علق السيد محمد إبراهيم مبروك في "الحياة" الثلثاء 17جمادى الأولى 1422ه، الموافق 7 آب أغسطس 2001م، على مقالي عن "البركة والحركة" المنشور في "الحياة" يومي 24 و25 تموز يوليو 2001. ولما أثاره السيد مبروك جانبان: جانب إجمالي، وجانب تفصيلي، والدخول في التفصيل، يحتاج إلى مقدار من العمق والشمول والوضوح، ولا يمكن من دون بسط وتطويل، ولعله يعسر من دون التأسيس على مقدمات، تخرج عن نطاق الرد المباشر. وفي هذا المقال أحاول الاقتصار على الرد المباشر. المسألة الأولى: هل للإيمان بركة مادية مطردة، تتجاوز نتائج سنن الله الطبيعية والاجتماعية المطردة؟ أفهم من رد السيد مبروك: أنه يرى أن للإيمان نتائج مادية: تفوق ما يحصل عليه غير المؤمنين، من العمل بالسنن الطبيعية والاجتماعية، فهو يقول: "الثمار المادية هنا تفوق الثمار المادية المرتبطة بالسنن الكونية". ويدلل على ذلك بقوله: "والآيات القرآنية صريحة في هذا المعنى"، ثم يسوق آيتين يعتبرهما صريحتين، في أن للإيمان ثمرات مادية، تفوق الثمرات المرتبطة بسنن الله الكونية، هما قوله تعالى: "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض"، وقوله تعالى على لسان نوح عليه السلام: "فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً". ويستنتج من ذلك -وهو استنتاج صحيح: لو كانت الآيتان صريحتين- أنه "لو كان المدد المادي هنا هو المرتبط بالسنن الكونية: فما الذي يعنيه وعد نوح قومه عند طلبه الاستغفار منهم؟". ولا يدع السيد مبروك لاحتمال خطأه في الاستنتاج مجالاً، بل يقول: "ما أقوله هنا هو ما فهمه العلماء وجماهير المسلمين، عن البركة الدينية خلال 14 قرناً". وما رآه السيد مبروك غير مسلم به لثلاثة أسباب: أولاً: ليس صحيحاً أن ما قاله السيد مبروك هو ما فهمه العلماء: فللعلماء في المسألة قولان، وإذاً فإن العلماء لم يجمعوا على هذا الفهم، أما الجماهير فلا عبرة بإجماعها على تفسير نصوص الشريعة. وفي معظم التفاسير التي رجعت إليها، ورد قولان: القول الذي ذكره السيد مبروك: أن من تكريم الله أهل الإيمان، أن يرسل عليهم السماء مدرارا، والقول الثاني: أن الله حبس المطر عن قوم نوح وقوم هود أيضاً، على ما جرت به سنن الله الجارية الخارقة، في الأمم المارقة، وأن الآيات تسجل أن الله وعدهم بإرساله، -أي إعمال سننه المطردة- إن وعدوا بالإيمان، وقد ذكر القولين معاً الزمخشري والنسفي، وابن عطية والشوكاني، والقرطبي، وابن جرير، وأبو حيان. ثانياً: الآيتان وآية إرسال السماء مدراراً، على قوم هود، -التي نشير إليها لاستكمال الصورة- غير صريحات في تقرير المعنى الذي قاله السيد مبروك، ولذلك قرر علماء التفسير، أن فيها إشكالاً، كما ذكر الآلوسي وصاحب المنار، عند مقارنتها بآيات أخرى، كآية "لأسقيناهم ماء غدقاً". وما فيه إشكال لا يعد صريحاً، - ما دام للمفسرين فيه قولان - لأن ما داخله الاحتمال: بطل به الاستدلال. ثالثاً: المفهوم الذي فهمه السيد مبروك -بناءً على ما ذكره أكثر المفسرين- مناقض لآيات كثيرة صريحة: تقرر أن قانون التسخير لا يفرق بين مؤمن وكافر، والمفسرون الذين اعتد بهم السيد مبروك، لم يسوقوا رأيهم بصيغة الجزم، ومن ساقه بصيغة الجزم: ناقضه في تفسير آيات أخر، كقوله تعالى: "أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم بالخيرات بل لا يشعرون"، وقوله: "فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه...". وشرح ذلك يخرج عن مناقشة السيد مبروك، فالسيد مبروك زعم الإجماع على ما رآه، وزعم أن ذلك صريح القرآن، وهذان زعمان كما بينت غير صحيحين. المسألة الثانية: في تفسير قوله تعالى "ولقد كتبنا....أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" يرفض السيد مبروك قولي: إن الآية تقرر أن الصالحين لوراثة أرض الدنيا هم الصالحون لعمارتها، أياً كان دينهم، أي أن مؤهل وراثة الأرض هو صلاح العمران لا الإيمان، عندما يفترقان ويقول "هذا قول لم يقل به أحد من العالمين، ويستطيع القارئ أن يتناول أي كتاب تفسير". ولم استقص قراءة التفاسير، لكي أقول أن من المفسرين من قال: إن كان المقصود أرض الجنة، فالموعودون هم المؤمنون، وإن كان المقصود أرض الدنيا، فالموعودون هم الصالحون لعمارتها، ولكني أحيل إلى المفسر الفقيه الزحيلي، الذي قال بذلك، أما الأسباب التي دفعتني إلى تبني هذا الرأي، فسأبسطها في مقال تال، والجواب هنا على قدر التساؤل. السيد مبروك يقول: لم يقل به أحد، وجوابي: بل قال به بعض المفسرين الزحيلي. المسألة الثالثة: كل الآيات التي استشهد بها السيد مبروك: على تمكين المؤمنين: إنما هي نصوص خاصة بموسى عليه السلام وقومه، أو بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وكتب التفسير شاهدة بذلك، ولا يتسع -الآن- المجال لسرد ما قالوه. المسألة الرابعة: أثني - باستمرار - على ثناء السيد مبروك: على تراثنا العباسي، ولم أناد "بإسقاط الإرث العلمي" للعصر العباسي، ولكن قلت وأقول: إن مرجعيتنا المعيارية في بناء المفاهيم التربوية، وفقه الحضارة والاجتماع، هي صريح الكتاب والسنة، وحقل التطبيق النبوي والراشدي، وما فيها من حقائق التنزيل: المتوافقة - حتماً - مع حقائق العلوم، طبيعية واجتماعية، لأن مصدر الاثنتين رب واحد، "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً". أما التراث بعد عصر الراشدين: ففيه تفسير وتأويل بعيد وقريب، وفيه تأويلات بنيوية زئبقية، يمكن الاستئناس بها، ولكن لا يحتج بها، لأنها ليست معيارية. ولكي تكون معيارية لا بد من تصفيتها في مصفاة الكتاب والسنة، والآراء التي تابع فيها السيد مبروك غالبية المفسرين: دليل على حاجتنا للتصفية، كي لا نخلط بين الوحي والرأي، وكي لا نخبط حقائق علوم الطبيعة والاجتماع: بانطباعات المفسرين والرواة وأساطيرهم، التي يجد القارئ نماذج منها، في تفسير ابن كثير وتاريخه، فضلاً عن تفسير ابن جرير وتاريخه. المسألة الخامسة: لاحظ السيد مبروك -وهي ملاحظة تبدو لي صحيحة- أن مصطلح البركة الشرعية الذي قلته غير مناسب، ويبدو أن المناسب سنن الله الجارية الخارقة، لكي تشمل كرامة الإيمان وإهانة الكفران معاً. ووجيهة ملاحظة السيد مبروك، عن بركة التمكين، بأنها تدخل في مفهوم الإيمان، ويمكن نعتها بأنها بركة الإيمان الشاحن، وليست بركة الإيمان الخامل. ولكن، ثمة احتراس يدعو إلى فصلها وإبرازها تحت مسمى قانون التمكين. ذلك أن دمجها في مفهوم الإيمان: يتأسس على مفهوم لباس الإيمان والتوكل والتقوى، الذي يحتوي نسيجه على خيوط معنوية ومادية، كما صرح القرآن وطبقه الأنبياء، وكما طبقه جيل الراشدين تلقائياً. لأن مفهوم الإيمان نما في كتبنا الدينية نمواً مشوها، كاد أن يخل بمعادلة عالم الغيب والشهادة. ومن واجبنا اليوم في صوغ العقيدة، أن نستعيد التوازن، وأن نذكر بما غفل عنه المؤمنون من عالم الشهادة عليه، لنبني مصاد وسدودا عملية، تدفع عنا الضغط الحضاري الذي يواجهنا، راجع شيئاً من المفهوم العملي والمادي في "كتاب الإيمان" لابن تيمية. ومن هنا أصبح من المناسب إبراز شروط التمكين، قابلة للانفصال عن الإيمان الناقص أو البارد، الناقص الذي ينمو فيه العضل على حساب العقل الاجتماعي، والخامل الذي تنمو فيه الروحية على حساب المادية، ما دام الإيمان الناقص والخامل هما اللذان رسخا في ذاكرة الجماهير، وما دامت جماهير العضلات تفهم الوعد بالتمكين، على أنه يحصل بمجرد إعداد ما تستطيع مع الإيمان، فتندفع في مغامرات أو مقامرات غير محسوبة الآثار والنتائج، وما دامت جماهير الصوفية الجديدة: تنتظر إرسال السماء مدراراً عليها، أو تتدثر بعباءات الانتظار. المسألة السادسة: أوافق السيد مبروك، على أن العقائد لا يجوز تجديد مضمونها، لأنها ليست من الأحكام المتغيرة، وأن التجديد المشروع في العقيدة، هو "دفع الدخيل منها أو تفعيل حقائقها" كما قال، وأن التجديد غير المشروع، هو "إبداع مفاهيم جديدة، لبعض العقائد". ولكن يبدو أن كثيراً منا يتصور: أن عقيدتنا الصافية الشاملة الفاعلة: هي ما سطره المفسرون وكتاب الوعظ العباسي. ويبدو لي من عبارات السيد مبروك، أنه ظن أنني حينما خالفت المفسرين، ناقضت القرآن الكريم، وهذا ما أشرت إليه من الخلط في المرجعية، بين التراث العباسي وصريح القرآن والسنة، ولذلك لا غرابة إذا استنتج أن ذلك يخرج من التجديد المشروع إلى غير المشروع. وفي تقديري أن من دفع الدخيل عن العقيدة ومن تفعيلها معاً: ما ذكرته من ضرورة التعويل عند التخطيط على سنن الله الطبيعية والاجتماعية المطردة. ولا يلزم من التعويل على سنن الله الطبيعية والاجتماعية المطردة، إنكار سنن الله الجارية الخارقة، سواء كانت تكريما للمؤمنين أو إهانة للكافرين، بل معرفة مجال كل منهما، لكي يتجنب الناس أساليب المقامرة واليانصيب، والاندفاع المتهور تحت شعار "إن تنصروا الله ينصركم". ولفت الأنظار إلى ذلك: من صميم تحقيق التوحيد، ومن تصحيح مفاهيم الإيمان، أن نذكر بضرورة الاعتماد على سنن الله الطبيعية والاجتماعية المطردة: فمما يجب علينا معرفته لتحقيق التوحيد: أن نتيقن أن سنن الله الخارقة، لا تتسم باطراد ولا ثبات ولا شمول. كي لا نضعها في الروزنامة الزراعية أو الخطط الاقتصادية، ونقول قولة اليهود "نحن أبناء الله وأحباءه". كي لا نتصور أن سنن الله الطبيعية أو الاجتماعية، تطأطئ لنا ظهورها، لنمتطيها كلما ههممنا بالركوب، كرامة لأهل الإيمان. ولا يتحقق توحيدنا من الشرك الخفي إلا وفق هذه المعادلة، في فهم الوظيفة والطبيعة والمجال، في كل من سنن الله الاجتماعية والطبيعية الجارية اطراداً، وسنن الله الخارقة الجارية استثناء، وهذا من صميم تحقيق التوحيد، كما قال ابن القيم في زاد المعاد عن مشروعية التداوي "لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب، التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً". المسألة السابعة: ولعلي أزلت التوهم الذي تبادر إلى ذهن السيد مبروك، حينما توجس من تركيز مقالي على سنن الله الاجتماعية والطبيعية المطردة، فتوهم رائحة إنكار سنن الله الخارقة. على أنه ليس في مقالي ما ينفي ما انشغل بإثباته، مما اعتبره "أغرب النقاط التي ادعاها الحامد وأظهرها تناقضاً مع آيات القرآن الكريم" وأحسب أنني أجبت إجابة غير مباشرة على سبب هذا التوهم. وأضيف الآن نقطتين، الأولى: أن علي أن أوضح ما قصدت وما لم أقصد، فأقول إن المعنى الذي تبادر إلى ذهن السيد مبروك غير مقصود البتة، فما جرى لهذه الأمم الكافرة، أمر صرح به الكتاب والسنة مراراً، وصريح الكتاب والسنة أمر يسلم به الكاتب ويلتزم به. ولكن المقطع الذي استحضره السيد مبروك، له سياق وموقف لغوي محدد، هو سبب التقدم الزراعي ونحوه في دول كأميركا، وسبب التأخر الزراعي، ونحوه في الدول الإسلامية. والنص الذي استشهد به السيد مبروك، فقرة في وسط هاتين الفقرتين. ولم يكن النص في معالجة تاريخية، ليستعرض سنن الله الخارقة. ونحن اليوم في العصر الحاضر، نجد في صريح السنة أن الله رفع عن العالمين سننه الخارقة المحقة، كما ذكر المفسرون، في تفسير قوله تعالى "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، إلا ما ثبت في أشراط الساعة. والساعة علمها عند الله، فلا مشروعية لأن نتنبأ بأشراطها منذ القرن الهجري الخامس، فالله إنما كلفنا بالإعداد والقيام بالأدوار، لا التقوقع والتنبؤ والتوقع. ومن المشروع لنا اعتبار السنن الخارقة وطلبها وتوقعها، ولكن لم نكلف بترتيب أمورنا على توقعها، أفراداً أم جماعات ودولاً. ونحن بحاجة إلى تصحيح العقيدة، كي لا نعيش في وهم ذلك الرجل الصالح، الذي قال:لو أن لي دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان، وقد نسي أن العلاقة تبادلية بين السلطان والأمة، ولا يمكن أن يصلح الرأس، إذا كان الجسد مريضاً، والله لم يخرق قانون تغيير المجتمعات -بعد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم-بالدعوات، ولو كان ذلك صحيحاً لما فسد السلطان منذ العصر الأموي-على الأقل- كي لا نندد بالعصر العباسي، فيزداد غضب أخي السيد مبروك، فقد راعيته آنفاً أيضاً فلم أذكر أن ذلك الرجل الصالح عباسي أيضاً-، وليس هذا مجال الفرق بين دعاء السنة وأدعية البدع. الثانية: ألتمس العذر للسيد مبروك، وهو لا يعرفني-كما التمسته للذين يعرفونني عندما توجسوا من نقدي طريقة تعليم القرآن، وتوهموا أنني أقلل من جدوى فتح مدارس تعليمه-. وإذا صح أن كاتباً مثلي - كما أزعم - يتحرى الوضوح، وأن قارئاً مثقفاً باحثاً، كالسيد مبروك: - كما ذكر - يقرأ باهتمام بالغ، فالغموض إذاً غموض موضوع، وعلي- إذاً - ألاّ أتهم مثقفاً كاتباً باحثاً كالسيد مبروك في فهمه، فأنشغل بنقاش ثنائي. فالإيحاء والاستيحاء والانطباع واردان، فقد تستولي فكرة على الكاتب حتى يغفل الاحتراس من الإيحاء، ولا أبرئ نفسي، وقد يستولي انطباع على قارئ حتى يصادر العناصر البارزة لصالح العناصر غير البارزة، أو يعتبر العناصر الغائبة، بسبب المقام أو الغفلة عن الاحتراس: مغيبة عمداً، فيدخل في سلم استنتاجات غير موضوعية، تبدأ أولاً بأن يعتبر الغائب مغيباً عمداً، ثم يعتبر استنتاجه الاحتمالي متعيناً، ثم يعتبر الاستنتاج المفهوم لازماً، ثم يعتبر لازم القول قولاً، ثم يتخذ موقفاً من هذا الذي ألزم به، فيغفل أن لازم القول ليس بقول، لا سيما إذا لم يكن أمام نص مسرحي أو قصصي أو رمزي، يسمح بالتأويل. وأحسب أنني استوفيت المناقشة المباشرة لما أثاره السيد مبروك، ولكنه وضعني في مواجهة المفسرين، وأثار بضعة اشكالات وبضعة أسئلة، ثم تركني في غابة التفسير، ألبس نظاراتهم السميكة، فأفهم القرآن من خلال هوامشهم المضطربة حيناً، ثم أخلعها حيناً آخر، فأتصور أن حواشيهم انقلبت على المتن، ولن يتضح القول إلا بمناقشة المفسرين، في صورة الفكر الاجتماعي، الذي قدموه هامشاً للقرآن الكريم، وهو أمر يحتاج إلى بسط وتبسيط، يخرج عن طبيعة الرد ووظيفته. * كاتب سعودي.