عندما وقعت المعاهدة المصرية - الإسرائيلية كان عدد المستوطنين في الضفة والقطاع حوالي 50 الفاً. وتقع المسؤولية الرئيسية عن زرعهم في الأرض المحتلة على عاتق حزب "العمل" الذي حكم اسرائيل طوال العقد الفاصل بين حرب حزيران يونيو ووصول "ليكود" الى السلطة في 1977. يومها وعد مناحيم بيغن بوقف الاستيطان لخمس سنوات وفعل ذلك لثلاثة أشهر فقط! ومع تراجع "الخطر" العسكري المصري تطورت العدوانية الإسرائيلية. وشهد عقد الثمانينات نمواً كبيراً في عدد المستوطنين والمستوطنات في ظل حكومات الوحدة الوطنية كما في ظل حكم اليمين منفرداً. وقاد الأمر الى مواجهة محدودة بين الرئيس الأميركي جورج بوش الأب وبين اسحق شامير. وبعد انعقاد مؤتمر مدريد ل"السلام" كان المستوطنون ربع مليون أو أقل قليلاً. عاد اليسار الى السلطة وتولى اسحق رابين رئاسة الحكومة التي فاوضت وتوصلت الى اتفاق أوسلو. طالب الاميركيون، تحت الضغط، بتجميد الاستيطان فوافق رابين مستثنياً، منذ ذلك الوقت، ضرورات "النمو الطبيعي". ولما تعرّض الى هجوم شرس من احزاب اليمين اجاب ببرودته المعهودة "هل بناء 11 الف وحدة سكنية جديدة يعني تجميداً؟". واستمر التدفق اليهودي على الأرض المحتلة على رغم الاتفاق الشهير الذي أرجأ قضية المستوطنات الى مفاوضات الحل النهائي، في ظل تعهد عام بعدم اتخاذ اجراءات من طرف واحد تغيّر الوقائع الميدانية. يبلغ عدد المستوطنين، اليوم، حوالي 400 الف في مجمل الأراضي المحتلة عام 67. ويسمح ذلك بتقديم ملاحظتين. الأولى ان "سنوات أوسلو" هي سنوات استيطانية بامتياز. الثانية ان فترات حكم اليسار، رابين ثم شمعون بيريز، ثم ايهود باراك، تتفوق، لناحية النشاط الاستيطاني، عن فترات حكم اليمين ممثلاً ببنيامين نتانياهو وحالياً بآرييل شارون صاحب الرأي القائل إنه اذا لم يكن لليهود حق في "يهودا والسامرة" فلا حق لهم في حيفا ويافا وتل أبيب! ويكفي المرء ان يراقب الحياة السياسية في اسرائيل ليدرك ان الهوس الاستيطاني لشارون غير ممكن التسويق لولا التزويق الذي يضفيه عليه بيريز و"عماليون" آخرون لم يعودوا يجدون غير ياسر عرفات عقبة في وجه السلام لمجرد انه رافض التحول الى... صهيوني! لقد ادرك بيريز بحس يفتقر اليه شارون ان المطلوب خوض معركة استباقية في ما يخص الاستيطان. لقد لاحظ ان المبادرة المصرية - الأردنية تدعو الى "وقف فوري وكامل للاستيطان بما في ذلك في القدسالشرقية"، وانتبه الى ان احد مسؤولي الصليب الأحمر الدولي اعتبر الاستيطان "جريمة حرب". وليس مستبعداً انه كان في أجواء ما سيدعو اليه "تقرير ميتشل". لذلك فإنه حاول اقناع رئيسه باستحالة خوض معركة مواجهة مباشرة ونجح في استعادة "النمو الطبيعي" من ترسانة حزب "العمل" معتبراً ان في الامكان القتال، والانتصار ربما، تحت هذا العنوان. يتحدث تقرير ميتشل عن ثلاث مراحل: وقف العنف، واعادة بناء الثقة، واستئناف المفاوضات. وهو يحاول ان يوزع المسؤولية على كل من الفلسطينيين استنكار الارهاب ومعاقبة منفذيه والاسرائيليين. ولا بأس من اقتباس طويل عن خلاصات التقرير: "على الحكومة الاسرائيلية تجميد جميع النشاطات الاستيطانية بما في ذلك "النمو الطبيعي" للمستوطنات القائمة". ان هذه المطالبة هي ما يعتبرها التقرير "عدم مكافأة للاحتلال" في مقابل ما يطالب به الاسرائيليون من "عدم مكافأة للعنف". لا يكتفي التقرير بذلك بل يضيف: "ان شكل التعاون الأمني الذي ترغب فيه الحكومة الاسرائيلية لا يمكن ان يستمر طويلاً مع استمرار النشاط الاستيطاني الذي وصف اخيراً من قبل الاتحاد الأوروبي بأنه يسبب قلقاً شديداً ومن قبل الولاياتالمتحدة بأنه استفزازي". ويدعو التقرير "الحكومة الاسرائيلية الى ان تبحث جيداً في ما اذا كانت المستوطنات التي تمثل بؤراً لاحتكاكات كبرى أوراق مساومة قيّمة في المفاوضات المستقبلية أم هي استفزاز من المحتمل ان يحول دون انطلاق محادثات مثمرة". الخلاصة السياسية من هذا الكلام هي، بالضبط، ما عبر بيريز عن خشيته منه: ايجاد رابط ما بين التوسع الكولونيالي ورد الفعل الفلسطيني، الأمر الذي يضفي مشروعية على أية مقاومة. لذلك لم يكن مستغرباً ان تبذل اسرائيل جهداً في صياغة الموافقة على تقرير ميتشل بعد افراغه من مضمونه هذا. ولئن كان التقرير يفصل بين الوقف غير المشروط للعنف مسؤولية الجانبين ووقف الاستيطان فإنه لا يذهب الى حيث وصل وزير الخارجية الأميركي كولن باول الذي كاد يعتبر ان استمرار الثاني لا يجيز المضي في ابداء الرفض الفلسطيني. ان التقرير يرهن ثبات التعاون الأمني بالتجميد الكامل للاستيطان تمهيداً لربطه ب"مفاوضات سياسية جدية". لن يكون ممكناً ان تقبل القيادة الفلسطينية بما هو أقل من ذلك. واللافت ان حجة "الرأي العام" تلعب، في هذا الموضوع، لغير مصلحة الحكومة الشارونية لأن 49 في المئة من الاسرائيليين يعتبرون المستوطنات عقبة امام السلام في حين يؤيدها 41 في المئة معاريف، 29-5-2001، كما ان 36 في المئة فقط يملكون نظرة ايجابية الى المستوطنين. ان من واجب القيادة الفلسطينية المطالبة بوقف شامل لأي اجراء آحادي يصادر نتائج المفاوضات. وان لم تفعل فانها ستفتح الطريق لتحقيق امنية احد المتطرفين الصهاينة هافا بنحاس كوهين الذي كتب يقول "لو ازيحت قلقيلية من مكانها لتوقفت الهجمات على نتانيا، ولو ازيحت الفريديس لما هوجم القطار بين حيفا وتل أبيب، ولو رحل عرب اللد والرملة لحلت مشكلات الدعارة والمخدرات في وسط البلاد".