من أجدر من المحامين السوريين خارج الوطن أو في الداخل من تقديم الدفاع عن المثقفين. خصوصاً وقد مررنا في التجربة نفس عام 1980 رداً على مطالبنا التي لا تختلف عن مطالب المثقفين اليوم، والتي تتمحور كلها حول بناء دولة القانون، واطلاق الحريات العامة، وإلغاء حالة الطوارئ والأحكام العرفية وسائر القوانين والمحاكم الاستثنائية، وصيانة حقوق الانسان والرأي الآخر وبناء المجتمع المدني ومؤسساته الديموقراطية عبر صناديق الاقتراع الحر والنزيه. بدأنا حركة المطالب المشروعة هذه بقرار صادر بالاجماع عن الهيئة العامة في المؤتمر المنعقد في حزيران يونيو 1978. وانضمت الى هذه المطالب نقابات الأطباء والمهندسين والصيادلة والمهندسين الزراعيين، ورابطة الدفاع عن حقوق الانسان بدمشق، وجمعية رعاية المساجين، وعدد كبير من الأدباء والمثقفين خارج اتحادهم: وبعد رفض السلطة إجراء أي حوار معنا، واستلام قراراتنا ومطالبنا التي تأكدت وترسخت في مؤتمرات جميع النقابات في البلاد، مؤيدة بقرار واضح من اتحاد المحامين العرب الذي أكد مطالبنا، أعلنا الاضراب العام، بتاريخ 31 اذار مارس 1980 وانضم اليه القضاة في جميع المحافظات السورية. فكان الجواب الاعتقال وحل النقابات المنتخبة وتعيين مجالس نقابات صورية. وقضى النقابيون عشر سنوات في السجون من دون محاكمة، وشرد العشرات الى الخارج. واليوم يتابع المثقفون خطى نقاباتنا السلمية. ... وقد نص الدستور السوري على صيانة حرية الفكر والرأي. وقال الرئيس الراحل: "لا رقابة على حرية الفكر سوى رقابة الضمير". وأكد خليفته الحالي: "احترام حرية الفكر والرأي الآخر". وهذا يفترض حرية التعبير العلني، وحرية القول والكتابة وسائر وسائل الاعلام، وحرية التجمع والتظاهر والمنتديات والأحزاب والنقابات والصحافة والقضاء. والمثقفون السوريون لم يتآمروا في الظلام لقلب نظام الحكم وخرق الدستور. بل عملوا في وضح النهار، وتحت نور الشمس عبّروا عن رأي السوريين. إن المادة 291 من قانون العقوبات السوري يجب ان تطبق على غيرهم وليس عليهم. ونحن مع معاقبة خارقي الدستور ومنتهكي أبسط حقوق الإنسان. أما اتهام المثقفين بمحاولة اعادة سورية الى عهد الانتداب الفرنسي فليزمنا العودة الى الوراء. وتحررت سورية من الاستعمار الفرنسي، كما تحرر لبنان، وكانا البلدين اللذين نالا استقلالهما الوطني قبل استقلال جميع الدول العربية بفضل نضال شعبيهما وتضحياتهما، وبفضل الوعي الوطني الديموقراطي الذي انتجته المنتديات الثقافية والسياسية، ومنابر الأحزاب والجمعيات والنقابات والصحافة الوطنية التي كانت متعددة الآراء والاجتهادات، وتلتقي كلها حول تحرير الوطن واستقلاله وحقوق الشعب وحرياته. ووقف الاستعمار الفرنسي عاجزاً لم يستطع اغلاقها، أو اعتقال أصحابها كيفياً. وأذكّر بهذه المناسبة الخائفين من الحريات العامة ومنتدياتها بمنتديات وأحزاب وصحافة تلك الحقبة على سبيل المثال لا الحصر: - منتديات ومضافات مدينة حلب: عبدالرحمن الكواكبي، آل مرّاش، هنانو زعيم ثورة الشمال. - وفي حماة منتديات أكرم الحوراني، عمر الشيشكلي، آل كلاس، ومنتديات ديوانيات كل حي من أحياء المدينة التي لم تغلق الا بعد عام 1970. - وفي حمص منتديات هاشم الاتاسي، نديم موصللي، هاني السباعي، آل الدروبي... - وفي اللاذقية منتديات آل هارون، والدكتور وهيب الغانم، وبدوي الجبل. وفي لواء اسكندرون السليب منتدى ومضافة زكي الأرسوزي، ومنتدى صحيفة العروبة وصاحبها صبحي زخور حتى اغتصاب اللواء عام 1939. - وفي دمشق منتديات ومضافات ماري عجمي صاحبة مجلة العروسة، الشيخ محمد الأشمر أحد زعماء الثورة السورية، فارس الخوري، فخري البارودي، وغيرها. - وفي السويداء وجبل العرب منتدى ومضافة سلطان باشا الأطرش زعيم الثورة السورية، منتدى عقلة القطامي عقل الثورة المدبّر، منتدى آل هنيدي وآل عامر... وفي المدن والمناطق اللبنانية كانت المنتديات والجمعيات وسائر مؤسسات المجتمع المدني منثورة كحبات اللؤلؤ المجتمعية والوطنية في سورية آنذاك. وتشكلت سائر الأحزاب السورية واللبنانية في عهد الانتداب الفرنسي للنضال ضده، وتحقيق الاستقلال الوطني. ولم يعتقل كيفياً أي مواطن لمجرد انتمائه الحزبي أو اتجاهه الفكري. ومن أوائل التشكيلات الحزبية، الحزب الفيصلي 1920، ثم حزب الشعب الذي أسسه الدكتور الشهبندر عام 1922، والحزب الشيوعي في سورية ولبنان 1924، اسسه فؤاد الشمالي ويوسف يزبك في لبنان، وفوزي الزعيم وخريستو قسيس في سورية، والكتلة الوطنية اسسها هنانو وهاشم الاتاسي وسعدالله الجابري ولطفي الحفار ونجيب الريس 1928، ثم تحولت الى الحزب الوطني في 1940، الى جانب أحزاب لبنان المعروفة في تلك المرحلة: الكتلة الوطنية وحزب الكتائب والحزب السوري القومي وحزب النجادة، وغيرها. وكان لكل حزب صحافته العامة. وكانت منتديات كل حزب وتجمعاته تشن هجوماً يومياً ضد الاحتلال الفرنسي، حتى جلاء آخر جندي فرنسي عن أرضنا في 17 نيسان ابريل 1946. ولم يعتقل قادة الكتلة الوطنية التي شكلت أولى الحكومات الوطنية في سورية ولبنان أكثر من أشهر قليلة، في سجني تدمر في سورية وراشيا في لبنان، لموقفهم الحاسم ضد الانتداب، واصرارهم على الاستقلال التام الناجز. ولم يتعرض أي منهم للتعذيب أو الإهانة. واذا كانت المنتديات الثقافية والمضافات الشعبية والعرائض نشاطات معادية للأمن والاستقرار فلماذا سمح لعدد من سيدات الطبقة الجديدة بفتح منتديات ثقافية وندوات أدبية في منازلهن؟ امتاز المجتمع السوري بالطبقة الوسطى التي كانت تشكل نسبة 60 في المئة من السكان في الريف والمدن. وهي عصب الصناعة والحرفة والزراعة الوطنية. وجاء تقدير منظمة اليونيسف لعام 2000 ليؤكد أن 60 في المئة من سكان سورية دون خط الفقر. وهجر الملايين من العمال والفلاحين المنتجين في الريف الى أحزمة الفقر حول المدن السورية، أو الى لبنان للمنافسة على لقمة شعبه البائس أو الى الخارج أو العمل في المدن في الأجهزة والمهن غير المنتجة بطالة مقنعة، حتى أضحى 42 في المئة من سكان سورية يقطنون مدينتي دمشق وحلب، وأضحت الزراعة والحرفة والصناعة خراباً يباباً. وتحول المجتمع السوري الى طبقتين واضحتين: طبقة ال 5 في المئة الممتازة والأثرياء الجدد والرأسمالية من سماسرة ووكلاء الشركات والرساميل الأجنبية والبضائع الأجنبية. وهذه الطبقة التي قامت على أشلاء البورجوازية الوطنية المدمرة في القطاعين العام والخاص تسلب الملايين، وتحلب ما تستطيع من المال العام والخاص وتضخه الى الخارج، وطبقة ال 95 في المئة الباقين تضم الفقراء، بمن فيهم أصحاب الدخل المحدود الذين يعيشون ببؤس وفاقة تؤدي بالكثير منهم للرشوة والفساد والطرق غير المشروعة لكسب العيش، نتيجة غياب دولة القانون والعدالة. وحرية تشكيل الأحزاب والنقابات والمنتديات وحرية الصحافة، وغيرها من حقوق المجتمع المدني، مطالب حياتية لجميع المجتمعات البشرية تنبع من الضرورة التاريخية والارادة الحرة والاختيار الحر للجماهير. وهي من أوائل حقوق الانسان التي صانها القانون الدولي، ولا يمكن استبدالها بأحزاب مصطنعة وحريات كاذبة. أما اتهام المثقفين المتمردين بأنهم ماركسيون يحملون خطاباً ليبرالياً، وانهم طلاب وظائف الخ... والتباهي بعدد أعضاء الحزب الحاكم فالرد عليه أن الفكر لا يمكن سجنه في قوالب وأقفاص. والديموقراطية وحقوق الانسان ليست الابن الشرعي لليبرالية! واتهام المثقفين بأنهم طلاب وظائف فهذا كلام لا يستحق الرد عليه. لأن من يبغي الوظيفة لا يطالب بالحرية وحقوق الانسان بل ينتسب الى الحزب ويتملقه. أما الاعتزاز بعدد أعضاء حزب البعث فليتعظ المعتزون بالتاريخ القريب. فالحزب الشيوعي السوفياتي كان يعد 21 مليوناً، وحزب سوهارتو 10 ملايين... ماذا فعلت هذه الملايين؟ الشعب وحده بارادته الحرة هو الباقي، وهو صانع التاريخ. ومن يسلب حرياته وحقوقه يلاقي مصيراً غير مشرق. ليدن - جريس الهامس محام سوري.