أوجد العالم المعاصر إنجازات تكنولوجية عظيمة - وصفها البعض بالثورة - إلا أنه خلف أيضاً سلسلة كبيرة من المشكلات الناتجة من الحياة الاستهلاكية التي رافقت نموّ التقدم التكنولوجي. فنمط العيش الاستهلاكي أدى الى انتاج عدد هائل من الحاجات التي يستخدمها الانسان، موقتاً، قبل أن يرميها جانباً، أو الى تلف مقدرات طبيعية كثيرة جداً، طمعاً بالربح السريع. من هنا غدا التلوّث رديف تدمير البيئة على امتداد الدول والقارات. وعلى هذا الأساس بات يتبلور اليوم، عند الجميع، وعي بيئي لم تكن تحتاج اليه مجتمعات القرن التاسع عشر، ما قبل الصناعي. أما حصتنا من هذا الوعي البيئي، في العالم العربي، فمتواضعة حتى اليوم. النتيجة متواضعة لأسباب عدة أبرزها طابعها المنقول. فوعينا البيئي ما زال مستورداً، الى حد بعيد، ويقوم على حصيلة أبحاث وجهود قامت بها جمعيات بيئية أوروبية وأميركية على نحو عام، فالأبحاث الجادة والمختبرات الموثوق بها ما زالت صادرة عن العالم الغربي، وآخر تجليات هذا التأخر المحلي يظهر في عجز بيئيينا، العام الفائت، عن تقديم تفسير مقنع لنفق أعداد هائلة من السمك في الخليج بين ليلة وضحاها. فمنهم من تكلّم في الصحف المحلية آنذاك عن مدّ أحمر، ومنهم من توقع ارتفاع معدلات مادة الزئبق في المياه، الأمر الذي تسبب بتسمم الأسماك، ومنهم من اعتبر ان المسألة لا تتعدى كونها ظاهرة طبيعية. الى أن جاءت النتيجة من المختبرات الأميركية، مفيدة ان سبب هذه العدوى يعود الى وباء بكتيريولوجي استفحل ببعض الأصناف السمكية الخليجية. خلاصة الأمر ان تعاطينا مع الوعي البيئي ما زال حتى اليوم تعاطي مبتدئين. فعلى رغم ان جمعياتنا البيئية نشأت، في معظمها، عقد أو عقدين من الزمن، وعلى رغم ان بعضها بات يتمتع بدعم مالي كبير - خصوصاً في الخليج - بقيت النتيجة العامة دون المستوى المطلوب أو المتوقع. فالجمعيات البيئية غالباً ما نشأت عندنا على أطراف نشاطات جامعية، منطلقة من جامعات خاصة، أو أن مؤسسيها والأعضاء الفاعلين فيها كانوا من الأجانب كما هي الحال مثلاً عند الجمعية الاماراتية للتاريخ الطبيعي. فعلى رغم ايجابية المبادرة وصحتها وصدقها، نشأت مسافة بنيوية مع هذا الأمر، بين جمهور العامة وجمهور الخاصة، فلم يُعنَ الأهلون مباشرة بعملية التوعية المطروحة. فالوعي البيئي النخبوي، المحصور بين جدران الحرم الأكاديمي، وعي مبتور. يعتمد فقط السكان المحليين كخزان من المعارف الفطرية المرتبطة حصراً بتقاليد الصيد. من هنا ينشأ التباين في المواقع، فيغدو بذلك الناشط البيئي عالماً، بينما يبقى ابن البلد في مصاف الجهّال. وهذا في حد ذاته أمر خطير، إذ انه يُدخل في قلب الناشط البيئي شعوراً بالتفوّق وطمأنينة يحبسها عند ابن البلد العادي. تقولبت، ويا للأسف، معادلة الوعي البيئي عندنا هذا القالب، فأضحت من حيث لا تدري حاجزاً معرفياً، يقف في وجه توسيع نطاق الوعي البيئي وتعميمه. فالشباب الجامعي يشغف بالنشاطات البيئية التي تعيده الى الطبيعة والتي تحتل اليوم مركز صدارة كانت تحتله الرياضة. إلا ان شدة ارتباط هذا النشاط البيئي بالاطار الأكاديمي، يجعله قصير النفس وقليل المردود الجماهيري، الى درجة ان المزارعين وأهل الريف وصيادي الأسماك لا يشعرون بوحدة حال مع أعضاء هذه الجمعيات الذين يتجاهلوهم بغير اسلوب أو يتعالون عليهم بمعارفهم "العلمية". ففي نهاية المطاف، ما نفع أن يوجد الوعي البيئي في بلد ما، من دون أن يجتاح كل شرائح النسيج الاجتماعي؟ فالخوف على هذا الصنف من الوعي، الجديد والحيوي، أن يتحوّل معرفة حصرية ومنمطة كالتي تزخر بها جامعاتنا. إلا أن منظمة الأممالمتحدة شعرت أخيراً بخطورة إبقاء الوعي البيئي، على مستوى جنوب الأرض، في هذا القمقم. فبادرت برعاية عدد كبير من الجمعيات البيئية، في مختلف أنحاء العالم، مشجعة إياها بالدعم المادي والمعنوي، على تنظيم ادارة عدد من المحميات الطبيعية. وبدا ان هذه المبادرة كانت الأنجح، إذ أخرجت الاهتمام بالشأن البيئي من مجموعة جامعية ضيقة، لتوزّعه على مجموعات أهلية وبلدية، تعيش وتعمل بعيداً من العاصمة، في قلب الطبيعة وبين أهلها. فاستقامت بذلك المعادلة المعرفية السابقة التي، لو دامت طويلاً، لأدت الى تشويه علاقة الجمعيات البيئية بأهل الطبيعة والذين يعتاشون منها أباً عن جد. وتبيّن مثلاً ان علاقات القرابة والجيرة التي تربط بعض أعضاء جمعيات رعاية البيئة، المتعاقدين مع برنامج الأممالمتحدة للتنمية UNDP، بصيادي الأسماك في الميناء، على الشاطئ الطرابلسي، وبصيادي الطيور، في حرج إهدن، في أعالي جبال شمال لبنان، أسهمت في شكل فاعل في نشر الوعي البيئي من دون استعداء الأهلين وأصحاب العلاقة بالطبيعة سابقاً. أي ان المسألة، مثل بيضة كولومبوس، كانت تحتاج فقط الى شيء من التفكير، لا أكثر ولا أقل. المشكلة الثانية التي تعانيها الجميعات البيئية الناشطة في لبنان والعالم العربي اليوم تتمثل في عدم تخصصها. فالناشطون البيئيون عندنا يدّعون معرفة كل شيء والالمام بكل شؤون البيئة. لما أن يطلّوا اطلالة اعلامية عليك، عبر الشاشة الصغيرة مثلاً، حتى يكرّوا السبحة كلها. فيكلمونك عن مضار الأمطار الحمضية وعن مساوئ تلوّث الهواء، وعن مخاطر تلوّث مياه البحر والمياه الجوفية، حتى يغدو المستمع أو المشاهد، في نهاية الأمر، في حال خوف عميق من عظمة خطر شامل وأخطبوطي يحيط به من كل صوب. فبدلاً من أن يزداد العامة وعياً، يزدادون خوفاً وهلعاً. فيصبّون إذذاك في عكس ما هو مراد لهم أن يكونوا فيه. وهناك شواهد عدّة على هذا الأمر في الانعكاس السلبي الذي أدّت اليه، على سبيل المثال، بعض الحلقات الموضوعة في خانة التوعية البيئية والتي أُدرِجَت في بعض البرامج التلفزيونية. فالكلام المشتبك يؤدي الى رد فعل دفاعي سلبي. وهذا شأن لا يكترث اليه الناشطون البيئيون عندنا، الذين يعتبرون انهم كلما أغدقوا على المستمع أو المشاهد وقائع كارثية، زادوه وعياً. فيتبين حينها أن تكوينهم الفكري ناقص، إذ يفتقر الى أبسط مقومات الاقناع، وهو الوضوح. والبديل من الاهتمام بالشأن البيئي، على نحو شامل، هو الاهتمام المحصور ولكن الرصين بأحد أوجه الشأن البيئي. كانشاء جمعية تهتم مثلاً فقط، ولكن في شكل متواصل وفاعل، بالشؤون المتعلقة بالمياه الجوفية في لبنان، أو بانعكاس نمط التغذية المعاصر على المستهلك في السعودية، أو بأثر الأسمدة الكيماوية في الحياة الزراعية وحياة الانسان في مصر والأردن وسورية. والتخصص في الاهتمام البيئي وانعكاساته على الانسان، على هذا النحو، نجح مثلاً في التجربة التي خاضها رالف نادر في الولاياتالمتحدة الاميركية. فاهتمامه المتواصل بالدفاع عن المستهلكين، حصراً، سمح له بحصد ما يقرب من أربعة في المئة من أصوات الناخبين الاميركيين خلال الانتخابات الرئاسية الفائتة. أي ان الجهد الرصين والمتواصل، المحصور في وجه محدد من علاقة الانسان بالبيئة، هو أكثر إقناعاً بالنسبة الى الجمهور العام من الاهتمام المبعثر والشامل وبالتالي الغامض بالشأن البيئي. هذا درس ينبغي أن يستخلصه الناشطون البيئيون عندنا الذين لا يتعاملون وظيفياً مع هذا الجانب المهم من حياتنا المعاصرة، بل الذين يتعاملون معه كأنه شأن اعلامي لا يحتاج الى سوى عملية تراكم معلومات. فكما يقول المثل الشعبي "مَن يُكبّر الحجر، لا يصيب هدفه". أي ان مَن يكثر من العموميات يغرق فيها، وهذا أمر ينبغي التنبّه الى خطورته، خصوصاً انه يقترن عندنا بالطابع النخبوي للمعرفة البيئية. فما يحتاج اليه الوعي البيئي عندنا اليوم، جيل جديد من الناشطين البيئيين وشكل مبتكر من الوعي البيئي. فالشأن البيئي شأن عام، بكل معنى الكلمة، لأنه يشمل اليوم الجميع، في المدينة كما في الريف، في بلداننا كما في كل بلدان العالم. لذلك لا يصح أن يكون الوعي البيئي وعياً واسع الرواج في الأوساط الموصوفة بالمثقفة وقليل الانتشار في الأوساط الشعبية. ولا يجوز للناشطين البيئيين ان يكتفوا بتقديم "مازة" واسعة من معارفهم، كل مرّة يُطرح هذا الموضوع، بل عليهم أن يتعمقوا في جانب واحد من هذا الموضوع الواسع، وان يقنعوا تدريجاً الناس بجدية مقاربتهم ومعالجتهم له. فالكلام الكثير والمتشعّب في هذا المجال تحديداً، يذكرنا بالكلام الكبير والفارغ الذي واكب حياتنا السياسية منذ نصف قرن ونيّف، من دون أن يفلح ومن دون أن يوصلنا الى نتيجة تُذكر. فهل نكرّر الخطأ المنهجي إياه؟