لنجاح انتشار منظومة فكرية جديدة ما، يرى المفكر الألماني كارل مانهايم، ان توفّر جمهور جديد يتبنّاها، شرط أساسي. ومن هذا المنطلق نفهم، مثلاً، تعثّر المناهج التربوية الجديدة في لبنان التي أوكل أمر تحقيقها لجمهور من الأساتذة القدماء. فالفكرة الجديدة أوكلت لجمهور قديم. من هنا فشلها. أما فكرة البيئة، الجديدة أيضاً في لبنان، فهي، على الأقل نظرياً، أوفر حظاً من المناهج التربوية الجديدة، ذلك ان الجمهور الذي قام بتبنّيها بمعظمه شبابي، مما يعني أن الشرط الذي يعوّل عليه مانهايم كثيراً في نجاح عملية التحوّل، متوافر. فالفكرة الجديدة هنا الاهتمام في الشأن البيئي يواكبها نموّ جمهور جديد هو الجمهور الشبابي بحيث اننا نتوقع، افتراضياً، تماهياً بين الشباب واعتماد السلوك البيئي الأمثل، في شؤون الحياة اليومية. هذه الفكرة تحديداً هي التي أرادت الطالبة ثناء الحلوة ان تختبرها في شمال لبنان أخيراً، على أساس بحث ميداني وعينة تضم 210 أشخاص، من المستويات الاقتصادية كافة ومن الأقضية الشمالية المختلفة ومن جميع الأعمار. وقد تبين لها، على عكس ما قد نتوقعه، ان أنماط تفكير وأشكال سلوك الشباب ما بين 15 و22 سنة والمسنّين ما فوق 60 سنة شبه متطابقة من ناحية، كما انها، من ناحية ثانية، مفاجئة في سطحيتها. فأفكار الشباب اللبناني حول المسألة البيئية ضبابية على نحو عام - كما سنراه بالأرقام - علاوة على انها غير منسجمة مع ما تفترضه الأزمنة المعاصرة. مما يعني أن الوعي البيئي عند الشباب اللبناني اليوم لا يعدو كونه، علامة استفهام كبيرة. يميل الشباب اللبناني بقوة الى اعتبار ان المجال الأرضي هو المكوِّن الأساسي للبيئة، مستبعداً المجالين الجوي والمائي. فوعيه البيئي يقتصر عملياً على ما يدركه ذهنه على اليابسة. أي ان تلوّث الهواء مسألة مبهمة بالنسبة اليه، وكذلك تلوث مياه البحار والأنهار والمياه الجوفية. مما يعني أن العدة التي يدخل بها الى الوعي البيئي مبتورة. أما على صعيد معارفه العامة فقد بيّن الاستطلاع الميداني ان 34 في المئة فقط من الشباب يعلمون بوجود وزارة للبيئة في لبنان. كما ان 28 في المئة فقط اعترفوا بأنهم يعلمون بوجود لجنة نيابية للبيئة. ماذا يعني ذلك؟ يعني بكل بساطة ان الشأن البيئي وما يتعلق به، بعيد في الوقت الحاضر عن إدراكه السياسي العام. فهو قليل المبالاة بالمؤسسات الرسمية المعنية في الشأن البيئي في البلاد. كما انه لا يُدخلها في فلك تصوّره السياسي العام. الى ماذا يعيد الشباب، ضمناً، سبب هذه الظاهر؟ يعيدها الى قلّة اهتمام وسائل الاعلام المحلية - وخصوصاً المرئية والمسموعة - بنشر الوعي البيئي. ذلك ان 84 في المئة منهم يشكون عدم حصولهم على اعلام كاف للتزوّد بالوعي البيئي. وهذا أمر صحيح. فالإعلام الرسمي في لبنان ما زال مشغولاً، منذ نهاية الحرب، بشؤون السياسة المحلية التقليدية والتي لا مكان فيها للبيئة. أما وسائل الاعلام الخاصة فتجارية ولا ترى في البرامج البيئية أي مصدر لزيادة هامش أرباحها. على صعيد الوسائط الاعلامية المكتوبة، يقول 41 في المئة من الشباب إنهم يعلمون بوجود مجلات ومنشورات بيئية كمجلة البيئة والتنمية ومنبر البيئة والبندر الأخضر والكورة الخضراء. علماً أن بعض هذه المجلات زراعي. لكن المشكلة تكمن في ان التفاوت صارخ بين ما يختزنه هذا الشباب في جعبته من معلومات حول هذه المجلات وما هو مستعد، في الحقل العملي، لممارسته تجاهها. ف41 في المئة من الشباب يعلمون بوجود مجلات بيئية، لكن 12 في المئة فقط منهم يقدمون على شرائها. مما يعني أن المسافة ما زالت كبيرة جداً بين الشباب والاعلام المطبوع. إذ أن حشريته العلمية أو الثقافية العامة محدودة جداً. علماً أن هامش مسؤوليته الذاتية كبير جداً. فابتعاده عن الاعلام المطبوع، والذي يدرك وجوده، يعود الى قلة اقتناع أو انجذاب داخلي به وبموضوعاته وبكل ما يطرحه. مَن المسؤول عن حماية البيئة في لبنان؟ على هذا السؤال المباشر أجاب الشباب، وبنسبة 94 في المئة، أن المسؤولية تقع أولاً على "الدولة". أي على المؤسسات الرسمية. وفي المقام الثاني فقد اعتبر الشباب ان مسؤولية حماية البيئة تقع على الجمعيات الأهلية المهتمة، بنسبة 31 في المئة. واعتبر اخيراً، وفي المقام الثالث، 16 في المئة فقط من الشباب. ان الفرد مسؤول عن حماية البيئة. أي ان ادراك البيئة وضرورة حمايتها ادراك برّاني بالنسبة الى السواد الأعظم من الشباب. فالمؤسسات الحكومية هي المسؤول عن هذا الشأن، ولا يقع هو، في سلّم الأوليات هذا، كفرد وكمواطن. وبهذه الطريقة في إمكان الشاب، أن يبرر تجاهله للشأن البيئي الذي هو شأن خارجي بالنسبة اليه. وهنا نلمس المكمن الأساسي لتعثّر علاقة الشباب السوية والمسؤولة مع المسألة البيئية في لبنان وعلى الأرجح في بلدان عربية أخرى. فقد شيّد المجتمع مناخاً غير مناسب، من حيث لا يدري، للتعاطي مع البيئة. فشؤون هذه الأخيرة مفصولة معرفياً عن شؤون المواطنية. فالوعي البيئي يقع على ضفة والوعي المواطني على ضفة مقابلة. و"الدولة" تسيل بين الضفتين ويرمي الكل فيها مسؤولياته. الشباب، مثله مثل المسنين بالمناسبة، يغسل يديه من هذا الصديق، ويرمي مسؤولية البيئة شبه كلياً في أحضان الدولة، أي الآخر، من دون تردد ولا حرج. ومعبّر جداً أيضاً، أن تتساوى النسب في الاجابات، في هذا المجال، عند الشباب وغير الشباب. فالمناخ المعرفي العام على هذا النحو. والشباب لا يتمايز عن المسنين في ادراكه لهذا الشأن، بل انه يشاطره ذهنيته العامة التي تضع كرة البيئة في مرمى الآخر والخارج. فكيف للوعي البيئي، والحال على هذا النحو في البنيان المعرفي العام، ان يتبلور وأن ينمو في شكل تصاعدي. في الواقع ثمة مشكلة ذهنية في التعاطي مع الشأن البيئي عند القسم الأكبر من شبابنا المعاصر، فتقسيمات الذهنية التقليدية، والتي توزّع كل الأمور على أساس انتمائها للداخل أو للخارج، ما زالت تحكم تعاطيه مع هذه المسألة الجديدة التي هي البيئة. فالشباب عندنا لا يزال يتعامل معها على انها إما وافدة، وبالتالي فإن الغرب يتحمّل مسؤوليتها، وإما خارجية، وبالتالي فإن "الدولة" تتحمل مسؤوليتها. وفي الحالين عدم استعداد معرفي لزجّ الذات في هذا الموضوع. وفي السياق نفسه يعترف 69 في المئة من الشباب انهم يبقون الحنفية مفتوحة على مداها الكامل اثناء استهلاكهم للماء لغرض الاغتسال. أي ان ثلثي هذه الشريحة الاجتماعية الصاعدة في المجتمع لا يبدي استعداداً للالتزام بموقف عملاني يصبّ في المحافظة على الثروة المائية في البلاد. فالدفاع الاستراتيجي عن البيئة غير وارد عند معظم الشباب الذين هم، في المقابل، مستعدون للاشارة الى خطورة شحّ المياه في منطقة الشرق الأوسط مستقبلاً. كما يشير 41 في المئة من الشباب انهم قد أسهموا في زرع نبتة أو شجرة في حياتهم. أي أن أقل من نصف الشباب قد خاض هذه التجربة حتى الآن. وهذا دليل اضافي على البقاء على مسافة من الشأن البيئي. الشباب والمسنّون لا يختلفون في نمط تفكيرهم البيئي. بحيث يغدو الجمهور "الجديد" جمهوراً قديماً في تكوينه الداخلي. وتنتفى الفروقات الذهنية التي يفترضها اختلاف الأجيال.