود الانسان. "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم اليه ترجعون" البقرة، 28، "هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، إنا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً، إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً" الدهر، 1-3. فالتكريم هو في العقل والارادة وحرية الاختيار، وهذا هو العدل الالهي الذي كان أبرز مسائل الخلاف في العقائد الاسلامية بين المتكلمين والفلاسفة. وتتعلق بموضوع العدل الالهي مباحث مهمة لها صلة وثيقة بمكانة الانسان ودوره في الحياة وعلاقته بالله والكون وارادته وحريته ومسؤوليته.
وحين يكون الانسان حراً مختاراً يصبح للجزاء، ثواباً وعقاباً، مفهوم ومعنى، ويصبح للتكليف أو لاستخلاف الانسان في الارض مفهوم ومعنى. وآيات القرآن واضحة صريحة في ترتيب جزاء أو مكافأة الانسان على أفعاله إن خيراً فخير وإن شراً فشر "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره" الزلزلة، 7-8، "ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى" النجم، 31، "وان ليس للانسان الا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يُجزاه الجزاء الأوفى" النجم، 39-41، "من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها" فصلت، 46، "إدخلوا الجنة بما كنتم تعملون" النحل، 32، "فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون" الاعراف، 39، "كل نفس بما كسبت رهينة" المدثر، 38. إن هذه النفس الانسانية هي حرة تختار ما تشاء، بالعقل والارادة، فالله قد فطر الانسان فطرة هداية ورشاد وسواها تسوية عدل وأحسن تقويم "ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها" الشمس، 8. والهداية الانسانية تكليفية وتشريعية وهي اساس الحساب والجزاء "ألم نجعل له عينين، ولساناً وشفتين، وهديناه النجدين" البلد، 10.
وهذا هو منطق العدل الالهي لان الله "حرم الظلم على نفسه" حديث قدسي، "وما ربك بظلام للعبيد" فصلت، 46، "إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون" يونس، 44... فاختيار الانسان الحر العاقل هو طريقه الى السعادة. وما ترتهن به السعادة الانسانية هو تقوية الانسان في جانبي العلم والارادة. فالله خلق الانسان للعمل وللمعرفة، وكمال الانسان هو في ذلك. وكما خلقه الله للقدرة ليحقق ما يريد فتقوى إرادته ويصبح قادراً على تحقيق ما يشاء. فالهدف إذن هو ان يعلم ويقدر وان يعرف ويريد، وكلما علم أكثر وقدر أكثر كان الى الغاية والهدف الانساني أقرب. اذن الانسان لم يخلق عبثاً.
"أفحسبتم انما خلقناكم عبثاً وأنكم الينا لا ترجعون" المؤمنون، 115، فلو لم يكن هناك رجوع الى الله لكانت الخلقة عبثاً. ان القيامة والرجوع الى الله هما اللذان يبرران خلق هذا العالم. أي ان الانسان خلق ليعلم أكثر وليقدر أكثر لكي يصل الى هدفه حين يعلم ويقدر أي الى السعادة، وهي معرفة الله التي هي مقدمة العبادة. "وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون" الذاريات، 56. فالربوبية لا تتم الا مع عبودية ولا تتم العبودية الا مع مسؤولية "ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين" الانعام، 162. فالتوحيد هو تنزيه لمقام الانسان من ان يكون عبداً لاحد غير الله المطلق، فالانسان أرفع من ان يعبد أو يخضع لغير الله أي لمحدود مثله.
وفي حديث للإمام علي نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح - ص510 "ان قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وان قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وان قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الاحرار". ان هذا المعنى يجعل من الايمان بذاته كمالاً للانسان، وهذا هو الدين أو الفطرة. في "النهاية" لإبن الأثير وهو يشرح مفردات القرآن والحديث وعندما يورد حديث "كل مولود يولد على الفطرة" يشرح لفظة الفطرة فيقول: "الفطر الابتداع والاختراع، والفطرة حالة منه والمعنى هو ان الفطرة ضرب من ضروب الخلق خاص وبهيئة معينة". أي ان الانسان يولد على نوع من الجبلة والطبع متهيىء لقبول الدين فلو ترك عليها لاستمر لزومها الا اذا اثرت عليه عوامل خارجية وحرفته عن مساره الطبيعي الفطري. ويعطي ابن الاثير معنى للفطرة يأخذه من حديث للرسول يقول فيه ان من ارتكب ذنباً معيناً "مات على غير فطرة محمد" أي على غير دين محمد. وفي القرآن لا نجد كلمة دين بصيغة الجمع لان الدين واحد هو الاسلام. وفي القرآن ثلاثة ألفاظ في معناها على الدين: الفطرة - الصبغة - الحنيف. "صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة" البقرة، 138، "ما كان ابراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً" ال عمران، 67، "إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والارض حنيفاً وما أنا من المشركين" الانعام، 79. فالدين حقيقة في طبيعة الانسان، وتعاليم الانبياء مبنية على أساس إحياء ذلك الحس الفطري وتربيته. فما تعرضه النبوءات هو الفطرة الانسانية ذاتها.
وعن الإمام الصادق "الحنفاء هم الباقون على الفطرة". وأصل الحنف في اللغة الميل، أي ان الحنيف الحقيقي هو الذي يميل الى الحق، الى الله. فالحنفية مجبولة في فطرة الانسان المجبولة على الميل الى الحق والحقيقة. وهذا هو العدل والسوية "الذي خلقك فسواك فعدلك" الانفطار، 7. والتسوية والعدل هما الفطرة أو الصبغة أو الصورة "ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم" الاعراف، 11، "خلق السماوات والارض بالحق وصوركم فأحسن صوركم واليه المصير" التغابن، 3. والمقصود بالتصوير إعطاء الصورة، وصورة الشيء قوامه ونحو وجوده كما قال تعالى "لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم" التين، 4. وحسن الصورة أو التقويم ليس المقصود صباحة المنظر وملاحته بل الحسن العام الساري في الاشياء كما قال تعالى "الذي أحسن كل شيء خلقه" السجدة، 7. فالتكريم وحسن الخلق وحسن التقويم وحسن الصورة وحسن الصبغة والفطرة هي العقل والارادة والحرية، فهذا ما يميز الانسان وهذه هي الكرامة الانسانية.
وفي الاسلام فان الكرامة الانسانية مثل كل القيم الاخلاقية الحقيقة والعلم والمعرفة والجمال والخير والعدل والفضيلة والخلق والابداع والحب والعبادة هي فطرية، وبالتالي ثابتة ومطلقة ومشتركة بين الناس جميعاً وفي كل الازمنة، من حيث أصولها. أما فروعها فتتحول الى ما نسميه "حقوقاً". واذا جرّدنا هذه القيم من الثبات والاطلاقية فانها تدخل في الآداب وتصبح مجموعة قواعد اعتبارية كالقوانين. والقيم الاخلاقية الثابتة والمطلقة سابقة ومقدمة على القوانين، ولذلك فان اللغة العربية تميز وتفرق بين العدل والقانون بخلاف بقية اللغات حيث ان المجتمعات غير المبنية على عقيدة الاسلام تعتبر العدل هو القانون ومهما يكن القانون فهو العدل. والمفهوم الاساس والحاكم في الاسلام هو العدل وليس المساواة أو الحقوق.
فالبشر مثلاً ليسوا متساوين بل هم أخوة لان المساواة مصطلح حقوقي بينما الاخوة أكثر عمقاً وشمولاً، اذ تعني تأكيد الطبيعة الواحدة والطينة الواحدة. والمرأة والرجل في الاسلام ليسا متساويين بل هما من طينة واحدة، لان الضلع في العبرية كما في العربية هو الطبيعة والعجينة الواحدة: خلقت المرأة من ضلع الرجل أي من طبيعته وعجينته.
وما يراه الغرب حقاً مثل حق الحياة وحق العلم يستطيع صاحبه ان يتنازل عنه يراه الاسلام فريضة الهية وواجباً شرعياً لا يجوز حتى لصاحبه ان يفرط فيه أو يتنازل عنه ولو اضطر للجهاد وللاستشهاد في سبيله. وكرامة الانسان تتجسد في بحثه الفطري عن المعرفة والعلم بالحقائق، وفي التمسك بالاخلاق أو الفضيلة والخير، وفي النزوع نحو الجمال بالمطلق في الخَلق والخُلق، وصولاً الى العشق والعبادة. وفيها يقول الشاعر مولوي: "العشق قهار وأنا مقهور فأضأت كالقمر من نور العشق"، ويقول ايضاً: "حاصل عمري ثلاث كلمات: كنت فجاً فنضجت فاحترقت".
اما في الرؤية الفلسفية الغربية فان الانسان هو كائن معطى، موجود هكذا في هذا العالم، من دون جذور، من دون منبت، من دون وشائج بالوضع الكوني وبالطبيعة وسير الحياة فيها وفي الجنس البشري وذلك على قاعدة انه مخلوق عبثي. وكمال هذا الانسان يتحقق بامتلاكه القدرة والسلطة على الطبيعة والبيئة كما على أخيه الانسان. فالموجود الاكمل هو الموجود الاقوى القادر على حفظ وجوده وعلى نفي ضده ومنافسه في ميدان تنازع البقاء كما داروين ونيتشه وفرويد وماركس. وعلاقة هذا الانسان بالآخر هي علاقة طرد ونفي واغتصاب وسيطرة، فالبقاء للاصلح أي للأقوى. ونظرية التنعم المادي في الحياة الدنيا هي النظرية الحاكمة وفق هذا المفهوم. حتى العلم فهو حسن كونه وسيلة للوصول الى القدرة التي هي منشأ التنعم.
اذن ثمة نظرتان اساسيتان: الاولى تعتبر ان الانسان على اختلاف المذاهب فيه وعلى اختلاف الاطر الدينية الخاصة التي ينتمي اليها، ليس كائناً وجد عبثاً وبلا هدف ويبحث عن مكانه، يبحث عن دوره في الحياة والطبيعة. بل وجد من ضمن هدف، وجد باتجاه غاية. انها الرؤية الدينية. وفي مقابلها الرؤية الثانية، الدهرية Secular التي تتمثل الآن في شتى المذاهب الاجتماعية الملحدة، أو تلك التي لا تبالي بالخلفية الفلسفية لوجود الانسان.
فحينما نريد ان نستجلي معنى الكرامة الانسانية في المنظور الثقافي نواجه مسألة أو قضية مفهومية: ما هي الحيثية التي ننطلق منها في نظرتنا الى الانسان؟ من هو وما هو هذا الانسان الذي نبحث عن كرامته؟ هل هو الانسان الذي يحمل في ذاته الايمان الحي وتتأثر سياسته واجتماعه واقتصاده بإيمانه؟ أو هو الذي لا يؤمن بشيء ويتصرف في هذه الحقول والمجالات منقطعاً عن عالم الغيب أو يؤمن ولكنه يرى ان حقل الايمان يجب ان يعزل عن هذه الحقول والمجالات، كما هو الموقف الالحادي الماركسي مثلاً، في التجلي المعاصر للالحاد وهو الموقف الذي يطرد الايمان ولا يعترف بأية مساحة في الذات الانسانية لعالم الغيب، وللألوهة، وللروحانيات؟ أو كما الخلفية الفلسفية او اللافلسفية للرأسمالية التي لا تبالي بان يكون هذا الانسان مرتبطاً أو ذا وشائج مع عالم الغيب، فهي تركز فقط على عالم الشهادة، على اقتصاد الانسان وعلى اجتماع الانسان وعلى سياسة الانسان وعلى ما يجنيه من فوائد ومكاسب مادية؟
ان هنا انسانين مختلفين لا انسان واحد. هذا الانسان الذي لا يعترف أو لا يبالي بعالم الغيب يختلف عن الانسان الذي ينضوي في عالم الغيب ويجعل الايمان متغلغلاً في أنشطته كلها: في اقتصاده أو اجتماعه او سياسته. يرى لوجوده هدفاً وغاية، لا يرى نفسه كائناً عبثياً، لا يرى نفسه ابن اللحظة، لا يرى نفسه فريداً منفرداً بل جزءاً من مجموعة، له فرديته وله وشائجه التي تربطه بالماضي وبالمستقبل.
ان الانسان غير المنتمي الى الايمان، إما لانه لا يبالي به أو لانه لا يعترف به اطلاقاً، هذا الانسان يمكن ان يصوغ حياته وفقاً لرؤى متباينة. اما الانسان الذي ينطلق في حياته من خلفية فلسفية روحية فانه غالباً يسلك في حياته مسلكاً متجانساً.
الانسان الاول يمكن ان يكون عادلاً في حال، وظالما من جهة اخرى في الحال نفسها، يمكن ان يكون اخلاقياً في حال وحيواناً متوحشاً في الحال نفسها. أما الانسان الآخر فانه لا يملك الا ان يكون اياه في جميع الاحوال. في الكتاب الكريم آية تصور الانسان الذي لا يرتكز الى قاعدة في حياته في مقابل الانسان الذي يرتكز الى قاعدة "ضرب الله مثلا رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل، هل يستويان مثلاً" الزمر، 29. الاول تتجاذبه ولاءات شتى ورغبات شتى ومعايير شتى، اما الثاني فله اتجاه واضح سليم. الاول ضائع تائه مضطرب وهو موضوع للتائهين، هو نهب للأهواء، اما الثاني فهو على هدى.
فالانسان في المنظور الثقافي في نظرنا لا يمكن ان يكون الانسان الذي هو نتاج لانعكاسات المجتمع كما يذهب الى ذلك بعض المدارس النفسية، او الانسان الذي هو حصيلة التفاعلات الكيماوية والفيزيولوجية وهي التي تنشىء جهازه النفسي والعقلي والعاطفي كما تذهب الى ذلك المدرسة السلوكية، أو الانسان الذي هو نتيجة عقدة اوديب كما تذهب مدرسة التحليل النفسي، أو انه الانسان الذي هو ناتج اجتماعي اقتصادي كما يذهب الفكر المادي الماركسي. هذا الانسان ليس هو الانسان الحقيقي. هذا الانسان مشوه. والمنظور الثقافي لهذا الانسان لا يمكن ان يكون الا من جنس المعدن الذي نحت منه هذا الانسان، من جنس الرحم الذي ولد منه هذا الانسان. وحينئذ لا نجد مناخاً ثقافياً لهذا الانسان الا الغربة عن العالم، وعن نفسه، وعن الآخر، بكل ما يحمله معنى الغربة ومقولة الغربة من عذاب روحي ونفسي وضحالة وقحط وجفاف.
* جامعي لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.